[مُقَدِّمَة الْكتاب]
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِتَبْيِينِ الْأَحْكَامِ لِلسَّائِلِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ الْقَائِلِ «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَجَمِيعِ التَّابِعِينَ، وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ الرَّاجِي شَفَاعَةَ جَدِّهِ سَيِّدِ قُرَيْشٍ مُفْتِي السَّادَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِمَحْرُوسَةِ مِصْرَ الْمُعِزِّيَّةِ مُحَمَّدُ عُلَيْشٍ - عَامَلَهُ اللَّهُ بِجَزِيلِ إكْرَامِهِ، وَأَفَاضَ عَلَيْهِ سِجَالَ فَضْلِهِ وَإِنْعَامِهِ -: إنَّ أَوْلَى مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْعَاقِلُ اللَّبِيبُ، وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ الْكَامِلُ الْأَرِيبُ التَّفَقُّهُ فِي دِينِهِ وَالِاجْتِهَادُ فِي تَوْضِيحِهِ وَتَبْيِينِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْفَتْوَى مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهَا فِي جَمِيعِ الْأَزْمَانِ، وَمِنْ أَهَمِّ مَا يُعْتَنَى وَأَجَلِّ مَا يُقْتَنَى لِنَوْعِ بَنِي الْإِنْسَانِ قَيَّدْتُ مَا وَقَعَ لِي مِنْ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ وَجَمَعْتُهَا وَرَتَّبْتُهَا عَلَى أَبْوَابِ الْفِقْهِ بَعْدَ أَنْ هَذَّبْتُهَا وَنَقَّحْتُهَا، وَسَمَّيْتُهَا ب (فَتْحِ الْعَلِيِّ الْمَالِكِ فِي الْفَتْوَى عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ) رَاجِيًا مِنْ اللَّهِ ﷾ التَّوْفِيقَ لِلصَّوَابِ، سَائِلًا مِنْهُ تَعَالَى أَنْ يُثِيبَنَا دَارَ الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ، وَأَنْ يَنْفَعَ بِهَا الطُّلَّابَ وَيَجْعَلَهَا عُمْدَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ إنَّهُ وَلِيُّ الْإِجَابَةِ وَإِلَيْهِ الْإِنَابَةُ.
[مَسَائِلُ الْعَقَائِدِ]
[الْإِيمَانُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ]
مَسَائِلُ الْعَقَائِدِ (مَا قَوْلُكُمْ) فِي مَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْإِيمَانُ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ وَلَا يُحْتَجُّ بِذَلِكَ وَأَنَّ الْقَدَرِيَّةَ يَحْتَجُّونَ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى ﵊ قَالَ لِآدَمَ ﵊ أَنْتَ الَّذِي كُنْتَ سَبَبًا فِي خُرُوجِنَا مِنْ الْجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَم ذَلِكَ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ فَسَكَتَ مُوسَى، وَقَالَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ ﵊ «حَجَّ آدَم مُوسَى» وَأَيْضًا حُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعَارِفِينَ وَعَظَ الشَّرَفَ الْمُنَاوِيَّ حَتَّى أَبْكَاهُ فَأَنْشَأَ الشَّرَفُ يَقُولُ:
يَا ذَا الَّذِي آنَسَنِي وَعْظُهُ ... أَنَسِيتَ مَا قُدِّرَ فِي الْمَاضِي
إنَّ الَّذِي سَاقَكَ لِي وَاعِظًا ... هُوَ الَّذِي صَيَّرَنِي عَاصِي
وَاَللَّهِ مَا قَصْدِي سِوَى قُرْبِهِ ... فَاخْتَارَ أَنْ يَعْكِسَ أَغْرَاضِي
وَمَا نُسِبَ لِإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ: اللَّهُمَّ لَمْ آتِ الذُّنُوبَ جُرْأَةً عَلَيْكَ وَلَا اسْتِخْفَافًا بِحَقِّكَ وَلَكِنْ جَرَى بِذَلِكَ قَلَمُكَ وَنَفَذَ بِهِ حُكْمُكَ وَالْمَعْذِرَةُ إلَيْكَ وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْحُرَيْثِيُّ: مَنْ نَظَرَ إلَى الْخَلْقِ بِعَيْنِ الشَّرِيعَةِ مَقَتَهُمْ وَمَنْ نَظَرَ لَهُمْ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ عَذَرَهُمْ، فَهَذِهِ كُلُّهَا تُوهِمُ الِاحْتِجَاجَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فَمَا الْجَوَابُ؟
1 / 5
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ مَعْنَى قَوْلِنَا لَا يُحْتَجُّ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ أَنَّهُمَا لَا يُحْتَجُّ بِهِمَا فِي رَفْعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَإِسْقَاطِ التَّكَالِيفِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْكَسْبِ الثَّابِتِ لِلْعَبْدِ وَعِنْدَنَا لِلْعَبْدِ كَسْبٌ كُلِّفَ بِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اعْتِرَافَنَا بِالْجَبْرِ بَاطِنًا وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ لِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْعَبْدِ فَمَذْهَبُنَا وَسَطٌ بَيْنَ مَذْهَبِ الْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ وَجَوَابُ آدَمَ ﵊ لَيْسَ احْتِجَاجًا لِرَفْعِ تَكْلِيفٍ وَإِنَّمَا هُوَ تَأْدِيبٌ فِي الْبَرْزَخِ لِوَلَدِهِ مُوسَى ﵊ بِأَنَّ اللَّائِقَ بِالْوَلَدِ أَنْ يَنْظُرَ لِجِهَةِ عُذْرِ وَالِدِهِ كَمَا أَفَادَ ذَلِكَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ الْأَمِيرُ فِي حَوَاشِي الْجَوْهَرَةِ وَكَلَامُ الشَّرَفِ لَيْسَ احْتِجَاجًا لِرَفْعِ تَكْلِيفٍ أَيْضًا وَإِنَّمَا هُوَ تَرَوُّحٌ.
وَكَلَامُ ابْنِ أَدْهَمَ لَيْسَ احْتِجَاجًا لِرَفْعِ تَكْلِيفٍ أَيْضًا إنَّمَا هُوَ اسْتِشْفَاعٌ وَاسْتِعْطَافٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَكَلَامُ أَبِي الْعَبَّاسِ هُوَ عَيْنُ تَقْرِيرِ الْعَقِيدَةِ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ كَسْبٌ ظَاهِرٌ بُنِيَتْ عَلَيْهِ التَّكَالِيفُ مَنْ نَظَرَ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْحُدُودِ وَالتَّعَازِيرِ وَلَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي شَيْءٍ مَا وَمَنْ نَظَرَ لَهُ بِاعْتِبَارِهِ عَذَرَهُ بَاطِنًا وَلَمْ يَحْقِدْ عَلَيْهِ قَالَ الْمُحَقِّقُ الْأَمِيرُ:
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لِلَّهِ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي نَفْيِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَخْرِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَإِنْ أَرَدْتَ شَيْئًا فَهَاتِ مِنْ عِنْدِكَ شَيْئًا وَيَسُدُّ أَبْوَابَ مُؤَاخَذَةِ النَّاسِ اهـ.
وَإِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ يُشِيرُ قَوْلُ ابْنِ عَرَبِيٍّ عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إنَّ لِلرُّبُوبِيَّةِ سِرًّا لَوْ ظَهَرَ لَبَطَلَ حُكْمُ الرُّبُوبِيَّةِ.
وَقَالَ أَيْضًا غَلَبَ عَلَيَّ شُهُودِ الْجَبْرِ الْبَاطِنِيِّ حَتَّى نَبَّهَنِي تِلْمِيذِي إسْمَاعِيلُ وَقَالَ لِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ أَمْرٌ ظَاهِرِيٌّ مَا صَحَّ كَوْنُهُ خَلِيفَةً وَلَا مُتَخَلِّقًا بِالْأَخْلَاقِ فَدَخَلَ عَلَيَّ بِكَلَامِهِ مِنْ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْمُحَقِّقُ الْأَمِيرُ عِنْدَ قَوْلِ الْجَوْهَرَةِ: وَمَيِّتٌ بِعُمُرِهِ مِنْ يُقْتَلُ، وَقَوْلُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ غَيْرِ مَدْخَلِيَّةٍ لِلْقَاتِلِ فِيهِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا تَوَلُّدًا مَا نَصُّهُ: " وَالْقِصَاصُ عِنْدَنَا نَظَرًا لِظَاهِرِ الْكَسْبِ كَقَوْلِ الْفَرْضِيِّينَ: مَنْ اسْتَعْجَلَ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَ أَوَانِهِ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ اهـ.
وَقَالَ أَيْضًا وَرُبَّمَا هَجَسَ لِبَعْضِ الْقَاصِرِينَ مِنْ أَنَّ حُجَّةَ الْعَبْدِ لِمَ تُعَذِّبْنِي وَالْكُلُّ فِعْلُكَ وَهَذِهِ فِي الْمَعْنَى حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَالْعَذَابُ فِعْلُهُ أَيْضًا وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ سُؤَالٌ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَقَدْ سُئِلَ) شَيْخُ مَشَايِخِي خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَمِيرُ عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ ﵎ وَاحِدٌ لَا مِنْ قِلَّةٍ وَمَوْجُودٌ لَا مِنْ عِلَّةٍ
(فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ) الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ الَّذِي يَحْضُرُ الْفَقِيرَ فِي شَرْحِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَتْ وَحْدَتُهُ وَانْفِرَادُهُ مِنْ أَجْلِ قِلَّةِ مَنْ يَتَّصِفُ بِالْكَمَالَاتِ وَصِفَاتِ الْمَجْدِ وَخُلُوِّ الْكَوْنِ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِي الْحَوَادِثِ وَفِي الْحَقِيقَةِ الْوَحْدَةُ بِهَذَا الْمَعْنَى نَقْصٌ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
1 / 6
لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا نَسَبُ الْمُعَلَّى ... لَمَكْرَمَةٌ وَفِي الدُّنْيَا كَرِيمُ
وَلَكِنَّ الْبِلَادَ إذَا اقْشَعَرَّتْ ... وَصَوَّحَ نَبْتُهَا رُعِيَ الْهَشِيمُ
وَأَمَّا وَحْدَةُ الْحَقِّ تَعَالَى فَذَاتِيَّةٌ بِكَمَالٍ لَا سَبِيلَ لِتَطَرُّقِ الِاشْتِرَاكِ إلَيْهِ وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ يُقَالَ مَعْنَى وَاحِدُ لَا مِنْ قِلَّةٍ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَاهِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ مُمْكِنٌ تَعَدُّدُ أَفْرَادِهَا لَكِنْ قَلَّتْ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهَا إلَّا وَاحِدٌ بَلْ هُوَ مُنَزَّهٌ عَنْ الْمَاهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ وَعَنْ الْجِنْسِ وَالْفَصْلِ وَوُجُودُهُ ذَاتِيٌّ وَوَحْدَتُهُ ذَاتِيَّةٌ لَا يُمْكِنُ فِيهَا تَطَرُّقٌ وَلَا قِلَّةٌ.
الثَّانِي أَنَّ مَعْنَى وَاحِدٌ لَا مِنْ قِلَّةِ أَنَّ وَحْدَتَهُ تَعَالَى لَيْسَتْ نَاشِئَةً عَنْ تَقْلِيلٍ بِأَنْ كَانَ لَهُ أَنْدَادٌ وَأَشْبَاهٌ وَشُرَكَاءُ فَسَطَا عَلَيْهِمْ حَتَّى أَبَادَهُمْ عَلَى عَادَةِ الْمُلُوكِ فَصَارَ وَاحِدًا مُنْفَرِدًا بِالْمُلْكِ بَلْ وَحْدَتُهُ أَزَلِيَّةٌ قَدِيمَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَيْسَتْ نَاشِئَةً عَنْ قِلَّةٍ بِمَعْنَى تَقْلِيلٍ.
