فتوى شيخ الإسلام في حكم من بدل شرائع الإسلام
فتوى شيخ الإسلام في حكم من بدل شرائع الإسلام
فتوى شيخ الإسلام
فى حكم من بدَّل شرائع الإسلام
تأليف
شيخ الإسلام ابن تيمية
( ٦٦١ - ٧٢٨ هـ )
1
, kutub-pdf.net
2
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله نستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي ونسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد .. قال تعالى: ((وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون)) (1).
ذلك وعد الله سبحانه للمؤمنين العاملين الصالحات، الساعين إلى إعلاء كلمة الله في الأرض، الداعين لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وهو وعد آت لا ريب مهما ظهر للناس غير ذلك، ومهما شك في ذلك أو شكك المرجفون والذين في قلوبهم مرض ((إنه كان وعده مأتياً)) (2).
ومن دون ذلك الوعد ينصب الشيطان حبائله ومصايده لدعاة المسلمين قبل عامتهم، ليؤخر عنهم ذلك الوعد المضروب إلى حين يأذن الله تعالى بنفاذه المحتوم حين يخلص العمل وتصدق النية. ذلك أن انتكاس الرؤوس والتلبيس عليهم وإيقاعهم
(١) النور: ٥٥.
(٢) مريم: ٥١.
3
في هذه المصايد يوفر جهداً هائلاً على الشياطين الملبسين الحق بالباطل، ويصبح رؤوس الناس هم أجهل الناس ((فضلوا وأضلوا)).
ومصايد الشيطان هذه لها بابان عظمان :
باب الشهوات.
وباب الشبهات.
فأما باب الشهوات فيوصد بالاستعانة بكثرة العبادة والتقرب إلى الله بالنوافل، والأخذ من الحلال ليكف البصر عن الحرام.
وأما باب الشبهات فهو المنزلق الوعر، إذ يشبه فيه الشيطان على الناس - وعلى الدعاة - أمر عقائدهم ومناهج نظرهم واستنباطهم، فيتمسكون بالخطأ معتقدين صحته، فيعضل الداء ويصعب الدواء. ودواء هذه الشبهات يكون بجلائها بأمرين معاً:
أولهما : صحة العلم بالأحكام الشرعية.
وثانيهما : صحة العلم بالواقع المحيط.
فإن من لم يعلم الحكم الشرعي، ثم حكم في واقعه محققة أمامه فهو مخطئ وإن أصاب، لأنه متبع للهوى لا للدليل، قائل على الله بغير علم، ضال مضل.
كذلك فإن من تعلم الأحكام الشرعية ثم غفل عن الحقائق الواقعة - أو لم يحقق الواقعة المعروضة عليه - لم يأمن من أن يطبق حكماً آخر يسير به في طريق لا يؤدي إلى المراد، فكان أيضاً ضالاً مضلاً، لعدم اجتهاده في العلم بالواقعة، ففقد بذلك أجر المجتهد المخطئ.
وإن من تمام فقه الفقيه مراعاة حال المستفتي، وإصدار الفتوى بناء على ذلك تحقيقاً للمناط الخاص به - كما هو مقرر ومعروف في علم الأصول - وهو ما كانت عليه حال السلف في فتاويهم التي ضمَّنوها كتبهم التي بين أيدينا. ولقد أخطأ البعض
kutub-pdf.net
4
في تناول نصوص السلف هذه، فجعلوا يطبقونها دون مراعاة لمناطها ولا للواقع الذي قيلت فيه هذه الفتاوى، رغم تصريح السلف أنفسهم بأن من مبادئ الأصول العامة أن الفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال، مثل ما قرر ذلك الإمام ابن قيم الجوزية في الجزء الثالث من كتابه (أعلام الموقعين).
ومن هنا كان تناول نصوص السلف دون النظر في مناطاتها سبباً في البلبلة والخطأ العظيم، بل وفي تعارض النتائج التي وصل إليها البعض بهذا التطبيق مع القواعد الكلية المقررة في الشريعة، بل والتي أكد عليها هؤلاء السلف أصحاب نفس هذه النصوص. وهذا من جنس القول على الله بغير علم، لأن العلم كما ذكرنا علم بالحكم الشرعي وعلم بالواقع المراد تطبيق الحكم عليه.
