Flux de pensée (Première partie)
فيض الخاطر (الجزء الأول)
Genres
فلا يمثل إلا أجياله ولا يمثل جيلنا، وهو صورة للحياة الاجتماعية التي نشأ فيها، وليس صورة لحياتنا. إن الشعر الجاهلي صورة صادقة لحياة الجاهلية في لغته وعقليته، وإبله وأطلاله، وامرأته وأرضه، وليس شيء من ذلك يمثلنا. والشعر الأموي والأدب الأموي صورة من صور الحياة الأموية في نزاعها السياسى وعواطفها، وانقسامها إلى حياة بدوية وحياة حضرية وحياة بؤس بجانب حياة ترف، وعصاة يهددهم أمثال زياد بن أبيه والحجاج الثقفي، وحياة دينية يعظ فيها الحسن البصري وأمثاله، فلا خطب الأولين تمثل حياتنا، ولا مواعظ الآخرين أخذت وقائعها من أحداثنا.
وكذلك قل في العصر العباسي وأدبه؛ لقد كان العصر العباسي لا يتحرج من ذكر أفحش الألفاظ وأفحش العبارات، فكان الأدب صورة من ذلك، وهذا لا يتفق وذوقنا؛ وكان الأدب يستمد حياته من حياة القصور ووقوف الشعراء بأبوابها يمدحون، وليست حياتنا في شيء من ذلك؛ وكان الشعراء يتغزلون في الغلمان، ونحن نستهجن هذا الضرب؛ وكانوا يتهاجون بأفحش الهجاء، ونحن لا نستسيغه؛ وكانوا ينقسمون سياسيا إلى من يؤيد البيت العباسي ومن يؤيد البيت العلوي، وقد ذهب ذلك كله.
وعلى هذا النمط يصح أن يقال في العصور التي جاءت بعد العصر العباسي إلى قبيل عصرنا.
هذا النوع من الأدب العربي القديم لا يصلح أن يمثلنا، ولا يسمى أدبا لنا بالمعنى الدقيق للكلمة.
ولست أحب أن يفهم من هذا القول أني أنكر فائدة الأدب القديم وقيمته، فإن هذا القول لا يقول به عاقل، ولكني أريد أن أقرر أن فائدته كفائدة كل أدب «كلاسيكي»، هو أدب أرستقراطي يعنى به الخاصة من أهل الأدب لا العامة، هو أدب لدراسة المتخصصين لا أدب للشعب عامة، يعنى به من يدرس تاريخ الأدب كما يعنى المؤرخون بدراسة التاريخ.
ولست أشك أن قسما منه صالح لكل زمان ومكان كالحكم والمواعظ، وما يمثل العواطف العامة المشتركة بين الناس كلهم كالسرور والحزن والوفاء والغدر؛ ولكن حتى هذا القسم إن كان عاما وصالحا للناس كلهم بحسب موضوعه، فأكثره غير صالح لأهل زماننا من حيث أسلوبه وطريقة عرضه ونحو ذلك. ومن أجل هذا يستعين الجيل الجديد على تفهمه وتذوقه بشرحه وتفسيره، وهذا الشرح والتفسير يضعف من قيمته؛ إذ فرق كبير بين أن تكون مستعدا لتذوق الشيء مباشرة من غير شرح، وأن تتذوقه بعد عناء الشرح والاستعانة بلفظ على لفظ وجملة على جملة، وقل أن يسد الشرح مسد الأصل.
والنتيجة لهذا كله أن الأدب القديم ثقافة الخاصة لا ثقافة العامة، وثقافة العدد القليل لا الجم الغفير. وليس يكفي ذلك وحده في أداء رسالة الأدب العامة، إذ هو لا يؤدي رسالته حتى يجد الناس فيه - عامتهم وخاصتهم - التعبير الفني عن مشاعرهم، والصور الفنية التي تصور عواطفهم، وميولهم وأمانيهم، وأحزانهم وأفراحهم؛ وليس يستطيع الأدب القديم أن يحقق هذا الغرض إلا إذا عرض عرضا فنيا جديدا. •••
أما الأدب الحديث العربي:
فهو كذلك لا يكفي لغذاء الجيل الجديد؛ لأنه لم يملأ حياتنا، وإن شئت فاستعرض كل شئون الحياة تجده لم يحقق رسالته؛ فإن أحببت أن تضع في يد أطفالك في سنيهم المختلفة كتبا في القصص أو في الثقافة العامة لم تجد إلا القليل الذي لا يكفي، على حين تدخل المكتبة الأوربية فيملؤك العجب والإعجاب من وفرة الكتب للأطفال على اختلاف أنواعها، ومما حليت به من الصور الجذابة، والأسلوب المشوق البديع؛ فالأوربي يحار فيما يختار لأطفاله لوفرته، ونحن نحار فيما نعطي لندرته. وإن توجهت وجهة الأناشيد والأغاني رأيت فقرنا في هذا أبين من فقرنا في سابقه؛ وهي بين عامية مبتذلة سخيفة لا تمثل حياتنا ولا تساير نهضتنا. وبين عربية قليلة ضعيفة فاترة؛ وإن التفت إلى الكتب التي تغذي الشعب والجمهور رجعت بالخيبة، وحتى كتب المتعلمين إنما تكثر إذا كانت مقررة في المدارس ليؤدي الطلبة منها امتحاناتهم، أما ما عدا ذلك فقليل ضعيف.
إنما نبتهج بالأدب الحديث يوم نرى الطفل يجد فيه غذاء صالحا متنوعا، ورجل الشارع يجد فيه ما يناسبه، وتلميذ المدرسة وخريج المدرسة يجدان الأدب وافرا حسب استعداهما، ومن يريد أن ينشد نشيدا أو يغني أغنية يجد مجال الأدب أمامه فسيحا، ومن يجد الأدب في الجد والأدب في الهزل، ويجده في دور السينما والتمثيل، ويجده في كل شيء وفي كل ظرف وفي كل أسلوب.
Page inconnue