الثَّالِثُ أَنَّ وَحْدَتَهُ تَعَالَى لَيْسَتْ وَحَدَاتِ الْقِلَّةِ كَمَا يَقَعُ فِي الْحَوَادِثِ بَلْ هُوَ وَاحِدٌ إلَيْهِ تَرْجِعُ جَمِيعُ الْكَثْرَاتِ وَعَلَى وَحْدَتِهِ تَدُورُ ﴿أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ [الشورى: ٥٣] فَهُوَ وَاحِدٌ ظَهَرَتْ وَحْدَتُهُ فِي جَمِيعِ الْمَظَاهِرِ فَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ [المجادلة: ٧] ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾ [فصلت: ٥٤] وَهَذَا مَعْنَى شَرِيفٌ لَا يُمْكِنُ شَرْحُهُ بِالتَّعْبِيرِ إنَّمَا يُذَاقُ بِحَسَبِ الْفَتْحِ وَالتَّجَلِّي مِنْ الْفَتَّاحِ الْخَبِيرِ، وَهُوَ مَعْنَى شُهُودِ الْوَحْدَةِ فِي الْكَثْرَةِ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْقَوْمُ بِوَحْدَةِ الْوُجُودِ، وَقَدْ سُفِكَتْ فِيهَا دِمَاءٌ كَثِيرَةٌ بِسَبَبِ الْعِبَارَاتِ الْمُوهِمَةِ وَالْمَعْنَى قَدْ يَتَعَاظَمُ عَلَى الْعِبَارَةِ فَلَا يُمْكِنُهَا الْإِحَاطَةَ بِهِ حَقَّ الْإِحَاطَةِ فَمَنْ تَكَلَّفَ فِي ذَلِكَ التَّعْبِيرَ وَقَعَ فِي أَمْرٍ خَطِيرٍ.
قَالَ الشَّاعِرُ:
وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَاكَ الْمُسَمَّى إشَارَةٌ ... وَدَعْهُ مَصُونًا بِالْجَلَالِ مُحَجَّبًا
فَحَاشَا اللَّهِ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُرِيدَ الْقَوْمُ حُلُولًا وَاتِّحَادًا كَمَا تُوهِمُهُ الْعِبَارَةُ قَالَ الْعَارِفُ ابْنُ وَفَا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَنَفَعَنَا بِهِ - حَاكِيًا عَنْ الْحَضْرَةِ:
وَعِلْمُكَ أَنَّ كُلَّ الْأَمْرِ أَمْرِي ... هُوَ الْمَعْنَى الْمُسَمَّى بِاتِّحَادِ
وَمَقَامُ الْعَامَّةِ فِي هَذَا تَصْدِيقُ الْإِيمَانِ بِأَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا اخْتَصَّ الْخَوَاصُّ بِالذَّوْقِ وَالْعِبَارَةِ وَفَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَعْرِفُ أَنَّ الْعَسَلَ حُلْوٌ وَبَيْنَ حَالِ مَنْ يَذُوقُهُ بِالْفِعْلِ وَهَذَا بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ فَلْنُمْسِكْ عَنَانَ الْقَلَمِ، قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إنَّمَا كَفَرَ مَنْ قَالَ إنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ بَعْضًا مِنْ الثَّلَاثَةِ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ فَاعِلٍ مَعَ مَا اُشْتُقَّ مِنْهُ مِنْ الْعَدَدِ فَأَوْقَعَ الْمُشَاكَلَةَ وَالْمُشَابَهَةَ وَجَعَلَهُ بَعْضًا مِنْ مُتَعَدِّدٍ بِخِلَافِ ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: ٧] فَإِنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجَعْلِ وَالتَّأْثِيرِ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ فَاعِل مَعَ مَا هُوَ دُونَهُ فَمَعْنَى رَابِعِ الثَّلَاثَةِ جَاعِلُ الثَّلَاثَةِ أَرْبَعَةً فَلْيُتَأَمَّلْ.
الرَّابِعُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِقِلَّةٍ وَلَا بِكَثْرَةٍ
1 / 7
فَإِنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] وَجَمِيعُ مَا خَطَرَ بِبَالِكَ فَاَللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ ذَلِكَ سُبْحَانَ مَنْ لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ غَيْرُهُ وَلَا يَبْلُغُ الْوَاصِفُونَ صِفَتَهُ لَكِنْ اقْتَصَرَ عَلَى نَفْيِ الْقِلَّةِ لِأَنَّ وَصْفَ الْوَحْدَةِ نَفْيُ الْكَثْرَةِ فَتَمَّمَ مَعْنَاهُ بِنَفْيِ الْقِلَّةِ أَيْضًا فَإِنَّهُ الْمُتَوَهَّمْ ثُبُوتُهُ بَعْدَ وَصْفِ الْوَحْدَةِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ وَاحِدٌ لَا يُوصَفُ بِالْكَثْرَةِ وَلَا يُوصَفُ أَيْضًا بِالْقِلَّةِ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
(وَقَدْ سُئِلَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَا نَصُّهُ) مَا قَوْلُكُمْ فِي الْفَرَاغِ الْمُتَوَهَّمِ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ لِلْهَوَاءِ وَالْأَجْسَامِ هَلْ هُوَ حَادِثٌ أَمْ أَزَلِيٌّ وَإِذَا قُلْتُمْ بِحُدُوثِهِ مَعَ أَنَّهُ أَمْرٌ عَدَمِيٌّ فَمَا حَقِيقَةُ الْحُدُوثِ إذْ عَدَمُ الْعَدَمِ فِيهِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَإِذَا قُلْتُمْ إنَّهُ أَزَلِيٌّ فَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى اعْتِقَادِ أَزَلِيَّتِهِ وَحُدُوثِهِ وَهَلْ الْمَوْلَى تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ حُلُولِهِ فِي الْفَرَاغِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ وَلَا جِسْمٍ وَهَلْ الْفَرَاغُ الَّذِي فَوْقَ الْعَرْشِ حُكْمُهُ كَالْفَرَاغِ أَفِيدُوا الْجَوَابَ؟
(فَأَجَابَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَا نَصُّهُ) الْحَمْدُ لِلَّهِ، الْفَرَاغُ عَدَمٌ مِنْ الْإِعْدَامِ فَلَيْسَ شَيْئًا مُحَقَّقًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَحَقِّقًا لَكَانَ إمَّا جَوْهَرًا فَيَحْتَاجُ لِفَرَاغٍ أَوْ عَرَضًا فَيَقُومُ بِجَوْهَرٍ يَحْتَاجُ لِفَرَاغٍ وَيَنْتَقِلُ الْكَلَامُ لِلْفَرَاغِ الثَّانِي وَهَكَذَا فَيَلْزَمُ الدَّوْرَ أَوْ التَّسَلْسُلَ أَشَارَ لِذَلِكَ السَّيِّدِ فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ وَالسَّعْدُ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ وَشُرَّاحِ هِدَايَةِ أَثِيرِ الدِّينِ الْأَبْهَرِيِّ كَالزَّيْنِ الْحُسْنَى وَالسُّدِّيِّ وَحَيْثُ إنَّهُ عَدَمٌ فَهُوَ أَزَلِيٌّ لِأَنَّ الْأَعْدَامَ كُلَّهَا أَزَلِيَّةٌ مَا خَلَا عَدَمَ الْوَاجِبِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِيلٌ لِأَنَّهُ لَا وُجُودَ فِي الْأَزَلِ إلَّا لِلْوَاجِبِ جَلَّ شَأْنُهُ وَمَا عَدَاهُ عَدَمُهُ وَاجِبٌ فِي الْأَزَلِ وَعَلَى فَرْضِ الْقَوْلِ بِحُدُوثِ الْفَرَاغِ الْمُتَوَهَّمِ فَحَقِيقَةُ حُدُوثِهِ حُدُوثُ كَوْنِهِ مُتَوَهَّمًا أَيْ حُدُوثُ تَوَهُّمِهِ وَتَخَيُّلِهِ مَكَانًا لِلْجَوَاهِرِ وَحَقِيقَةُ الْحُدُوثِ عَلَى هَذَا التَّجَدُّدُ بَعْدَ عَدَمٍ لَا الْوُجُودُ بَعْدَ عَدَمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْئًا مَوْجُودًا بَلْ أَمْرٌ اعْتِبَارِيٌّ فَقَطْ وَلَا يَتَرَتَّبُ ضَرَرٌ عَلَى اعْتِقَادِ أَزَلِيَّتِهِ وَلَا حُدُوثِهِ لَكِنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا مِنْ أَزَلِيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعَدَمِ فِي نَفْسِهِ كَمَا قَالُوا فِي أَعْدَامِنَا السَّابِقَةِ عَلَى وُجُودِنَا مِنْ أَنَّهَا أَزَلِيَّةٌ وَأَزَلِيَّةُ الْعَدَمِ هُوَ مَعْنًى كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ وَهُوَ الْمُعَبِّرُ عَنْهَا فِي لِسَانِ الْحَقَائِقِ بِحَضْرَةِ الْعَمَى وَالظُّلْمَةِ، فَمَنْ قَالَ الْفَرَاغُ أَزَلِيٌّ يُثْبِتُ شَيْئًا مُحَقَّقًا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالْأَزَلِيَّةِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَلْزَمَ مَحْذُورٌ وَإِنَّمَا هِيَ أَزَلِيَّةُ الْعَدَمِ فِي نَفْسِهِ كَمَا عَلِمْتَ وَمَنْ قَالَ حَادِثٌ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ تَوَهُّمَهُ وَتَخَلِّيَهُ أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ فَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ وَالْمَوْلَى جَلَّ شَأْنُهُ مُنَزَّهٌ عَنْ الْحُلُولِ فِي الْفَرَاغِ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْحَوَادِثِ الْمَحْصُورَةِ بِالْأَمْكِنَةِ وَالْجِهَاتِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَرَاغِ الَّذِي فَوْقَ وَغَيْرِهِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّنَا نَمْسِكُ عَمَّا لَمْ يَرِدْ بِهِ سَمْعٌ فَوْقَ الْعَرْشِ وَنُفَوِّضُ عِلْمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ كَوْنِهِ مَشْغُولًا بِشَيْءٍ أَوْ لَا وَفِي مِقْدَارِ ذَلِكَ مَعَ وُجُوبِ تَنَاهِي الْمَوْجُودَاتِ الْحَادِثَةِ وَاسْتِرْسَالِ الْفَرَاغِ فِيمَا تَخَيَّلَ فَقَطْ كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَمَّا قَوْلُ الْحُكَمَاءِ إنَّ
1 / 8
الْفَلَكَ الْأَعْظَمَ لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ لَا خَلَا وَلَا مَلَا فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَذَاهِبِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِحَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَنَحْوِهِ كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي أَمَاكِنِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
(وَسُئِلَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَا نَصُّهُ) مَا قَوْلُكُمْ فِي النُّورِ الْمُحَمَّدِيِّ هَلْ هُوَ جِسْمٌ أَوْ لَا وَإِذَا قُلْتُمْ بِجِسْمِيَّتِهِ وَقُلْتُمْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ وَلَا جِنِّيٌّ وَلَا مَلَكٌ وَلَا أَرْضٌ وَلَا سَمَاءُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَيِّزٍ يَتَحَيَّزُ فِيهِ وَلَا حَيِّزَ هُنَاكَ أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
(فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ) الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ النُّورُ الْمُحَمَّدِيُّ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ السَّابِقُ فِي الْإِيجَادِ قَبْلَ جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ لَا تُطْلَقُ عَلَيْهِ الْجِسْمِيَّةُ إذْ لَا نَعْلَمُ فِيهِ إذْنًا وَرَدَ وَلَا تَوْقِيفًا كَيْفَ وَالْجِسْمُ مَا كَانَ مِنْ مَوَادٍّ تُرَكَّبُ مِنْهَا وَهَذَا مَادَّةُ الْمَوَادِّ كُلِّهَا، وَأَصْلُ الْأُصُولِ وَأَوَّلُ الْأَوَّلِ نَعَمْ هُوَ جَوْهَرٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ وَأَمَّا الْحَيِّزُ فَهُوَ فَرَاغٌ مَوْهُومٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا تَحَقُّقَ لَهُ وَإِلَّا احْتَاجَ لِحَيِّزٍ وَدَوْرٍ أَوْ تَسَلْسُلٍ فَانْدَفَعَ التَّوَقُّفُ وَإِنَّمَا يَتِمُّ الْبَحْثُ بِقَوْلِ السَّائِلِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَيِّزٍ وَلَا حَيِّزَ هُنَاكَ لَوْ كَانَ الْحَيِّزُ أَمْرًا وُجُودِيًّا وَهُوَ خِلَافُ مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ فَعَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا إشْكَالَ، وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ.
[الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ هَلْ هِيَ أَجْسَامٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ جَوَاهِرَ وَأَعْرَاضٍ]
(وَسُئِلَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَا نَصُّهُ) مَا قَوْلُكُمْ فِي الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ هَلْ هِيَ أَجْسَامٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ جَوَاهِرَ وَأَعْرَاضٍ أَوْ لَا؟ أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
(فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ) الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ الْمَلَائِكَةُ جَوَاهِرُ نُورَانِيَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ لَا يُوصَفُونَ بِذُكُورَةٍ وَلَا أُنُوثَةٍ وَلَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَيُوصَفُونَ بِالْأَعْرَاضِ فَإِنَّ اللَّهَ ﷾ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَيَفْعُلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَيَتَنَزَّلُونَ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْرَاضِ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ قَوْلٌ وَهُوَ عَرَضٌ وَالْفِعْلَ عَرَضٌ وَحَرَكَةَ النُّزُولِ عَرَضٌ وَكَذَلِكَ الصُّعُودَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَوَرَدَ أَنَّ لَهُمْ أَجْنِحَةً وَهِيَ جَوَاهِرُ فَهُمْ مُرَكَّبُونَ مِنْ جَوَاهِرَ نُورَانِيَّةٍ وَيُوصَفُونَ بِالْأَعْرَاضِ اللَّائِقَةِ بِالصُّورَةِ النُّورَانِيَّةِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُمْ عُقُولٌ مُجَرَّدَاتٌ فَقَوْلُ الْحُكَمَاءِ وَمَنْ نَحَا نَحْوَهُمْ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَمَا قَوْلُكُمْ) فِي أَرْوَاحِ الْبَهَائِمِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِذَبْحٍ أَوْ غَيْرِهِ أَيْنَ تَسْتَقِرُّ؟
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ؛ أَرْوَاحُ الْبَهَائِمِ بَعْدَ الْمَوْتِ بِذَبْحٍ أَوْ غَيْرِهِ تَسْتَقِرُّ فِي الْبَرْزَخِ كَمَا كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ خَلْقِ الْجِسْمِ وَنَصَّ عَلَى ذَلِكَ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي كِتَابِهِ شَجَرَةِ الْيَقِينِ فِي تَخْلِيقِ نُورِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ﷺ وَنَصُّهُ: " وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَسْلِيمًا - «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الصُّورَ وَلَهُ أَرْبَعَةُ شُعَبٍ شُعْبَةٌ مِنْهَا فِي الْمَغْرِبِ وَشُعْبَةٌ مِنْهَا فِي الْمَشْرِقِ وَشُعْبَةٌ مِنْهَا تَحْتَ الْأَرْضِ وَشُعْبَةٌ مِنْهَا فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، وَفِي الصُّورِ مِنْ الثَّقْبِ
1 / 9
بِعَدَدِ الْأَرْوَاحِ وَفِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَرْوَاحُ الْمَلَائِكَةِ، وَفِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَرْوَاحُ الْجِنِّ وَفِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَرْوَاحُ الْإِنْسِ وَفِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَرْوَاحُ الشَّيَاطِينِ وَفِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا أَرْوَاحُ الْبَهَائِمِ حَتَّى السَّخْلَةُ وَالسِّقْطُ إلَى تَمَامِ سَبْعِينَ صِنْفًا وَأُعْطِيهِ إسْرَافِيلُ فَهُوَ وَاضِعُهُ عَلَى فِيهِ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَخَاتٍ نَفْخَةُ الْفَزَعِ وَنَفْخَةُ الصَّعْقَةِ وَنَفْخَةُ الْبَعْثِ» اهـ.
الْمُرَادُ مِنْهُ وَفِيهِ إجْمَالٌ يُعْلَمُ تَفْصِيلُهُ مِنْ كَلَامِ الْغَوْثِ الْأَكْبَرِ سَيِّدِي عَبْدِ الْعَزِيزِ الدَّبَّاغِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَنَفَعَنَا بِهِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ فِي الْإِبْرِيزِ، وَنَصُّهُ: وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ فِي الْبَرْزَخِ إنَّهُ عَلَى صُورَةِ مُحَلِّقٍ ضَيِّقٍ مِنْ أَسْفَلِهِ ثُمَّ مَا دَامَ يَطْلُعُ وَهُوَ يَتَّسِعُ فَلَمَّا بَلَغَ مُنْتَهَاهُ جُعِلَتْ قُبَّةٌ عَلَى رَأْسِهِ مِثْلَ قُبَّةِ الْفَنَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُمَثَّلَ بِالْمِهْرَاسِ الْكَبِيرِ مِنْ الْعُودِ فَإِنَّ أَسْفَلَهُ ضَيِّقٌ ثُمَّ جُعِلَ يَتَّسِعُ شَيْئًا فَشَيْئًا إلَى أَعْلَاهُ فَإِذَا جُعِلَتْ فَنَارًا عَلَى رَأْسِهِ كَانَ مِثْلَ الْبَرْزَخِ فِي الشَّكْلِ أَمَّا فِي الْقَدْرِ وَالْعِظَمِ فَلَا فَإِنَّ الْبَرْزَخَ أَصْلُهُ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا إلَى مَا يَلِيهَا ثُمَّ تَصَاعَدَ عَالِيًا حَتَّى خَرَقَ السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ تَصَاعَدَ حَتَّى خَرَقَ الثَّالِثَة وَهَكَذَا حَتَّى خَرَقَ السَّابِعَةَ ثُمَّ تَصَاعَدَ إلَى مَا لَا يُحْصَى وَقَدْ جُعِلَتْ عَلَيْهِ قُبَّةٌ هَذَا طُولُهُ، قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَقُلْتُ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْبَرْزَخُ مَبْدَؤُهُ مِنْ الْأُولَى إلَى مَا لَا يُحْصَى فَهُوَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ فَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّمَا اقْتَصَرُوا عَلَى مَا فَوْقَ السَّابِعَةِ لِأَنَّ فِيهِ الْقُبَّةَ الْمَذْكُورَةَ وَهِيَ أَشْرَفُ أَجْزَائِهِ إذْ لَيْسَ فِيهَا إلَّا رُوحُ سَيِّدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ - عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى السَّلَامِ - وَمَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَرَامَتِهِ كَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ وَبَنَاتِهِ وَذُرِّيَّتِهِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ وَكُلُّ مَنْ عَمِلَ بِالْحَقِّ بَعْدَهُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَفِيهَا أَزْوَاجُ الشُّهَدَاءِ الَّذِينَ مَاتُوا بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ ﷺ فِي زَمَانِهِ وَبَذَلُوا نُفُوسَهُمْ لِيَحْيَا وَيَبْقَى وَلَهُمْ قُوَّةٌ وَجَهْدٌ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِهِمْ إثَابَةً لَهُمْ عَلَى حُسْنِ صَنِيعِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
وَفِي الْقُبَّةِ أَيْضًا أَرْوَاحُ وَرَثَتِهِ الْكَامِلِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْغَوْثِ وَالْأَقْطَابِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - وَيَشْهَدُ لَهُ مَا فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ فِي كُلِّ سَمَاءٍ بَيْتًا مَعْمُورًا فَانْظُرْهُ فِي شَرْحِ الْإِسْرَاءِ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي بَعْضِ نُسَخِهِ دُونَ الْبَعْضِ.
وَأَمَّا عَرْضُ الْبَرْزَخِ فَحَسْبُكَ أَنَّ الشَّمْسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ لَا تَدُورُ إلَّا بِهِ عَلَى هَيْئَةِ الطَّائِفِ فَتَقْطَعُهُ فِي كُلِّ عَامٍ وَكُلُّهُ ثُقَبٌ وَفِي هَذِهِ الثُّقَبِ الْأَرْوَاحُ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَالْقُبَّةُ الَّتِي فِيهَا رُوحُ النَّبِيِّ ﷺ وَأَرْوَاحُ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَرَامَتِهِ انْقَسَمَتْ إلَى سَبْعَةِ أَقْسَامٍ بِعَدَدِ أَقْسَامِ الْجَنَّةِ كُلُّ قِسْمٍ مِنْهَا يُشْبِهُ جَنَّةً مِنْ الْجَنَّاتِ السَّبْعِ ثُمَّ قَالَ وَهَذِهِ الثُّقَبُ كَانَتْ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ مَعْمُورَةً بِالْأَرْوَاحِ فَلَمَّا أُهْبِطَتْ رُوحُ آدَمَ
1 / 10
﵊ بَقِيَ مَوْضِعُهَا خَاوِيًا وَهَكَذَا كُلَّمَا أُهْبِطَتْ رُوحٌ بَقِيَتْ ثُقْبَتُهَا خَالِيَةً فَإِذَا رَجَعَتْ الرُّوحُ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَى الْبَرْزَخِ فَلَا تَرْجِعُ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ بَلْ تَسْتَحِقُّ مَوْضِعًا غَيْرَهُ ثُمَّ قَالَ أَرْوَاحُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا ثَوَابَ لَهَا وَلَا عِقَابَ عَلَيْهَا مِنْهَا مَا يَكُونُ فِي جَهَنَّمَ عَذَابًا عَلَى أَهْلِهَا وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ نِعْمَةً لِأَهْلِهَا فَأَرْوَاحُ الْكِلَابِ وَالسِّبَاعِ وَالذُّبَابِ وَمَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ فِي جَهَنَّمَ إنْ كَانَتْ مَعَ الْكَفَرَةِ فِي الدُّنْيَا وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَانَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْعِيدِ الْأَكْبَرِ أَنَّهُ يَنْزِلُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَلَائِكَةٌ لِقَبْضِ أَرْوَاحِ الضَّحَايَا فَتَرَى عَلَى كُلِّ بَلْدَةٍ أَوْ مَدِينَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ يَذْبَحُ فِيهِ الْعَبْدُ مَلَائِكَةً كِرَامًا يَحُومُونَ لَا يَنْزِلُونَ إلَى الْأَرْضِ إلَّا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَإِذَا ذُبِحَتْ الضَّحِيَّةُ أَخَذُوا رُوحَهَا وَذَهَبُوا بِهَا إمَّا إلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إلَى النَّارِ فَإِنْ كَانَتْ نِيَّةُ صَاحِبِهَا صَالِحَةً فِي ذَبْحِهَا وَلَمْ يُرِدْ بِهَا إلَّا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَلَمْ يُرِدْ رِيَاءً وَلَا فَخْرًا وَلَا كِبْرًا وَلَا خُيَلَاءَ أَخَذُوا رُوحَ ضَحِيَّتِهِ وَذَهَبُوا بِهَا إلَى قَصْرِهِ فِي الْجَنَّةِ فَتَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ الْمُعَدَّةِ لَهُ فِي الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّةُ صَاحِبِهَا عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَتْ نِيَّتُهُ فَاسِدَةً وَعَمَلُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ ﷿ أَخَذُوا رُوحَ ضَحِيَّتِهِ وَذَهَبُوا بِهَا إلَى جَهَنَّمَ وَتَصِيرُ نِقْمَةً مِنْ النِّقَمِ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهُ فِي جَهَنَّمَ وَإِذَا نَظَرْت إلَى تِلْكَ الرُّوحِ رَأَيْتَ كَبْشًا بِذَاتِهِ وَصُورَتِهِ الْمَعْلُومَةِ بِقُرُونِهِ وَصُوفِهِ وَالْكُلُّ نَارٌ حَامِيَةٌ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى السَّلَامَةَ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَمِيرُ بِمَا نَصُّهُ) مَا قَوْلُكُمْ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْأَسْمَاءِ وَالْمُسَمَّيَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَهَلْ يُقْرَأُ بِالْأَسْمَاءِ أَوْ بِالْمُسَمَّيَاتِ أَوْ يُقْرَأُ بَعْضُهُ بِالْأَسْمَاءِ وَبَعْضُهُ الْآخَرُ بِالْمُسَمَّيَاتِ؟ أَفِيدُوا الْجَوَابَ
(فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ): " لَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ مُجْمَلٌ غَيْرُ مُفْصِحٍ عَنْ الْمُرَادِ فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ إنْ أُرِيدَ بِهَا هَذَا اللَّفْظُ أَعْنِي لَفْظَ الْأَسْمَاءِ فَقَدْ وَقَعَتْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ لِكُلِّ مَوْضِعٍ مَعْنًى يُنَاسِبُهُ فَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف: ١٨٠] كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَلِيِّ وَصِفَاتِهِ السَّنِيَّةِ وَمُسَمَّيَاتِهَا مَا ذُكِرَ، وَفِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا﴾ [النجم: ٢٣] مَعْنَاهَا أَسْمَاءُ الْأَصْنَامِ كَاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاتَ وَمُسَمَّيَاتِهَا مَا ذُكِرَ، وَفِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: ٣١] كُلُّ لَفْظٍ دَلَّ عَلَى مَعْنًى مُفْرَدًا كَانَ أَوْ مُرَكَّبًا مِنْ أَيِّ لُغَةٍ كَانَ.
وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ قَوْلَ السَّائِلِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَلْ يُقْرَأُ بِالْأَسْمَاءِ أَوْ بِالْمُسَمَّيَاتِ أَوْ بَعْضُهُ بِالْأَسْمَاءِ وَالْآخَرُ بِالْمُسَمَّيَاتِ وَاَلَّذِي يُنَاسِبُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ لِي بَعْضُ الْأَفَاضِلِ أَنَّهُ أَرَادَ أَسْمَاءَ حُرُوفِ الْهِجَاءِ وَمُسَمَّيَاتِهَا كَالْوَاقِعِ أَوَائِلَ السُّوَرِ نَحْوَ أَلَمْ وَغَيْرِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِرَاءَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي أَلْفَاظٍ مُجْتَمِعَةٍ مِنْ الْقُرْءِ وَهُوَ الْجَمْعُ وَكَذَلِكَ التِّلَاوَةُ لِأَنَّهَا كَوْنُ الشَّيْءِ تَالِيًا لِآخَرَ أَيْ تَابِعًا لَهُ فَأَلْفَاظُ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوَّةُ الْمَقْرُوءَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُسَمَّيَاتِ حُرُوفِ
1 / 11
الْهِجَاءِ وَهِيَ حُرُوفُ الْمَبَانِي الَّتِي تُبْنَى مِنْهَا الْكَلِمَاتُ أَيْ تُرَكَّبُ ثُمَّ تِلْكَ الْأَلْفَاظُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ الْمُسَمَّيَاتِ قَدْ تَكُونُ أَسْمَاءً لِتِلْكَ الْمُسَمَّيَاتِ كَمَا فِي الْكَلِمَاتِ الْمُفْتَتَحِ بِهَا أَوَائِلُ السُّوَرِ فَإِنَّ نُونًا مَثَلًا اسْمُ نُونٍ وَصَادًا اسْمُ صَادٍ، وَلِذَلِكَ تُرْسَمُ بِالْمُسَمَّيَاتِ وَتُقْرَأُ بِالْأَسْمَاءِ.
وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ تُقْرَأُ الْمُسَمَّيَاتُ نَفْسُهَا كَمَا يَقَعُ فِي بَاءِ الْجَرِّ وَوَاوِ الْعَطْفِ فَإِنَّهُ يُعْطَفُ بِنَفْسِ حَرْفِ الْمَعْنَى لَا بِاسْمِهِ فَإِنْ أَرَادَ السَّائِلُ هَذَا الْمَعْنَى فَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا، وَإِنْ أَرَادَ شَيْئًا آخَرَ فَلْيُفْصِحْ عَنْهُ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ أَيْضًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَا نَصُّهُ) مَا قَوْلُكُمْ فِي قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيمُ بِذَاتِهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ وَأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَعْدَادَ الْمَسْرُودَةَ وَالنِّعَمَ الْأُخْرَوِيَّةَ وَعَذَابَ الْكُفَّارِ الدَّائِمَ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ لَا نِهَايَةَ لَهَا.
فَإِنْ قُلْتُمْ يَعْلَمُهَا تَفْصِيلًا لَزِمَ أَنَّهَا مُتَنَاهِيَةٌ وَالْفَرْضُ أَنَّهَا لَا نِهَايَةَ لَهَا وَإِنْ قُلْتُمْ يَعْلَمُهَا إجْمَالًا لَزِمَ الْجَهْلُ بِتَفْصِيلِهَا وَهُوَ عَلَيْهِ تَعَالَى مُحَالٌ وَإِنْ قُلْتُمْ إنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا نِهَايَةَ لَهَا لَزِمَ الْجَهْلُ بِمَا يَحْدُثُ مِنْهَا وَهُوَ عَلَيْهِ تَعَالَى مُحَالٌ اكْشِفُوا لَنَا اللِّثَامَ عَنْ هَذَا الْمَرَامِ.
فَأَجَابَ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا؛ تَوَقُّفُ الْعِلْمِ التَّفْصِيلِيِّ عَلَى التَّنَاهِي إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الْعِلْمِ الْحَادِثِ فَقَطْ لِضِيقِ دَائِرَتِهِ وَقِصَرِ تَعَلُّقِهِ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ الْقَدِيمُ فَتَعَلُّقُهُ عَامٌّ لَا يَتَنَاهَى فَيَتَعَلَّقُ تَفْصِيلًا بِمَا لَا يَتَنَاهَى، فَإِنْ قِيلَ مَا كَيْفِيَّةُ الْعِلْمِ الَّذِي تَعَلُّقُهُ لَا يَتَنَاهَى؟ فَجَوَابُهُ الْبَحْثُ عَنْ كَيْفِيَّةِ عِلْمِهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ وَلَا تَسَعُهُ الْعُقُولُ بَلْ نَقُولُ يَعْلَمُ بِلَا كَيْفٍ كَمَا نَقُولُ مَوْجُودٌ بِلَا كَيْفٍ وَمَنْ يُؤْمِنُ بِمَوْجُودٍ بِلَا مَكَان وَلَا زَمَانٍ وَلَا أَوَّلٍ وَلَا آخِرٍ لَا يَسْتَبْعِدُ مِنْهُ عِلْمًا تَفْصِيلِيًّا بِمَا لَا يَتَنَاهَى سُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
[عَذَاب الْقَبْر]
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي اعْتِقَادِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي الْقَبْرِ بِالنَّارِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ رَأَوْا النَّارَ عِيَانًا فِي الْقَبْرِ فَهَلْ مَا يَزْعُمُونَهُ صَحِيحٌ؟ أَفِيدُوا الْجَوَابَ
فَأُجِيبَ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، نَعَمْ اعْتِقَادُهُمْ صَحِيحٌ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾ [غافر: ٤٦] وَالْأَحَادِيثُ بَلَغَتْ جُمْلَتُهَا التَّوَاتُرَ وَلَا يَمْتَنِعُ عَقْلًا ذَلِكَ وَكُلُّ مَا لَمْ يَمْتَنِعْ عَقْلًا وَوَرَدَ بِوُقُوعِهِ الشَّرْعُ وَجَبَ قَبُولُهُ وَاعْتِقَادُهُ وَمَا يَزْعُمُونَهُ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ نَادِرٌ جِدًّا فَفِي مُخْتَصَرِ تَذْكِرَةِ الْقُرْطُبِيِّ لِلشَّعْرَانِيِّ قَالَ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَلَجْلَجُ فِي مَسْأَلَتِهِ إذَا كَانَتْ عَقِيدَتُهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى مُخْتَلِفَةً فَلَا يَقْدِرُ عَلَى النُّطْقِ بِقَوْلِهِ اللَّهُ رَبِّي وَيَأْخُذُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَلْفَاظِ فَيَضْرِبَانِهِ ضَرْبَةً يَشْتَعِلُ عَلَيْهِ بِهَا قَبْرُهُ نَارًا ثُمَّ تُطْفَأُ عَنْهُ أَيَّامًا ثُمَّ تُشْعَلُ أَيَّامًا هَذَا دَأْبُهُ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ النُّطْقُ بِقَوْلِهِ وَالْإِسْلَامُ
1 / 12
دِينِي لِشَكٍّ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ فِتْنَةٍ حَصَلَتْ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَضْرِبَانِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً وَيَشْتَعِلُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ نَارًا كَالْأَوَّلِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ النُّطْقُ بِقَوْلِهِ وَالْقُرْآنُ إمَامِي لِأَنَّهُ كَانَ يَتْلُوهُ وَلَا يَتَّعِظُ بِهِ وَلَا يَأْتَمِرُ بِأَوَامِرِهِ وَلَا يَنْتَهِي بِنَوَاهِيهِ فَيُفْعَلُ بِهِ مَا يُفْعَلُ بِالْأَوَّلَيْنِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَمَلُهُ جَرْوًا يُعَذَّبُ بِهِ فِي قَبْرِهِ عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَمَلُهُ خِنْزِيرًا أَيْ جَرْوَ خِنْزِيرٍ كَمَا وَرَدَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ الْكَعْبَةُ قِبْلَتِي لِقِلَّةِ تَحَرِّيهِ فِي الِاجْتِهَادِ فِيهَا لِلصَّلَاةِ أَوْ فَسَادٍ فِي وُضُوئِهِ أَوْ الْتِفَاتٍ فِي صَلَاتِهِ أَوْ نَقْصٍ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ النُّطْقُ بِقَوْلِهِ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ أَبِي لِأَنَّهُ سَمِعَ مِنْ بَعْضِ الْكُفَّارِ أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَتَوَهَّمَ ذَلِكَ وَنَسِيَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: ٦٧] فَيَفْعَلُ بِهِ مَا فَعَلَ بِالْأَوَّلِينَ مِنْ ضَرْبِهِ ضَرْبَةً يَشْتَعِلُ بِهَا قَبْرُهُ عَلَيْهِ نَارًا، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ لَهُ لَا دَرَيْتَ وَلَا عَرَفْتَ ثُمَّ يَضْرِبَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَامِعِ حَتَّى يَتَخَلْخَلَ فِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ ثُمَّ تَنْفُضُهُ الْأَرْضُ فِي قَبْرِهِ ثُمَّ يَضْرِبَانِهِ سَبْعَ مَرَّاتٍ قَالَ:
وَيَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي السُّؤَالِ فَمِنْهُمْ مَنْ يُسْأَلُ عَنْ بَعْضِ الْأُمُورِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُسْأَلُ عَنْ بَعْضٍ آخَرَ كَمَا تَخْتَلِفُ الْأَحْوَالُ عَلَى النَّاسِ فِي الْعَذَابِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَمَلُهُ كَلْبًا يَنْهَشُهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَهُمْ الْخَوَارِجُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَحِيلُ عَمَلُهُ خِنْزِيرًا يُعَذَّبُ بِهِ وَهُمْ الْمُرْتَابُونَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِمَا كَانَ يَخَافُهُ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَانَ يَخَافُ مِنْ الْجَرْوِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَخَافُ مِنْ الْأَسَدِ وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ لَنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ قَالَ وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الْإِخْوَانُ أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ وَنَعِيمَهُ حَقٌّ كَمَا صَحَّتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْخُذُ بِأَبْصَارِ الْخَلَائِقِ وَأَسْمَاعِهِمْ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنْ رُؤْيَةِ عَذَابِهِ وَنَعِيمِهِ لِحِكْمَةٍ إلَهِيَّةٍ وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَهُوَ مُلْحِدٌ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ أَحْوَالَ أَهْلِ الْمَقَابِرِ عَلَى خِلَافِ أَحْوَالِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَوْلَا خَبَرُ الصَّادِقِ الْمُصَدَّقِ عَلَى ذَلِكَ مَا عَرَفْنَا شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْقُبُورِ وَلَا عَرَفْنَا الْمُنَعَّمَ وَالْمُعَذَّبَ، ثُمَّ قَالَ وَرَوَى الْحَافِظُ الْوَائِلِيُّ ﵀ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ «بَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ بِجَبَّانَاتِ بَدْرٍ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْأَرْضِ فِي عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ يَمْسِكُ طَرَفَهَا أَسْوَدُ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ اسْقِنِي فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ لَا أَدْرِي أَعَرِفَ اسْمِي أَوْ كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِأَخِيهِ يَا عَبْدَ اللَّهِ فَقَالَ لِي الْأَسْوَدُ لَا تَسْقِهِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ ثُمَّ اجْتَذَبَهُ فَدَخَلَ الْأَرْضَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْته فَقَالَ أَوَقَدْ رَأَيْته ذَاكَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ ابْنُ هِشَامٍ وَهُوَ عَذَابُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» ثُمَّ قَالَ وَكَانَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ يَقُولُ لَا يَسْمَعُ
1 / 13
عَذَابَ الْمَوْتَى إلَّا مَنْ اتَّصَفَ بِكِتْمَانِ الْأَسْرَارِ كَالْبَهَائِمِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَالَمِ التَّعْبِيرِ عَمَّا تَرَى أَمَّا مَنْ يُخْبِرُ النَّاسَ بِمَا رَأَى فَلَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَمَا كَتَمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ إلَّا لِحِكْمَةٍ إلَهِيَّةٍ كَمَا أَشَارَ الْحَدِيثُ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ «إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ» .