وإننا لنظلم السلف ظلماً بيناً ونتهم عقولنا إن اعتقدنا أن النصوص التي وردت لنا عنهم تصلح للتطبيق في كل مناط وعلى كل واقع دون تمييز أو مراجعة. فإن واقع السلف هو الذي أخرج لهم هذه الفتاوى. ولو عاشوا في واقعنا لتغيرت فتاواهم لتناسب هذا الواقع الجديد. صحيح أنه إذا اتحد المناط الحالي مع المناط الذي صدرت عنه فتوى السلف وجب وتعين العمل بفتواهم في نفس الأمر، وذلك لسعة علمهم وفضلهم وتقواهم وقرب عهدهم من عهد الرسالة، رضي الله عنهم أجمعين. ولكن إن اختلف المناطان وتغير الواقع فكيف يمكن تطبيق نصوصهم في هذه الحالة. لذلك وجب تصحيح منهج النظر الأصلي إلى النصوص وتعين الرجوع إلى القواعد الكلية التي استخدمها السلف في إخراج هذه النصوص لتحكيمها مرة أخرى في الوقائع المتجددة المتغيرة.
وفي هذه الرسالة الجليلة (رسالة الجهاد) لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية الحراني (م. ٧٢٨ هـ) وهو غني عن التعريف به، كشف شبهات كثيرة طرأت على المسلمين في عصره، وهو العصر الذي صاحب سقوط الخلافة العباسية، ونكبة
kutub-pdf.net
5
سقوط بغداد في أيدي التتار عام ٦٥٦ هـ . ولتمام الفائدة نجمل القول في هذه الشبهات التي عرضت، وحقيقة الواقع الذي عاشه الإمام ابن تيمية، والذي أدى إلى اختلاط الأمر على الناس، وما تناوله شيخ الإسلام في هذه الرسالة من شرح بشكل موجز لينتبه لها القارئ في موضعها إن شاء الله تعالى.
فإن التتار بعد أن استولوا على بلاد المسلمين في العراق وغربها وأسقطوا الخلافة العباسية وعايشوا المسلمين فترة، دخلوا في الإسلام اسمًا ونطقوا الشهادتين وأدوا بعض الشعائر. ذكر ابن كثير في تاريخه في أحداث عام ٦٩٤ هـ ((وفيه ملك التتار قازان بن أرغون بن أبقا بن تولي بن جنكيز خان فأسلم وأظهر الإسلام على يد الأمير توزون رحمه الله، ودخلت التتار أو أكثرهم في الإسلام، ونثر الذهب والفضة واللؤلؤ على رؤوس الناس يوم إسلامه وتسمى بمحمود وشهد الجمعة والخطبة وخرب كنائس كثيرة وضرب عليهم الجزية ورد مظالم كثيرة ببغداد)) أهـ. (١)
واستمر التتار على هذا الأمر بعد ذلك وتسمى ملوكهم بأسماء المسلمين كملكهم ((خربندا محمد بن أوغون بن أبغا بن هولاكو)) و((أزبكخان)) الذي ذكر أخباره ابن كثير في تاريخه كذلك.
ورغم إظهار التتار بعض الشعائر ونطقهم بالشهادتين والتسمي بأسماء المسلمين فقد أعرضوا عن تحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وحكموا فيما بينهم حسب كتاب وضعه لهم ملكهم الأول جنكيز خان سماه ((اليساق)) أو ((الياسة)). وهو عبارة عن قوانين مختلفة في أحكام الدماء والأموال والأعراض حسب شرائع شتى منها الإسلام ومنها غيره. فكانوا يقدمون حكم هذا الكتاب على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وكانوا يوالون ويعادون عليه، فمن دخل في طاعتهم وشاركهم في الطاعة على هذه القوانين الوضعية كان وليًا لهم يقربونه ويعظمونه ويتخذونه وزيرًا وحاجبًا لهم وإن كان على ملة غير الإسلام سواء النصرانية أو اليهودية
(١) البداية والنهاية، جـ ١٣، صفحة ٣٤٠.
kutub-pdfnet
6
أو غيرها . ومن رفض قوانينهم من المسلمين وبقى على ولائه لحكم الله ورسوله قاتلوه وقتلوه وإن كان أعبد الناس وأعلمهم وأفقههم. وهم مع هذا مظهرين للشعائر ناطقين بالشهادتين منتسبين للإسلام.
فلما كان هذا حالهم اشتبه على عامة الناس، والمجاهدين منهم، أمرهم. ودخلتهم الشبهة في تكفيرهم ووجوب قتالهم لما يظهرون عامة من الشعائر. فكانت هذه الرسالة من شيخ الإسلام ابن تيمية التي أظهر فيها بالأدلة القاطعة والبراهين الشرعية المبنية على الكتاب والسنة، وبأقوال العلماء المعتبرين من السلف حقيقة كفرهم، وأن نطقهم بالشهادتين لا يجعلهم من المسلمين بعد أن أعرضوا عن تحكيم شرع الله وحكموا غيره بدلاً منه وقاتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس وبالعودة إلى شرع الله وحكمه من المسلمين. فإن مدلول الشهادتين لم يتحقق فيهم وإن أظهروا التكلم بهما بعد ملابستهم لحقيقة الشرك في العبادة بأن تحاكموا إلى غير شرع الله ونظامه.
