La Conquête du Puissant
فتح القدير
Maison d'édition
دار ابن كثير،دار الكلم الطيب - دمشق
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤١٤ هـ
Lieu d'édition
بيروت
حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى النَّقْلِ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، وَفِي التَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ: جَمِيعًا أَقْوَى دَلَالَةً عَلَى هَذَا. وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ أَكْلِ الطِّينِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ لَنَا مَا فِي الْأَرْضِ دُونَ نَفْسِ الْأَرْضِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ فِي جُمْلَةِ الْأَرْضِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ جَامِعًا لِلْوَصْفَيْنِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ المعادن داخلة في تلك، وَكَذَلِكَ عُرُوقُ الْأَرْضِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْبَعْضِ لَهَا وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ عَمَّا عَدَاهُ.
انْتَهَى. وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ مَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ هَذَا فَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: هَلْ لِقَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعْنَى خَلَقَ لَكُمُ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا وَجْهُ صِحَّةٍ؟ قُلْتُ: إِنْ أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةَ دُونَ الْغَبْرَاءِ كَمَا تُذْكَرُ السَّمَاءُ وَيُرَادُ الْجِهَاتُ الْعُلْوِيَّةُ جَازَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْغَبْرَاءَ وَمَا فِيهَا وَاقِعَةٌ فِي الْجِهَاتِ السُّفْلِيَّةِ. انْتَهَى. وَأَمَّا التُّرَابُ فَقَدْ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ تَحْرِيمُهُ، وَهُوَ أَيْضًا ضَارٌّ فَلَيْسَ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ أَكْلًا، وَلَكِنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَنَافِعَ أُخْرَى وَلَيْسَ الْمُرَادُ مَنْفَعَةً خَاصَّةً كَمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، بَلْ كُلُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُنْتَفَعُ بِهِ بوجه من الوجوه، وجميعا مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ.
وَالِاسْتِوَاءُ فِي اللُّغَةِ: الِاعْتِدَالُ وَالِاسْتِقَامَةُ، قَالَهُ فِي الْكَشَّافِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الِارْتِفَاعِ وَالْعُلُوِّ عَلَى الشَّيْءِ، قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ «١» وقال: لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ «٢» وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ. وَقَدْ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ إِلَى الْإِيمَانِ بِهَا وَتَرْكِ التَّعَرُّضِ لِتَفْسِيرِهَا، وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ. وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: فَسَوَّاهُنَّ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِمْ:
زَيْدٌ رَجُلًا وَقِيلَ: إِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْجِنْسِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَدَلَ خَلْقَهُنَّ فَلَا اعْوِجَاجَ فِيهِ.
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى أَنَّ خَلْقَ الْأَرْضِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى خَلْقِ السَّمَاءِ. وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي فِي حم السَّجْدَةِ. وَقَالَ فِي النَّازِعَاتِ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّماءُ بَناها «٣» فَوَصَفَ خَلْقَهَا ثُمَّ قَالَ: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «٤» فَكَأَنَّ السَّمَاءَ عَلَى هَذَا خُلِقَتْ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «٥» وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ خَلْقَ جِرْمِ الْأَرْضِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى السَّمَاءِ وَدَحْوُهَا مُتَأَخِّرٌ. وَقَدْ ذَكَرَ نَحْوَ هذا جماعة من أهل العلم، وهذا جمع جَيِّدٌ لَا بُدَّ مِنَ الْمَصِيرِ إِلَيْهِ، وَلَكِنْ خَلْقُ مَا فِي الْأَرْضِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الدَّحْوِ، وَالْآيَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ مَا فِي الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي بَقَاءَ الْإِشْكَالِ وَعَدَمَ التَّخَلُّصِ عَنْهُ بِمِثْلِ هَذَا الْجَمْعِ. وَقَوْلُهُ: سَبْعَ سَماواتٍ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ السَّمَاوَاتِ سَبْعٌ، وَأَمَّا الْأَرْضُ فَلَمْ يَأْتِ فِي ذِكْرِ عَدَدِهَا إِلَّا قَوْلُهُ تعالى: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ فَقِيلَ: أَيْ فِي الْعَدَدِ، وَقِيلَ:
أَيْ فِي غِلَظِهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: إِنَّ الْأَرْضَ سَبْعٌ، وَلَكِنْ لَمْ يُفْتَقْ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا سَبْعٌ كَالسَّمَاوَاتِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيح قوله ﷺ: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» وَهُوَ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ. وَمَعْنَى قوله تعالى: فَسَوَّاهُنَّ سَوَّى سُطُوحَهُنَّ بِالْإِمْلَاسِ وَقِيلَ: جَعَلَهُنَّ سَوَاءً. قَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَدُلُّ التَّنْصِيصَ عَلَى سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. أَيْ: فَقَطْ؟ قُلْنَا: الْحَقُّ أَنَّ تَخْصِيصَ الْعَدَدِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الزَّائِدِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. انْتَهَى.
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذَكَرَهُ الْحُكَمَاءُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِ. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّهُ لَمْ يأتنا عن الله ولا عن رسوله
(١) . المؤمنون: ٢٨. (٢) . الزخرف: ١٣. (٣) . النازعات: ٢٧. (٤) . النازعات: ٣٠. (٥) . الأنعام: ١.
1 / 72