وَذَلِكَ لِغَلَبَةِ الْخَوْفِ عِنْدَ سَمَاعِ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمَنْ يُطِيقُ سَمَاعَ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْقَبْرِ مِنْ أَمْثَالِنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ مَعَ ضَعْفِنَا وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ مَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ سَمَاعِ الرَّعْدِ الْقَاصِفِ وَالزَّلَازِلِ الْهَائِلَةِ وَهِيَ دُونَ صَيْحَةِ الْمَلَكِ عَلَى الْمَيِّتِ بِيَقِينٍ.
وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ سَمِعَ أَحَدُكُمْ ضَرْبَةَ الْمَلَكِ لِلْمَيِّتِ بِمَفَاتِيحَ مِنْ حَدِيدٍ لَمَاتَ» نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ انْتَهَى.
[التَّفْضِيلِ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ]
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ فَهَلْ يُحْكَمُ بِأَفْضَلِيَّةِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَوْ لَا؟ أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ أَفْضَلِ خَلْقِ اللَّهِ؛ الْأَسْلَمُ عَدَمُ الْخَوْضِ فِي مِثْلِ هَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ الْخَوْضُ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ خُلُوُّ الذِّهْنِ عَنْهُ وَإِنْ خَاضَ فِيهِ الْمُتَأَخِّرُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ تَمَسُّكًا بِمَا يُرْوَى مِنْ قَوْلِهِ ﷺ «كُلُّ حَرْفٍ خَيْرٌ مِنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ» وَرَدَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مُحَقَّقِ الثُّبُوتِ كَمَا فِي الْكُرْدِيِّ عَلَى الْبُرْدَةِ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِ الْبُوصِيرِيِّ فِي الْبُرْدَةِ:
لَوْ نَاسَبَتْ قَدْرَهُ آيَاتُهُ عِظَمًا ... أَحْيَا اسْمُهُ حِينَ يُدْعَى دَارِسَ الرِّمَمِ
قَالَ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ مَا حَاصِلُهُ أَنَّ آيَاتِ النَّبِيِّ ﷺ دُونَ مَقَامِهِ فِي الْعِظَمِ وَإِنْ كَانَ مِنْهَا الْقُرْآنُ وَقَدْ قَالَ فِيهِ الْمُصَنِّفُ يَعْنِي صَاحِبَ الْبُرْدَةِ
آيَاتُ حَقٍّ مِنْ الرَّحْمَنِ مُحْدَثَةٌ
وَقَالَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ
وَأَنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللَّهِ كُلِّهِمْ
قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَمِيرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا فِعْلُ الْقَارِئِ وَهُوَ ﷺ أَفْضَلُ مِنْ الْقَارِئِ وَجَمِيعِ أَفْعَالِهِ، وَالْأَسْلَمُ الْوَقْفُ عَنْ مِثْلِ هَذَا الَّذِي لَمْ يُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ الْخَوْضُ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ خُلُوُّ الذِّهْنِ عَنْهُ بِخُصُوصِهِ اهـ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَسُئِلَ) عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَمَّنْ يَذْكُرُ بِصِيغَةِ اللَّهِ اللَّهَ مُقْتَصِرًا عَلَى ذَلِكَ هَلْ هُوَ مِثْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ أَمْ لَا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُ فَهَلْ هُوَ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ السَّلَفِ أَمْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ هَذِهِ بِدْعَةٌ لَمْ تُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ السَّلَفِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهَا الْجَهَلَةُ وَالذِّكْرُ الْمَشْرُوعُ كُلُّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً أَوْ اسْمِيَّةً وَهُوَ
1 / 14
مَأْخُوذٌ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأَذْكَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي اتِّبَاعِ الرَّسُولِ ﷺ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ دُونَ الْأَغْبِيَاءِ الْجَاهِلِينَ نَقَلَهُ الْحَطَّابُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
(وَسُئِلَ) الْبُلْقِينِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ يَذْكُرُونَ وَفِي الْأَثْنَاءِ يَقُولُونَ مُحَمَّدٌ مُحَمَّدٌ وَيُكَرِّرُونَ الِاسْمَ الشَّرِيفَ وَفِي آخِرِهِ يَقُولُونَ مُحَمَّدٌ مُكَرَّمٌ مُعَظَّمٌ فَهَلْ ذَلِكَ ذِكْرٌ يُؤْجَرُونَ عَلَيْهِ وَهَلْ فِيهِ إسَاءَةُ أَدَبٍ وَهَلْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ؟
(فَأَجَابَ بِقَوْلِهِ) لَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ آيَةٌ وَلَا خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا أَثَرٌ عَنْ الصَّحَابَةِ وَلَا عَنْ التَّابِعِينَ وَلَا عَنْ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُمْ وَلَا ذَلِكَ مِنْ الْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ وَلَا يُؤْجَرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُبْتَدِعُونَ شَيْئًا قَدْ يَقَعُونَ فِي إسَاءَةِ الْأَدَبِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مُحَمَّدٌ مُمَجَّدٌ مُعَظَّمٌ فَهَذَا لَيْسَ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ إخْبَارٌ بِالْوَاقِعِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ مَا يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَطْلُوبًا وَالْقِيَاسُ عَلَى مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ [النور: ٦٣] وقَوْله تَعَالَى ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ [الحجرات: ٢] وَمَا طَلَبَهُ مِنْ الْأَدَبِ مِنْهُمْ فِي حَقِّ النَّبِيِّ ﷺ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ اهـ.
قَالَ الْحَطَّابُ قَوْلُهُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ مُحَمَّدٌ مُمَجَّدٌ مُكَرَّمٌ مُعَظَّمٌ يَعْنِي مِنْ غَيْرِ تَكْرِيرِ الِاسْمِ الشَّرِيفِ وَمَا قَالَهُ ظَاهِرٌ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ الْعَامَّةِ صَلُّوا عَلَى مُحَمَّدٍ اهـ.
[تَفْضِيل الْقُرْآن عَلَى التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ]
(وَسُئِلَ) الْحَافِظُ الْإِمَامُ أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ الْمُفَضَّلِ الْمَقْدِسِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ قَوْمٍ تَجَادَلُوا وَقَالُوا إنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ وَالْكُلُّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى؟
(فَأَجَابَ) بِأَنْ قَالَ أَمَّا الْكَلَامُ الْقَدِيمُ فَوَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ وَإِنَّمَا التَّعَدُّدُ فِي الْعِبَارَاتِ عَنْهُ وَلَا خَفَاءَ أَنَّ الْعِبَارَةَ عَنْ الْحُكْمِ الرَّافِعِ تَتَّصِفُ بِالْأَفْضَلِيَّةِ عَلَى الْعِبَارَةِ عَنْ الْحُكْمِ الْمَرْفُوعِ قَدْ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ بِتَفْضِيلِ بَعْضِ الْآيِ مِنْ الْقُرْآنِ عَلَى بَعْضٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّ آيَاتِ الصِّفَاتِ أَعْظَمُ مِنْ آيَاتِ الْأَحْكَامِ وَالْقَصَصِ كَمَا قَالَ ﵊ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ حِينَ قَالَ أَيُّمَا آيَةٍ أَعْظَمُ فِي الْقُرْآنِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ وَوَرَدَ فِي ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١] أَنَّهَا ثُلُثُ الْقُرْآنِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الثَّوَابُ الَّذِي يُعْطِيه اللَّهُ عَلَى بَعْضِ الْآيِ أَكْثَرَ فَهِيَ ثُلُثٌ فِي الْفَضِيلَةِ عَلَى أَنَّ الْكُتُبَ الْمَنْسُوخَةَ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِيهَا فَكَيْفَ لَا يَكُونُ مَا تَجِبُ تِلَاوَةٌ وَيُثَابُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْهَا وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ اهـ مِنْ الْمِعْيَارِ.