ذكر ابن كثير في تاريخه ((وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر، من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه. فكان من رد الشيخ تقي الدين: إذا رأيتموني في ذلك الجانب - يقصد جانب التتار - وعلى رأسي مصحف فاقتلوني. فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد)) أهـ. (١).
وهذه الجملة المحملة التي ذكرها ابن كثير نقلاً عن ابن تيمية هي التي فصلها ابن تيمية في رسالته القيمة هذه، والتي تناول فيها أموراً شتى بالتوضيح والبيان المدعم بالدليل الشرعي.
فمنها إيضاح فضل المرابطة - وهي من جنس الجهاد - على سائر العبادات التي غايتها أن تكون من جنس الحج. والنص قد قدم الجهاد على الحج، وأن من تنكب
(١) البداية والنهاية، ١٤، صفحة، ٢٣، ٢٤.
7
عن المرابطة والجهاد رغم مقدرته عليه بزعم المجاورة أو التعبد فهو آثم بهذا الترك مهما فعل من قربات وعبادات أخرى.
ومنها بناء الفتوى على أصلين عظيمين:
العلم بالحكم الشرعي: ويستدعي العلم والفقه عامة.
تحقيق مناط الحكم: بالتعرف على واقع الأمر، ويستدعي العلم بالأحوال السائدة.
ومنها ضرورة قتال الخارجين عن الشريعة حتى لو تكلموا بالشهادتين قتال ردة لا قتال بغى، ضارباً المثل بالخوارج الذين وإن لم تكن ردتهم عن أصل الدين، إلا أنهم ارتدوا بالزيادة في أصل الدين فصاروا بذلك صنفاً ثالثاً من المرتدين الواجب قتالهم. غير المرتدين عن أصل الدين بالكلية، وغير الواجب قتالهم من أهل البغى غير المرتدين.
كما أوضح فيها أن أصح المذاهب في الخوارج هو أنهم مرتدون وإن خالفوا في نوع ردتهم ردة المرتد عن أصل الدين بالكلية، وأن هذا مذهب أهل السنة والعلم.
وأوضح رحمه الله تعالى ضرورة مراعاة الأمر الواقع والحال الذي عليه الناس لضمان صحة الحكم فيمن أن مما كانوا عليه تركهم للشعائر رغم وجود بعض من يقيمها فيهم. كذلك كانت موالاتهم ومعاداتهم على مذهب قائدهم وملكهم بغض النظر عن دين من والوه. كما كان من أحوالهم تقديم شرار رجال الدين - المعتقدين للعقائد الفاسدة - إلى الرياسة في المناصب الدينية ليوافقوهم بالفتوى. مثال ما أفتوا لهم أن دين اليهود والنصارى كدين المسلمين حق من عند الله، فوالوا وعادوا المشركين على هذا الأساس، واتخذوا منهم الوزراء والمساعدين.
كما كان من أحوالهم أنهم يحاربون المسلمين من أجل إرغامهم على الدخول في قوانينهم الوضعية وعدم الخروج عليها رغم مخالفتها للشريعة الإسلامية.
kutub-pdf.net
8
ثم تكلم الإمام عن الردة عن الشرائع بعد الدخول في الإسلام، وأن ذلك أسر من الكفر الأصلي بأصل الدين. فالمرتد حكمه القتل بينما الكافر الأصلي لا يقتل، بالعهد أو الذمة إلا في حالة الحرب.
كذلك حقق الفرق بين هؤلاء المرتدين وبين البغاة وأوضح ضلال من اعتبر هؤلاء المرتدين - بتركهم للشريعة - من فرق البغاة المتأولين، حتى ولو قاتلهم على هذا الظن.
وكذلك رد رحمه الله الشبهة التي تقوم عند البعض من أنها فتنة نحن مأمورون باجتناب الدخول فيها بالنص، وأوضح أن الفتنة التي يكبر فيها السيف ويتوقف المسلم عن الدخول فيها ويفضل العزلة هي التي تقوم بين فئتين من المسلمين إحداهما باغية على الأخرى(١). لا القتال الذي يقوم بين المسلمين والمرتدين.
وأوضح كذلك عدم جواز ترك قتال هؤلاء المرتدين بحجة وجود من يشتبه في إكراهه على الخروج معهم، ذلك لأننا مأمورون بالقتال وقتل من في صفوفهم عامة، فإن صح وجود المكره بينهم بعث على نيته يوم القيامة كما جاء في حديث ((يغزو جيش الكعبة...)).
إلى غير ذلك من الأمور الهامة التي تولى الإمام ابن تيمية الإفاضة فيها بما عهد فيه من سعة علم وصحة نظر واستناد إلى الدليل الشرعي المحكم ودقة الاستنباط الذي يخفى على الكثير وجه الحجة فيه لقلة العلم أو ضيق النظر.
وبعد، فإنه وإن ضاق المقام عن الاستفاضة في تفصيل كل مجمل حملته هذه السطور القلائل إلا أننا نتوجه إلى الله بالدعاء - ونحن نقدم هذه الرسالة إلى المسلمين العاملين في كل مكان - أن تكون بداية تصحيح للنظر، وتوحيد للوجهة، وتمسك بالصواب والحق، وأن يلهمنا الله سبحانه الصواب في الأمر والإخلاص في العمل، فهما شقي الهدى والتوفيق، والله الهادي إلى السبيل.
(١) اعتزال المسلم في هذه الحالة مشروط بعدم تبينه أي الفئتين على حق.
9
تنبيه
إتماماً للفائدة فقد قمنا بتقسيم الرسالة إلى عدة فصول يحمل كل منها عنواناً هو خلاصة ما تحته من آراء الإمام وذلك لتوجيه نظر القارىء، وتحديد المعاني في فكره.
كما قمنا بعمل الهوامش اللازمة لبيان ما قد يستغلق على الفهم أو يحتاج إلى مزيد إيضاح، ذلك دون المساس بنص الرسالة الأصلي أو جوهره.
وكان الاعتماد في تحقيق النص على النسخة المطبوعة في بيروت عن دار المعرفة للطباعة والنشر ونسخة أخرى مطبوعة ببغداد عن مكتبة المثنى. وهي في النسخة الأولى تقع في الجزء الرابع من فتاوى الإمام الكبرى صفحة ٣٣٠ إلى صفحة ٣٥٨. وفي النسخة الثانية تقع أيضاً في الجزء الرابع صفحة ٢٧٩ إلى صفحة ٣٠٢.
10
(فصل) في فضل الجهاد وما هو من جنسه
وتفضيله على التطوع بالعبادة والانقطاع
(مسألة) في الحديث وهو "حرس ليلة على ساحل البحر أفضل من عمل رجل في أهله ألف سنة". وفي سكنى مكة والبيت المقدس والمدينة المنورة على نية العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والسكنى بدمياط واسكندرية وطرابلس على نية الرباط، أيهم أفضل؟
(الجواب) الحمد لله، بل المقام في ثغور المسلمين كالثغور الشامية والمصرية أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة وما أعلم في هذا نزاعاً من أهل العلم. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، وذلك لأن الرباط من جنس الجهاد والمجاورة غايتها أن تكون من جنس الحج كما قال تعالى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله). (١)
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم جهاد في سبيله". قيل: ثم ماذا؟ قال: "ثم حج مبرور". وقد روي "غزوة في سبيل الله أفضل من سبعين حجة". وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً مات مجاهداً وأجري عليه رزقه من الجنة وأمن الفتان".
وفي السنن عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل". وهذا قاله عثمان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أنه قال لهم ذلك تبليغاً للسنة. وقال أبو هريرة :
(١) التوبة: ١٩.
11
((لأن أرابط ليلة في سبيل الله أحب إلي من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود)). وفضائل الرباط والحرس في سبيل الله كثيرة لا تسعها هذه الورقة والله أعلم ..
(مسألة) في رجل جندي وهو يريد أن لا يخدم؟
(الجواب) إذا كان للمسلمين به منفعة وهو قادر عليها لم ينبغ أن يترك ذلك لغير مصلحة راجحة على المسلمين. بل كونه مقدماً في الجهاد الذي يحبه الله ورسوله أفضل من التطوع بالعبادة كصلاة التطوع والحج التطوع والصيام التطوع والله أعلم ..