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي قَوْلِ أَهْلِ الْعِلْمِ مَسَافَةُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ هَلْ ذَلِكَ عَنْ نَصٍّ صَرِيحٍ وَإِذَا قُلْتُمْ نَعَمْ فَهَلْ الْمَرْئِيُّ لَنَا حَقِيقَةُ تِلْكَ السَّمَاءِ مَعَ بُعْدِ تِلْكَ الْمَسَافَةِ أَمْ شَيْءٌ آخَرُ وَهَلْ سَمَاءُ الدُّنْيَا مِنْ أَيِّ نَوْعٍ وَعَلَى أَيِّ لَوْنٍ؟ أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
1 / 15
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي حَلَّى أَهْلَ السُّنَّةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِتَوْحِيدِهِ وَشَرَّفَهُمْ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ بِتَصْدِيقِ أَشْرَفِ عَبِيدِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ أَشْرَفِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَقَوْلُ أَهْلِ الْعِلْمِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - مَسَافَةُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَرَدَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ قَالَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيّ فِي الْهَيْئَةِ السَّنِيَّةِ أَخْرَجَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْبَزَّارُ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» ثُمَّ قَالَ وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي السُّنَّةِ وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ «كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ أَتَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ»
ثُمَّ قَالَ وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ وَعُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مُصَرَّحَةً بِمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَعَجَّلَ لِمَنْ شَكَّ فِيمَا قَالُوهُ أَوْ كَذَّبَ بِهِ خِزْيَ الدُّنْيَا وَشَدَّدَ عَلَيْهِ عَذَابَ الْآخِرَةِ بِعَدْلِهِ، وَالْمَرْئِيُّ لَنَا حَقِيقَةُ تِلْكَ السَّمَاءِ وَلَيْسَ بَعْدَ الْعِيَانِ بَيَانٌ ﴿فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦] بَلْ نَرَى حَقِيقَةَ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ سَمَاءِ الدُّنْيَا بِأَضْعَافٍ كَزُحَلٍ فَإِنَّهُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَسُمْكُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءَيْنِ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ كَمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ فِي الْهَيْئَةِ السَّنِيَّةِ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بُرَّةَ قَالَ لَيْسَتْ السَّمَاءُ مُرَبَّعَةً وَلَكِنَّهَا مَقْبُوَّةٌ يَرَاهَا النَّاسُ خَضْرَاءَ انْتَهَى فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُصَرَّحٌ بِأَنَّ الْمَرْئِيَّ لَنَا حَقِيقَةُ تِلْكَ السَّمَاءِ وَالنَّوْعُ الَّذِي خُلِقَتْ مِنْهُ السَّمَاءُ الدُّنْيَا الدُّخَانُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْقُرْآنُ وَصَرَّحَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ فِي الْهَيْئَةِ السَّنِيَّةِ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا غَيْرَ مَا خَلَقَ قَبْلَ الْمَاءِ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَخْرَجَ مِنْ الْمَاءِ دُخَانًا فَارْتَفَعَ فَوْقَ الْمَاءِ فَسَمَا عَلَيْهِ فَسَمَّاهُ سَمَاءً ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ وَذَلِكَ الدُّخَانُ مِنْ تَنَفُّسِ الْمَاءِ حِينَ تَنَفَّسَ فَجَعَلَهَا سَمَاءً وَاحِدَةً ثُمَّ فَتَقَهَا فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ انْتَهَى بِاخْتِصَارٍ.
ثُمَّ قَالَ وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ السَّمَاءُ قَالَ هَذِهِ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ عَنْكُمْ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهْوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ
1 / 16
وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ السَّمَاءُ الدُّنْيَا مَوْجٌ مَكْفُوفٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنْ السَّمَاءِ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هِيَ فَكَتَبَ إلَيْهِ إنَّ السَّمَاءَ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ حَبَّةَ الْعَوْنِيِّ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا يَحْلِفُ وَاَلَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ مِنْ دُخَانٍ وَمَاءٍ انْتَهَى وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا لَوْنُهَا فَهُوَ الْبَيَاضُ قَالَ الْحَافِظُ السُّيُوطِيّ فِي الْهَيْئَةِ السَّنِيَّةِ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ كَعْبٍ قَالَ السَّمَاءُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرَضِينَ بَلَغَنَا أَنَّ تِلْكَ الصَّخْرَةَ مِنْهَا خُضْرَةُ السَّمَاءِ انْتَهَى.
فَهَذِهِ أَحَادِيثُ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ ﷺ فَمَنْ شَكَّ فِيهَا أَوْ كَذَّبَهَا فَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ سَابٌّ يُقْتَلُ، وَلَوْ تَابَ. وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَكَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ وَيَجُوزُ حَرْقُهُ حَيًّا وَمَيِّتًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[وَقْت ظهور المهدي]
(وَسُئِلَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَمِيرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِمَا نَصُّهُ) مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَظْهَرُ الْمَهْدِيُّ وَمَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ مَرَّ بِمَقْبَرَةٍ فَسَمِعَ صَرِيخَ مَيِّتٍ هَلْ يُصَدَّقُ أَمْ لَا وَمَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ وَجَدَ شَيْئًا يُضِيءُ فِي مِيضَأَةِ جَامِعٍ فَأَخَذَهُ وَرَبَطَهُ بِكُمِّهِ ثُمَّ فَتَحَ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ كَالْقَمْحَةِ فَوَضَعَهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ فَذَابَ أَجِيبُوا لَنَا عَلَى إيضَاحِ هَذِهِ الْأُمُورِ.
(فَأَجَابَهُ بِمَا نَصُّهُ) الْحَمْدُ لِلَّهِ لَمْ يَصِحَّ فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْمَهْدِيِّ خَبَرٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَسَمَاعُ صَرِيخٍ بَعْضِ الْأَمْوَاتِ عَلَى خَرْقِ الْعَادَةِ أَمْرٌ مُمْكِنٌ لَا يَلْزَمُنَا تَصْدِيقُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ وَكَذَلِكَ مَا وَجَدَهُ الرَّجُلُ فِي الْمِيضَأَةِ شَيْءٌ لَا يَعْنِينَا وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمٌ وَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِفْتَاءِ فِي هَذَا، وَاَللَّهُ اعْلَمْ.
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي الرِّيحِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هَلْ يَتَجَسَّمُ أَوْ لَا وَمِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ وَمَا الْحِكْمَةُ فِي أَنَّ الْآدَمِيَّ إذَا غَرِقَ فِي الْبَحْرِ يَمُوتُ وَالْبَحْرِيُّ إذَا خَرَجَ إلَى الْبَرِّ مَاتَ أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
فَأَجَابَ شَيْخُنَا أَبُو يَحْيَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ؛ الرِّيحُ الْمُسَخَّرُ جِسْمٌ مَحْسُوسٌ يُسَيِّرُ السُّفُنَ وَيَهْدِمُ الْبُنْيَانَ وَيَقْلَعُ الْأَشْجَارَ لَكِنَّهُ لِلَطَافَتِهِ لَا يُدْرِكُهُ الْبَصَرُ وَيُرْسِلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مَتَى شَاءَ ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا﴾ [الروم: ٤٨] وَأَصْلُهُ الْهَوَاءُ الَّذِي مَلَأ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَعِنْدَ الْحُكَمَاءِ لَهُ أَسْبَابٌ ذَكَرَهَا صَاحِبُ الْهِدَايَةِ مِنْهَا ثِقَلُ السَّحَابِ وَمِنْهَا تَزَاحُمُ السَّحَابِ فَيَدْفَعُ الْكَثِيفَ الرَّقِيقَ وَمِنْهَا زِيَادَةُ مِقْدَارِهِ فَيَدْفَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَمِنْهَا تَكَاثُفُهُ وَمِنْهَا بَرْدُ الدُّخَانِ الْمُتَصَعِّدِ إلَى الطَّبَقَةِ الزَّمْهَرِيرِيَّة وَنُزُولُهُ وَالْآدَمِيُّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمُتَنَفِّسَةِ فَدَوَامُ حَيَاتِهِ بِانْتِشَاقِ الْهَوَاءِ فَإِذَا غَرِقَ فِي الْمَاءِ عُدِمَ الْهَوَاءُ الَّذِي بِهِ دَوَامُ حَيَاتِهِ فَمَاتَ وَالسَّمَكُ غَيْرُ مُتَنَفِّسٍ فَإِذَا خَرَجَ إلَى الْبَرِّ تَكَاثَرَ عَلَيْهِ الْهَوَاءُ الْمُضَادُّ لِطَبْعِهِ فَمَاتَ، وَاَللَّهُ اعْلَمْ.
1 / 17
مَا قَوْلُكُمْ) فِيمَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ أَنَّ وَاضِعَ عِلْمِ التَّوْحِيدِ الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ لَا وَهَلْ الْإِمَامُ الْمَذْكُورُ مَالِكِيٌّ أَوْ شَافِعِيٌّ أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
فَأَجَبْت بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ؛ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ بَلْ وَاضِعُهُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ آيَاتٍ كَثِيرَةً مُبَيِّنَةً لِلْعَقَائِدِ وَبَرَاهِينِهَا وَمِمَّنْ دَوَّنَ فِيهِ قَبْلَ الْإِمَامِ الْأَشْعَرِيِّ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ الْعَلَّامَةُ الْيُوسِيُّ فِي قَانُونِهِ وَأَمَّا وَاضِعُهُ أَيْ عِلْمِ الْكَلَامِ فَقِيلَ هُوَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَوَّنَ هَذَا الْعِلْمَ وَهَذَّبَ مَطَالِبَهُ وَنَقَّحَ مَشَارِبَهُ فَهُوَ إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ مُدَافِعٍ وَلَكِنْ عَدُّهُ وَاضِعًا غَيْرُ بَيِّنٍ فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَهُ وَكَانَتْ لَهُ عُلَمَاءُ يَخُوضُونَ فِيهِ كَالْقَلَانِسِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ وَكَانُوا قَبْلَ الشَّيْخِ يُسَمَّوْنَ بِالْمُثْبِتَةِ لِإِثْبَاتِهِمْ مَا نَفَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَيْضًا عِلْمُ الْكَلَامِ كَمَا مَرَّ صَادِقٌ بِقَوْلِ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ وَالشَّيْخُ كَانَ يَدْرُسُهُ عَلَى أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ وَقِصَّتُهُ مَعْلُومَةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ وَاضِعًا وَالْأَوْلَى أَنَّهُ عِلْمٌ قُرْآنِيٌّ لِأَنَّهُ مَبْسُوطٌ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى بِذِكْرِ الْعَقَائِدِ، وَذِكْرِ النُّبُوَّاتِ وَذِكْرِ السَّمْعِيَّاتِ وَذَلِكَ مَجْمُوعُهُ مَعَ ذِكْرِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ تَعَالَى مِنْ حُدُوثِ الْعَالَمِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِخَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالنُّفُوسِ وَغَيْرِهَا وَالْإِشَارَةُ إلَى مَذَاهِبِ الْمُبْطِلِينَ كَالْمُثَلَّثَةِ وَالْمَثْنِيَّةِ والطبائعيين وَإِنْكَارُ هَذَا عَلَيْهِمْ.
وَالْجَوَابُ عَنْ شُبَهِ الْمُبْطِلِينَ الْمُنْكِرِينَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إمْكَانًا أَوْ وُجُودًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ [الأنبياء: ١٠٤] وقَوْله تَعَالَى ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ [يس: ٧٩] وقَوْله تَعَالَى ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا﴾ [يس: ٨٠] وَذَكَرَ حُجَجَ إبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إقْرَارًا لَهَا، وَحِكَمَ لُقْمَانَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ وَتَكَلَّمَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ كَإِبْطَالِهِ اعْتِقَادَ الْأَعْرَابِ فِي الْأَنْوَاءِ وَفِي الْعَدْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا وَهَذَا إذَا اُعْتُبِرَ الْكَلَامُ مَعْزُولًا عَنْ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ وَأَمَّا إنْ اعْتَبَرُوا الْعِلْمَ الْإِلَهِيَّ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَأْخُوذُ فِي الْمِلَّةِ بَعْدَ تَنْقِيحِهِ بِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ وَتَصْحِيحٍ الصَّحِيحِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ وَضْعَهُ قَدِيمٌ انْتَهَى كَلَامُ الْيُوسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ قَالَ يَعْنِي الْيُوسِيَّ وَاشْتَهَرَ أَنَّهُ وَاضِعُ هَذَا الْفَنِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ تَكَلَّمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فِيهِ وَابْنُهُ وَأَلَّفَ مَالِكٌ رِسَالَةً قَبْلَ أَنْ يُولَدَ الْأَشْعَرِيُّ نَعَمْ هُوَ اعْتَنَى بِهِ كَثِيرًا وَكَانَ يَعْنِي الْأَشْعَرِيَّ مَالِكِيًّا وَكَذَا نَقَلَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ عَنْ عِيَاضٍ وَنَقَلَ عَنْ السُّبْكِيّ أَنَّهُ شَافِعِيٌّ انْتَهَى فَفِي كَوْنِهِ مَالِكِيًّا أَوْ شَافِعِيًّا خِلَافٌ وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ قَالَ الْغُنَيْمِيُّ عَلَى شَرْحِ السُّنُوسِيُّ عَلَى الصُّغْرَى مَوْلِدُ الْأَشْعَرِيِّ سَنَةَ سَبْعِينَ وَقِيلَ سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ بِبَغْدَادَ وَدُفِنَ بَيْنَ الْكَرْخِ وَالْبَصْرَةِ انْتَهَى.