(فصل) في حكم كل من تكلم بالشهادتين وانتسب إلى الإسلام
ثم ظهر منه عدول عن بعض شرائع الإسلام
(مسألة) ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على بيان الحق المبين وكشف غمرات الجاهلين والزائغين في هؤلاء التتار الذين يقدمون إلى الشام مرة بعد مرة وقد تكلموا بالشهادتين وانتسبوا إلى الإسلام ولم يبقوا على الكفر الذي كانوا عليه في أول الأمر:
فهل يجب قتالهم أم لا؟ وما الحجة على قتالهم؟ وما مذاهب العلماء في ذلك؟
وما حكم من كان معهم ممن يفر إليهم من عسكر المسلمين الأمراء وغيرهم؟
وما حكم من قد أخرجوه معهم مكرهاً؟
وما حكم من يكون مع عسكرهم من المنتسبين إلى العلم والفقه والفقر والتصوف؟
12
- وما يقال فيمن زعم أنهم مسلمون والمقاتلون لهم مسلمون وكلاهما ظالم فلا يقاتل مع أحدهما؟
- وفي قول من زعم أنهم يقاتلون كما تقاتل البغاة المتأولون؟
- وما الواجب على جماعة المسلمين من أهل العلم والدين وأهل القتال وأهل الأموال في أمرهم؟
أفتونا في ذلك بأجوبة مبسوطة شافية، فإن أمرهم قد أشكل على كثير من المسلمين. بل على أكثرهم، تارة لعدم العلم بأحوالهم، وتارة لعدم العلم بحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في مثلهم. والله الميسر لكل خير بقدرته ورحمته إنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(الجواب) الحمد لله رب العالمين. نعم يجب قتال هؤلاء بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين.
وهذا مبني على أصلين (١): أحدهما: المعرفة بحالهم. والثاني: معرفة حكم الله في مثلهم.
فأما الأول فكل من باشر القوم يعلم حالهم، ومن لم يباشرهم يعلم ذلك ما بلغه من الأخبار المتواترة وأخبار الصادقين. ونحن نذكر جل أمورهم بعد أن نبين الأصل الآخر الذي يختص بمعرفته أهل العلم بالشريعة الإسلامية.
(١) يلاحظ هنا أن الإمام ابن تيمية رحمه الله اعتمد في إجراء حكمه على هؤلاء القوم على أصلين أساسيين: وهما النظر أولاً فيما عليه القوم من حال؛ ثم معرفة حكم الله تعالى بكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام في كل من كانت حاله مثل حالهم. أي أن شيخ الإسلام شأنه شأن كل فقيه أو قاض بل شأنه شأن كل عاقل - نظر أولاً في واقع هؤلاء القوم وفهمه فهماً جيداً ليعرف حقيقة ما هم عليه قبل أن يجري عليهم حكم الله ورسوله. وإلا فإن عدم معرفة واقع القوم أو عدم الوعي والفهم لحقيقة هذا الواقع لا تختلف بتاتاً عن عدم معرفة حكم الله ورسوله في نفس الأمر أو عدم فقه هذا الحكم ومناط تطبيقه فكلاهما يؤدي بصاحبه قطعاً إلى عدم تطبيق حكم الله ورسوله من واقع الأمر.
13
فنقول (١) : كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة ،فانه يجب قتالهم باتفاق ائمة المسلمين وان تكلمت بالشهادتين (٢).
فاذ أفروا بالشهادتين وامتنعوا عن الصلوات الخمس وجب قتالهم حتى يصلوا ، .وإن امتنعوا عن الزكاة وجب قتالهم حتى يؤدوا الزكاة ، وكذلك إن امتنعوا عن صيام شهر رمضان أو حج البيت العتيق ، وكذلك إن امتنعوا عن تحريم الفواحش أو الزنا أو الميسر أو الخمر أو غير ذلك من محرمات الشريعة ، وكذلك إن امتنعوا عن الحكم فى الدماء والأموال والأعراض والأبضاع ونحوها بحكم الكتاب والسنة ، وكذلك إن امتنعوا عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وجهاد الكفار إلى أن يسلموا ويؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وكذلك إن أظهروا البدع المخالفة للكتاب والسنة واتباع السلف من الأمة وأئمتها ، مثل أن يظهروا الإلحاد فى أسماء اللّه وآياته أو التكذيب بأسماء الله وصفاته أو التكذيب بقدره وقضائه أو التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين أو الطعن فى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان أو مقاتلة المسلمين حتى يدخلوا فى طاعتهم التى توجب الخروج عن شريعة الإسلام وأمثال هذه الأمور .
قال الله تعالى: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)) (٣). فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله. وقال تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)) (٤) . وهذه الآية نزلت فى أهل الطائف
(١) بدأ ابن يتمية هنا يعرض أحد الأصلين وهو حكم الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام. وسيعود ليعرض الأصل الآخر وهو معرفة أحوال هؤلاء القوم. كما سيأتى فى ص ٢١ إن شاء الله . (٢) وذلك مبنى على أصل هام، هو أن الألفاظ ترد لمسانيها لا لذواتها - كما ذكر ابن القيم فى أعلام الموقعين - فمن تكلم بالشهادتين ثم لم يؤد مقتضاهما من توحيد العبادة لله بالتحاكم إلى شرعه لم يكن محققاً لمعنى الشهادتين رغم نطقه بهما فكان بذلك خارجاً عن دين الإسلام .
(٣) سورة الأنفال: آية رقم ٣٩ .
( ٤) سورة البقرة : آية رقم ٢٧٨ - ٢٧٩ . - ١٤ - kutub-pdf.net ٠
14
وكانوا قد أسلموا وصلوا وصاموا لكن كانوا يتعاملون بالربا، فأنزل الله هذه الآية وأمر المؤمنين فيها بترك ما بقى من الربا وقال: ((فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله)). وقد قرىء فأذنوا وآذنوا وكلا المعنيين صحيح. والربا آخر المحرمات في القرآن، وهو مال يوجد بتراضى المتعاملين، فإذا كان من لم ينته عنه محارباً لله ورسوله فكيف بمن لم ينته عن غيره من المحرمات التي هي أسبق تحريماً وأعظم تحريماً؟
(فصل) في أن قتال هؤلاء الممتنعين عن شرائع الإسلام
ليس من باب قتل أهل البغي وإنما من باب قتال المرتدين
وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث بقتال الخوارج وهي متواترة عند أهل العلم بالحديث. قال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. وقد رواها مسلم في صحيحه، وروى البخاري منها ثلاثة أوجه: حديث علي وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف. ومن السنن والمسانيد طرق أخرى متعددة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في صفتهم: ((يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة. لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)).
وهؤلاء قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بمن معه من الصحابة واتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها لم يتنازعوا في قتالهم كما تنازعوا في القتال يوم الجمل وصفين. فإن الصحابة كانوا في قتال الفتنة ثلاثة أصناف: قوم قاتلوا مع علي رضي الله عنه، وقوم قاتلوا مع من قاتله، وقوم قعدوا عن القتال لم يقاتلوا الواحدة من الطائفتين.
وأما الخوارج فلم يكن فيهم أحد من الصحابة ولا نهى عن قتالهم أحد من الصحابة(١).
(١) يرى ابن تيمية أن القتال هنا يجب تمييزه إلى ثلاثة أقسام:
(أ) قتال البغاة المتأولين، مثل قتال الإمام علي رضي الله عنه لأهل الجمل وصفين.
kutub-pdf.net
15
وفي الصحيح عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق. وفي لفظ أدنى الطائفتين إلى الحق". فبهذا الحديث الصحيح ثبت أن علياً وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه، وأن تلك المارقة التي مرقت من الإسلام ليس حكمها حكم إحدى الطائفتين، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال هذه المارقة وأكد الأمر بقتالها، ولم يأمر بقتال إحدى الطائفتين كما أمر بقتال هذه. بل قد ثبت عنه في الصحيح من حديث أبي بكرة أنه قال الحسن: "إن ابني هذا سيد وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين". فمدح الحسن وأثنى عليه بما أصلح الله به بين الطائفتين حين ترك القتال وقد بويع له، واختار الأصلح وحقن الدماء مع نزوله على الأمر. فلو كان القتال مأموراً به لم يمدح الحسن ويثني عليه بترك ما أمر الله به وفعل ما نهى الله عنه.
والعلماء لهم في قتال من يستحق القتال من أهل القبلة طريقان: منهم من يرى قتال علي يوم حروراء (١) ويوم الجمل وصفين (٢) كله من باب قتال أهل البغي، وكذلك يجعل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة، وكذلك قتال سائر من قوتل من المنتسبين إلى القبلة (٣). كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي ومن وافقهم من أصحاب أحمد وغيرهم. وهم متفقون على أن الصحابة ليسوا فُسَّاقاً بل هم عدول، فقالوا: إن أهل البغي عدول مع قتالهم وهم مخطئون خطأ المجتهدين في الفروع .
= (ب) قتال الخوارج المارقين. وهم الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم.
(جـ) قتال المرتدين عن أصل الدين.
فلتلحظ هذه الأقسام جيداً من خلال كلام ابن تيمية في هذا الفصل والفصول اللاحقة. والقسمان الأخيران وإن اتفقا في الردة عن الإسلام إلا أن لكل منهما معاملة خاصة أثناء قتالهم، وهو ما حدا بابن تيمية إلى تصنيفهما إلى قسمين متباينين. وهذا من قبيل اختلاف المشركين عن أهل الكتاب في معاملتهم الفقهية رغم اتفاقهم في الكفر.