1 / 18
[حياة الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ فِي قُبُورِهِمْ]
مَا قَوْلُكُمْ) فِي الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالشُّهَدَاءِ هَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ وَيَنْكِحُونَ عَلَى كَيْفِيَّةِ مَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَهَلْ الْأَوْلِيَاءُ كَذَلِكَ؟ أَفِيدُوا الْجَوَابَ.
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ نَعَمْ؛ هُمْ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ لَكِنْ لَا عَلَى كَيْفِيَّةِ مَا كَانَ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا بَلْ عَلَى كَيْفِيَّةٍ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْنَا الْكَفُّ عَنْ الْخَوْضِ فِيهَا إذْ لَا طَرِيقَ لِلْعِلْمِ بِهَا إلَّا الْحَدِيثَ وَلَمْ يَرِدْ فِيهَا حَدِيثٌ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَالْأَوْلِيَاءُ كَذَلِكَ قَالَ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ السَّلَامِ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِ جَوْهَرَةِ وَالِدِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَصَفَ شَهِيدَ الْحَرْبِ بِالْحَيَاةِ أَيْ اعْتَقَدَ وُجُوبَ اتِّصَافِ هَيْكَلِ شَهِيدِ الْحَرْبِ بِالْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ [آل عمران: ١٦٩] وَأَنَّ حَيَاتَهُمْ حَقِيقِيَّةٌ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَنَّهُمْ يُرْزَقُونَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كَمَا تُرْزَقُ الْأَحْيَاءُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِهَا
قَالَ الْجُزُولِيُّ وَحَيَاتُهُمْ غَيْرُ مُكَيَّفَةٍ وَلَا مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ لَكِنْ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْ الْخَوْضِ فِي كَيْفِيَّتِهَا إذْ لَا طَرِيقَ لِلْعِلْمِ بِهَا إلَّا مِنْ الْخَبَرِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهَا شَيْءٌ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ، وَالْحَيَاةُ كَيْفِيَّةٌ يَلْزَمُهَا الْحِسُّ وَالْحَرَكَةُ الْإِرَادِيَّةُ أَوْ تُصَحِّحُ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْعِلْمَ وَقَوْلُنَا اتِّصَافُ هَيْكَلٍ عَلَى ظَاهِرِ الْمَتْنِ مِنْ اتِّصَافِ الذَّاتِ وَالرُّوحِ جَمِيعًا وَالْمُرَادُ بِشَهِيدِ الْحَرْبِ الْمُؤْمِنُ الْمَقْتُولُ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ الْقَتْلِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ مُفَارَقَةِ سَبَبٍ مُؤْثِمٍ وَمِثْلُهُ كُلُّ مَقْتُولٍ عَلَى الْحَقِّ كَالْمَجْرُوحِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَإِقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأَمَّا الْمَقْتُولُ فِي حَرْبِ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكِنْ مَعَ مُقَارَفَةِ سَبَبٍ مُؤْثِمٍ كَمَنْ غَلَّ فِي الْغَنِيمَةِ فَلَهُ حُكْمُ شَهِيدِ الدُّنْيَا لَا ثَوَابُهُمْ الْكَامِلُ وَأَمَّا الْمَبْطُونُ وَالْمَطْعُونُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ فَقَطْ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَالْأَوَّلِ فِي الثَّوَابِ لَكِنَّهُ دُونَهُ فِي الْحَيَاةِ وَالرِّزْقِ وَأَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّ الشَّهِيدَ ثَلَاثَةٌ شَهِيدُ دُنْيَا وَآخِرَةٍ وَشَهِيدُ دُنْيَا فَقَطْ وَشَهِيدُ آخِرَةٍ فَقَطْ وَهَذَا الثَّالِثُ خَرَجَ بِقَوْلِ النَّاظِمِ: وَصْفُ شَهِيدِ الْحَرْبِ بَعْدَ شُمُولِهِ الْأَوَّلِينَ وَإِرَادَةُ الْغَنِيمَةِ أَوْ الْوُقُوعُ فِي الْمَعْصِيَةِ لَا يُنَافِي حُصُولَ الشَّهَادَةِ وَسُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّهُ حَيٌّ وَرُوحُهُ شَهِدَتْ دَارَ السَّلَامِ أَيْ دَخَلَتْ بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَشْهَدُهَا إلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَمَلَائِكَتَهُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ انْتَهَى.
قَالَ مِحَشَّيْهِ الْعَلَّامَةُ الْأَمِيرُ قَوْلُهُ هَيْكَلٍ هُوَ الشَّخْصُ الْمُرَكَّبُ مِنْ الرُّوحِ وَالْجِسْمِ كَمَا سَيَقُولُ الشَّارِحُ قَوْلُهُ الْكَامِلَةُ مَعْنَى كَمَالِهَا: تَعَلُّقُهَا بِكُلٍّ مِنْ الرُّوحِ
1 / 19
وَالْجَسَدِ عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا سَيَقُولُ قَوْلُهُ وَاللِّبَاسُ عَلَى وَجْهٍ مُغَيَّبٍ يَعْلَمُهُ الْمَوْلَى ﵎ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَقَامُ مَقَامُ تَسْلِيمٍ وَتَفْوِيضٍ، قَوْلُهُ " وَمِثْلُهُ كُلُّ مَقْتُولٍ. . . إلَخْ " شَيْخُنَا ظَاهِرُ النُّصُوصِ قَصْرُهُ عَلَى مُقَاتِلِ الْحَرْبَيْنِ قَوْلُهُ شُمُولُهُ لِلْأَوَّلَيْنِ يُنَافِي مَا سَبَقَ مِنْ قَصْرِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَالْمُوَافِقُ لِلنُّصُوصِ مَا سَبَقَ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الْإِبْرِيزِ فِي أَجْزَاءِ الرِّسَالَةِ السَّابِعُ أَنْ يَحْيَا حَيَاةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ ذَاتِ الرَّسُولِ تُسْقَى بِمَا تُسْقَى بِهِ ذَوَاتُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ إيَّاهَا بِذَوَاتِهِمْ بِمَثَابَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا لِأَنَّ الدَّارَ دَارَانِ: دَارُ الْفَنَاءِ وَفِيهَا قِسْمَانِ مَا هُوَ نُورَانِيٌّ وَمَا هُوَ ظَلْمَانِيٌّ، وَدَارُ الْبَقَاءِ فِيهَا قِسْمَانِ مَا هُوَ نُورَانِيٌّ وَهُوَ الْجَنَّةُ وَمَا هُوَ ظَلْمَانِيٌّ وَهُوَ النَّارُ وَإِذَا زَالَ الْحِجَابُ أُمَدَّ كُلُّ قِسْمٍ مِنْ دَارِ الْبَقَاءِ مَا يُوَافِقُهُ مِنْ دَارِ الْفَنَاءِ فَيَمُدُّ النُّورَانِيُّ النُّورَانِيَّ، وَالظَّلْمَانِيُّ الظَّلْمَانِيَّ ثُمَّ زَوَالُ الْحِجَابِ مُخْتَلِفٌ فَفِي حَقِّ الرُّسُلِ سَابِقٌ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَهُمْ فَوْقَ كُلِّ نُورَانِيٍّ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَوَقَعَ لِذَوَاتِهِمْ الِاسْتِمْدَادُ مِنْ نُورَانِيِّ دَارِ الْبَقَاءِ الَّذِي هُوَ الْجَنَّةُ، وَأَمَّا غَالِبُ الْخَلْقِ فَإِنَّ زَوَالَ الْحِجَابِ إنَّمَا يَكُونُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقَعُ لَهُمْ الِاسْتِمْدَادُ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ اسْتَمَدَّ مِنْ أَنْوَارِ الْجَنَّةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطُّغْيَانِ اسْتَمَدَّ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ - أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا - وَبِالْجُمْلَةِ فَالِاسْتِمْدَادُ مَوْقُوفٌ عَلَى زَوَالِ الْحِجَابِ وَقَدْ زَالَ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَكَانُوا أَحْيَاءً كَحَيَاةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اهـ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَمَا بَالُك بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَانْتِقَالِهِمْ لِلرَّفِيقِ الْأَعْلَى قَالَ فِي الْإِبْرِيزِ: وَلَمَّا مَاتَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كُنْت أَتَكَلَّفُ فِي زِيَارَةِ قَبْرِهِ فَوَقَفَ عَلَيَّ مَنَامًا فَقَالَ لِي إنَّ ذَاتِي لَيْسَتْ بِمَحْجُوبَةٍ فِي الْقَبْرِ بَلْ هِيَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ عَامِرَةٌ لَهُ وَمَالِئَةٌ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ تَطْلُبُنِي تَجِدُنِي حَتَّى إنَّكَ إذَا قُمْتَ إلَى سَارِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّلْتَ بِي إلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَكُونُ مَعَكَ حِينَئِذٍ ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ فَقَالَ وَأَنَا فِيهِ بِأَجْمَعِهِ فَحَيْثُمَا طَلَبْتَنِي وَجَدْتنِي وَإِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنِّي أَنَا رَبُّكَ فَإِنَّ رَبَّكَ ﷿ غَيْرُ مَحْصُورٍ فِي الْعَالَمِ وَأَنَا مَحْصُورٌ فِيهِ انْتَهَى.
قَالَ فِي الْإِبْرِيزِ قَالَ وَيَحْضُرُهُ يَعْنِي الدِّيوَانَ بَعْضُ الْكُمَّلِ مِنْ الْأَمْوَاتِ وَيَكُونُونَ فِي الصُّفُوفِ مَعَ الْأَحْيَاءِ وَيَتَمَيَّزُونَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ زِيَّهُمْ لَا يَتَبَدَّلُ بِخِلَافِ زِيِّ الْحَيِّ وَهَيْئَتِهِ فَمَرَّةً يَحْلِقُ شَعْرَهُ وَمَرَّةً يُجَدِّدُ ثَوْبَهُ وَهَكَذَا وَأَمَّا الْمَوْتَى فَلَا تُبَدَّلُ حَالَتُهُمْ فَإِذَا رَأَيْتَ فِي الدِّيوَانِ رَجُلًا عَلَى زِيٍّ لَا يَتَبَدَّلُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ مِنْ الْمَوْتَى كَأَنْ تَرَاهُ مَحْلُوقَ الشَّعْرِ وَلَا يَنْبُتُ لَهُ شَعْرٌ فَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مَاتَ وَإِنْ رَأَيْتَ الشَّعْرَ عَلَى رَأْسِهِ عَلَى حَالَةٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَلَا يُحْلَقُ فَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّهُ مَيِّتٌ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ثَانِيهَا أَنَّهُ لَا تَقَعُ مَعَهُمْ مُشَاوَرَةٌ فِي أُمُورِ الْأَحْيَاءِ لِأَنَّهُ لَا تَصَرُّفَ لَهُمْ فِيهَا وَقَدْ انْتَقَلُوا إلَى عَالَمٍ آخَرَ فِي غَايَةِ الْمُبَايَنَةِ لِعَالَمِ الْأَحْيَاءِ وَإِنَّمَا تَقَعُ مَعَهُمْ الْمُشَاوَرَةُ فِي أُمُورِ عَالَمِ الْأَمْوَاتِ.