(١) قتال علي يوم حروراء أي قتال الخوارج.
(٢) قتال يوم الجمل وصفين أي قتال البغاة المتأولين.
(٣) وهذا الرأي سيبين ابن تيمية فساده بعد سطور.
16
وخالفت في ذلك طائفة كابن عقيل وغيره، فذهبوا إلى تفسيق أهل البغي، وهؤلاء نظروا إلى من عدوه من أهل البغي في زمنهم فرأوهم فُسَّاقاً. ولا ريب أنهم لا يدخلون الصحابة في ذلك، وإنما يفسق الصحابة بعض أهل الأهواء من المعتزلة ونحوهم، كما يكفرهم بعض أهل الأهواء من الخوارج والروافض، وليس ذلك من مذهب الأئمة والفقهاء أهل السنة والجماعة.
ولا يقولون إن أموالهم معصومة كما كانت، وما كان ثابتاً بعينه رد إلى صاحبه وما أتلف في حال القتال لم يضمن، حتى أن جمهور العلماء يقولون لا يضمن لا هؤلاء ولا هؤلاء. كما قال الزهري: «وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر».
وهل يجوز أن يستعان بسلاحهم في حربهم إذا لم يكن إلى ذلك ضرورة؟ على وجهين: في مذهب أحمد يجوز، والمنع قول الشافعي، والرخصة قول أبي حنيفة.
واختلفوا في قتل أسيرهم واتباع مُدبرهم والتذفيف على جريحهم إذا كان لهم فئة يلجئون إليها، فجوز ذلك أبو حنيفة، ومنعه الشافعي، وهو المشهور في مذهب أحمد، وفي مذهبه وجه أنه يتبع مدبرهم في أول القتال. وأما إذا لم يكن لهم فئة فلا يقتل أسير ولا يذفف على جريح كما رواه سعيد وغيره عن مروان بن الحكم قال: «خرج صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن مدبر ولا يذفف على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن».
فمن سلك هذه الطريقة (٤) فقد يتوهم أن هؤلاء التتار من أهل البغي المتأولين
(٤) يقصد من سوى بين قتال أهل البغي والخوارج ومانعي الزكاة من المنتسبين للقبلة فاعتبره كله قسماً واحداً من باب قتال أهل البغي.
ويرى بعض الفقهاء عدم اعتبار الخوارج مرتدين - ومن ثم لم يلحقوا الممتنعين عن التزام الشرائع بهم وألحقوهم بالمرتدين عن أصل الدين.
17
ويحكم فيهم مثل هذه الأحكام، كما أدخل من أدخل في هذا الحكم مانعي الزكاة والخوارج، وسنبين فساد هذا التوهم إن شاء الله تعالى ..
والطريقة الثانية (١) أن قتال مانعي الزكاة والخوارج ونحوهم ليس كقتال أهل الجمل وصفين، وهذا هو المنصوص عن جمهور الأئمة المتقدمين، وهو الذي يذكرونه في اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو مذهب أهل المدينة كمالك وغيره، ومذهب أئمة الحديث كأحمد وغيره، وقد نصوا على الفرق بين هذا وهذا في غير موضع، حتى في الأموال فإن منهم من أباح غنيمة أموال الخوارج، وقد نص أحمد في رواية أبي طالب ((في حرورية كان لهم سهم في قرية فخرجوا يقاتلون المسلمين فقتلهم المسلمون فأرضهم للمسلمين فيقسم خمسها على خمسة، وأربعة أخماسها للذين قاتلوا يقسم بينهم أو يجعل الأمير الخراج على المسلمين ولا يقسم. مثل ما أخذ عمر السواد عنوة ووقفه على المسلمين)). فجعل أحمد الأرض التي للخوارج إذا غنمت بمنزلة ما غنم من أموال الكفار.
وبالجملة فهذه الطريقة هي الصواب المقطوع به، فإن النص والإجماع فرّق بين هذا وهذا، وسيرة علي رضي الله عنه تفرق بين هذا وهذا، فإنه قاتل الخوارج بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وفرح بذلك ولم ينازعه فيه أحد من الصحابة. وأما القتال يوم صفين فقد ظهر منه من كراهته والذم عليه ما ظهر، وقال في أهل الجمل وغيرهم: ((إخواننا بغوا علينا طهرهم السيف))، وصلى على قتلى الطائفتين.
وأما الخوارج ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ستخرج قوم في آخر الزمان حداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتوهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة)).
(١) أي الطريقة الثانية في تصنيف أهل البغي والخوارج ومانعي الزكاة إلى فئات مختلفة. وأما الطريقة الأولى فقد عرضها سابقاً، أنظر صفحة ١٦،١٥.
18
وفي صحيح مسلم عن زيد بن وهب أنه كان في الجيش الذي كانوا مع علي الذين ساروا إلى الخوارج، فقال علي: أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم من أمتي يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشيء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان محمد نبيهم لنكلوا عن العمل، وآية ذلك أن فيهم رجلاً له عضد ليس له ذراع، على عضده مثل حلمة الثدي عليه شعرات بيض. قال: فيذهبون إلى معاوية وأهل الشام ويتركون هؤلاء يخلفونكم في ذراريكم وأموالكم، والله إني لأرجو أن يكونوا هؤلاء القوم، فإنهم قد سفكوا الدم الحرام وأغاروا في سرح الناس، فسيروا على اسم الله. قال: فلما التقينا وعلى الخوارج يومئذ عبد الله بن وهب رئيساً فقال لهم: ألقوا الرماح وسلوا سيوفكم من حقوتها فإني أناشدكم كما ناشدوكم يوم حروراء، فرجعوا فوحشوا برماحهم وسلوا السيوف وسحرهم الناس برماحهم. قال: وأقبل بعضهم على بعض وما أصيب من الناس يومئذ إلا رجلان. فقال علي: التمسوا فيهم المخدع، فالتمسوه فلم يجدوه، فقام على سيفه حتى أتى أناساً قد أقبل بعضهم على بعض، قال: أخروهم. فوجدوه مما يلي الأرض، فكبر ثم قال: صدق الله وبلغ رسوله. قال: فقام إليه عبيدة السلماني فقال: يا أمير المؤمنين، الله الذي لا إله إلا هو أسمعت هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو. حتى استحلفه ثلاثاً وهو يحلف له أيضاً.
فإن الأمة متفقون على ذم الخوارج وتضليلهم، وإنما تنازعوا في تكفيرهم على قولين مشهورين في مذهب مالك وأحمد، وفي مذهب الشافعي أيضاً نزاع في كفرهم، ولهذا كان فيهم وجهان في مذهب أحمد وغيره على الطريقة الأولى:
أحدهما: أنهم بغاة (١) .
(١) والقائلون بهذا الوجه قد اعتبروا أن مانعي الزكاة أيام أبي بكر الصديق شبهة سائغة فكان=
19
والثاني: أنهم كفار كالمرتدين . يجوز قتلهم ابتداء وقتل أسيرهم واتباع مدبرهم، ومن قدر عليه منهم استتيب كالمرتد فإن تاب وإلا قتل.
كما أن مذهبه في مانعي الزكاة إذا قاتلوا الإمام عليها هل يكفرون مع الإقرار بوجوبها على روايتين. وهذا كله مما يبين أن قتال الصديق لمانعي الزكاة، وقتال علي للخوارج ليس مثل القتال يوم الجمل وصفين، فكلام علي وغيره في الخوارج يقتضي أنهم ليسوا كفاراً كالمرتدين عن أصل الإسلام، وهذا هو المنصوص عن الأئمة كأحمد وغيره، وليسوا مع ذلك حكمهم كحكم أهل الجمل وصفين، بل هم نوع ثالث، وهذا أصح الأقوال الثلاثة فيهم (٢).
وممن قاتلهم الصحابة مع إقرارهم بالشهادتين والصلاة وغير ذلك مانعوا الزكاة
كما في الصحيحين عن أبي هريرة: ((أن عمر بن الخطاب قال لأبي بكر: يا خليفة رسول الله كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. فقال له أبو بكر: ألم يقل لك إلا بحقها فإن الزكاة من حقها. والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق)).
وقد اتفق الصحابة والأئمة بعدهم على قتال مانعي الزكاة وإن كانوا يصلون الخمس ويصومون شهر رمضان. وهؤلاء لم يكن لهم شبهة سائغة فلهذا كانوا مرتدين. وهم يقاتلون على منعها وإن أقروا بالوجوب، كما أمر الله. وقد حكي عنهم أنهم قالوا: إن الله أمر نبيه بأخذ الزكاة بقوله: خذ من أموالهم صدقة وقد تسقط موته. وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الذين لا ينهون عن شرب الخمر.
= قتالهم من باب قتال البغاة المتأولين لا من باب قتال المرتدين. أما أصحاب الوجه الآخر فاعتبروا أن شبهتهم غير سائغة فكانوا مرتدين. ولقد اتفق الفريقان على ردة مانعي الزكاة بعد عصر الصديق رضي الله عنه (٢) راجع هامش صفحة ١٥، ١٦.
20