ثَالِثُهَا: أَنَّ ذَاتَ الْمَيِّتِ لَا ظِلَّ لَهَا فَإِذَا وَقَفَ الْمَيِّتُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الشَّمْسِ فَإِنَّكَ لَا تَرَى
1 / 20
لَهُ ظِلًّا وَسِرُّهُ أَنَّهُ يَحْضُرُ بِذَاتِ رُوحِهِ لَا بِذَاتِهِ التُّرَابِيَّةِ وَذَاتُ الرُّوحِ خَفِيفَةٌ لَا ثَقِيلَةٌ وَشَفَّافَةٌ لَا كَثِيفَةٌ قَالَ وَالْأَمْوَاتُ الْحَاضِرُونَ فِي الدِّيوَانِ يَنْزِلُونَ إلَيْهِ مِنْ الْبَرْزَخِ يَطِيرُونَ بِطَيَرَانِ الرُّوحِ فَإِذَا قَرُبُوا مِنْ مَوْضِعِ الدِّيوَانِ نَزَلُوا إلَى الْأَرْض وَمَشَوْا عَلَى أَرْجُلِهِمْ إلَى أَنْ يَصِلُوا إلَى الدِّيوَانِ تَأَدُّبًا مَعَ الْأَحْيَاءِ وَخَوْفًا مِنْهُمْ.
قَالَ وَفِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَحْضُرُهُ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يَحْضُرُهُ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَالْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَيَحْضُرُهُ فِيهَا سَيِّدُ الْوُجُودِ ﷺ وَأَزْوَاجُهُ الطَّاهِرَاتُ وَأَكَابِرُ أَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -.
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ السَّلَامِ فِي هِدَايَةِ الْمُرِيدِ: قَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ تَعَالَى جُمْلَةً أَجْزَاءَ الشَّهِيدِ وَيُحْيِيهَا فَتَنْعَمُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَيَاةُ لِلرُّوحِ لَا لِلْجَسَدِ وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْعَارِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الْجُزُولِيُّ: إنَّ حَيَاةَ الشُّهَدَاءِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُكَيَّفَةٍ وَلَا مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْ الْخَوْضِ فِي كَيْفِيَّتِهَا إذْ لَا طَرِيقَ لِلْعِلْمِ بِهَا إلَّا مِنْ الْخَبَرِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهَا شَيْءٌ يُبَيِّنُ الْمُرَادَ اهـ.
وَنَحْوُهُ قَوْلُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا فِي حَوَاشِي الْبَيْضَاوِيِّ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ حَيَاةَ الشُّهَدَاءِ لَيْسَتْ بِالْجَسَدِ.
وَقَالَ ابْنُ عَادِلٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنَّ حَيَاتَهُمْ بِالْجَسَدِ وَإِنْ لَمْ نُشَاهِدْ الْجَسَدَ حَيًّا، فَإِنَّ حَيَاةَ الرُّوحِ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِ الْأَمْوَاتِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَوْ لَمْ تَكُنْ حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ إلَّا بِهَا لَاسْتَوَوْا هُمْ وَغَيْرُهُمْ انْتَهَى.
قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: وَالنَّفْسُ أَمْيَلُ إلَى مَا قَالَهُ الْجُزُولِيُّ ثُمَّ قَالَ الْخَامِسُ: قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ نَبِيَّنَا ﷺ حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَأَنَّهُ يُسَرُّ بِطَاعَاتِ أُمَّتِهِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَبْلُونَ مَعَ أَنَّا نَعْتَقِدُ ثُبُوتَ الْإِدْرَاكَاتِ كَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ لِسَائِرِ الْمَوْتَى وَنَقْطَعُ بِعَوْدِ حَيَاةِ كُلِّ مَيِّتٍ فِي قَبْرِهِ وَبِنَعِيمِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ وَهُمَا مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ لَكِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبِنْيَةِ وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْحَيَاةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ فَمُقْتَضَاهَا أَنَّهَا مَعَ الْبِنْيَةِ وَقُوَّةِ النُّفُوذِ فِي الْعَالَمِ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْعَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
وَمِنْ هُنَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - النَّبِيُّ ﷺ فِي حُكْمِ الرِّسَالَةِ الْآنَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ أَصْلِ الشَّيْءِ فَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ الْآنَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَدُلُّ عَلَى مَا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ النِّكَاحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي السَّمَوَاتِ هَلْ هِيَ دَائِرَةٌ بِالْأَرْضِ أَمْ لَا؟
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ؛ الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَسَبَقَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا مَقْبُوَّةٌ عَلَى الْأَرْضِ وَلَيْسَتْ دَائِرَةً بِهَا وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
1 / 21
مَا قَوْلُكُمْ) فِي السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ هَلْ يَدْخُلُونَهَا قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ أَوْ كَيْفَ الْحَالُ؟
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ يَدْخُلُونَهَا بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ السَّلَامِ وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ هُوَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُبْعَثُ وَأَوَّلُ وَارِدِ الْمَحْشَرِ كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ دَاخِلِ الْجَنَّةِ اهـ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَمِيرُ قَوْلُهُ نَبِيُّنَا وَرَدَ ثُمَّ نُوحٌ وَوَرَدَ أَيْضًا ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ وَيُجْمَعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ، قَوْلُهُ " أَوَّلُ دَاخِلِ الْجَنَّةِ " حَكَى لَنَا شَيْخُنَا اتَّفَقَ أَنَّ بَعْضَ الْأَوْلِيَاءِ قَالَ أَنَا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَبْلَ النَّبِيِّ ﷺ فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ فَأَجَابَ بِأَنِّي مِنْ أَتْبَاعِهِ الَّذِينَ يَمْشُونَ فِي خِدْمَتِهِ أَمَامَهُ كَالسُّعَاةِ فَقَوْلُهُمْ " أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ النَّبِيُّ ﷺ " مَعْنَاهُ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ اسْتِقْلَالًا وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْأَدَبَ شَيْءٌ آخَرُ إلَّا لِغَرَضٍ حَسَنٍ.
وَفِي أَوَائِلِ مَشَارِقِ الْأَنْوَارِ الْقُدْسِيَّةِ فِي بَيَانِ الْعُهُودِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لِلْعَارِفِ الشَّعْرَانِيِّ أَوَاخِرُ عَهْدِ دَوَامِ الْوُضُوءِ مَا نَصُّهُ: " رَوَى ابْنُ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ يَا بِلَالُ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ إنِّي دَخَلْت الْبَارِحَةَ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إلَّا تَوَضَّأْتُ عِنْدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِهَذَا» وَمَعْنَى خَشْخَشَتْكَ أَمَامِي أَيْ رَأَيْتُك مُطْرِقًا بَيْنَ يَدِي كَالْمُطْرِقِينَ بَيْنَ يَدِي مُلُوكِ الدُّنْيَا قَالَهُ الشَّيْخُ مُحْيِي الدِّينِ فِي الْفُتُوحَاتِ الْمَكِّيَّةِ انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ الصَّفْتِيُّ فِي نُزْهَةِ الْأَرْوَاحِ فِي بَعْضِ أَوْصَافِ الْجَنَّةِ دَارِ الْأَفْرَاحِ الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَوَّلِ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَفِي سَبْقِ الْفُقَرَاءِ لِدُخُولِهَا قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ وَفِيمَنْ يَدْخُلُهَا بِلَا حِسَابٍ: اعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ الْمُصْطَفَى ﷺ لِحَدِيثِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «آتِي بَابَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَسْتَفْتِحُ فَيَقُولُ الْخَازِنُ مَنْ أَنْتَ فَأَقُولُ مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ بِك أُمِرْتُ أَنْ لَا أَفْتَحَ لِأَحَدٍ قَبْلَكَ» .
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقْدَمُ بَابَ الْجَنَّةِ» .
فَإِنْ قُلْتُ هَذَا يُنَافِيه عِدَّةُ أُمُورٍ الْأَوَّلُ أَنَّهُ وَرَدَ أَنَّ السَّبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْحِسَابِ فَهُمْ أَوَّلُ دَاخِلِ الْجَنَّةِ الثَّانِي أَنَّهُ وَرَدَ كَمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِبِلَالٍ بِمَ سَبَقْتنِي إلَى الْجَنَّةِ فَمَا دَخَلْتُ الْجَنَّةَ إلَّا سَمِعْتُ خَشْخَشَتَكَ أَمَامِي، فَقَالَ بِلَالٌ: مَا أَذَّنْتُ قَطُّ إلَّا صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ وَمَا أَصَابَنِي حَدَثٌ قَطُّ إلَّا تَوَضَّأْتُ وَصَلَّيْت رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ ﷺ بِهَذَا» كَمَا فِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ.
الثَّالِثُ مَا وَرَدَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَقْدُمُ بَابَ الْجَنَّةِ عَبْدٌ أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيه. الرَّابِعُ مَا وَرَدَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «أَوَّلُ مَنْ يَفْتَحُ بَابَ الْجَنَّةِ أَنَا إلَّا أَنَّ
1 / 22
امْرَأَةً تُبَادِرُنِي فَأَقُولُ لَهَا مَا لَكِ أَوْ مَا أَنْتِ فَتَقُولُ أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْتُ عَلَى أَيْتَامِي» رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
فَالْجَوَابُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ النَّبَوِيَّ يَتَعَدَّدُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ابْنُ مَنْدَهْ وَنَحْوُهُ فِي الْبُخَارِيِّ فَالدُّخُولُ الْأَوَّلُ الثَّابِتُ لَهُ ﷺ أَوَّلِيَّتُهُ حَقِيقِيَّةٌ وَدُخُولُ غَيْرِهِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا أَوَّلِيَّتُهُ إضَافِيَّةٌ فَلَا تَعَارُضَ هَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ كَمَا فِي الزَّرْقَانِيِّ عَلَى الْمَوَاهِبِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ دُخُولَهُ ﷺ يَتَعَدَّدُ وَالدُّخُولُ الْأَوَّلُ لَا يَتَقَدَّمُهُ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ أَحَدٌ وَيَتَخَلَّلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ دُخُولُ غَيْرِهِ ذَكَرَهُ الزَّرْقَانِيُّ فَإِنْ قُلْتَ قَدْ وَرَدَ أَنَّ إدْرِيسَ ﵇ دَخَلَ الْجَنَّةَ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَنَّهُ وَرَدَ أَنَّهُ فِيهَا الْآنَ وَدُخُولُهُ الْجَنَّةَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى دُخُولِ الْمُصْطَفَى ﷺ: فَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ الدُّخُولَ الْمُعْتَبَرَ إنَّمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ إدْرِيسَ ﵇ يَحْضُرُ الْمَوْقِفَ، وَيُسْأَلُ عَنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ ذَكَرَهُ الشبراملسي انْتَهَى وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي حَقِيقَةِ الْوِلْدَانِ هَلْ لَهُمْ آبَاءُ وَأُمَّهَاتٌ أَوْ بِقَوْلِ: كُنْ أَوْ مِنْ أَوْلَادِ الدُّنْيَا الصِّغَارِ الَّذِينَ يُنْسَبُونَ إلَى الْكُفَّارِ كَمَا يَقُولُونَ؟ أَفِيدُوا.
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ " الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ؛ قَالَ الشَّيْخُ: يُوسُفُ الصَّفْتِيُّ فِي نُزْهَةِ الْأَرْوَاحِ اُخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الْوِلْدَانِ، فَقَالَ جَمَاعَةٌ هُمْ أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا حَسَنَةَ لَهُمْ وَلَا سَيِّئَةَ يَكُونُونَ خَدَمًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ يَكُونُونَ خَدَمًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ أَوْلَادٌ أَنْشَأَهُمْ اللَّهُ كَالْحُورِ الْعِينِ خَدَمًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ انْتَهَى. وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
[الْمِيزَانِ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي الْمِيزَانِ الَّذِي تُوزَنُ بِهِ أَعْمَالُ الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ هُوَ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ؟
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ ": الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ؛ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ السَّلَامِ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ وَلِجَمِيعِ الْأَعْمَالِ فَالْجَمْعُ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ﴾ [الأنبياء: ٤٧] لِلتَّعْظِيمِ وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْعَامِلِ الْوَاحِدِ مَوَازِينُ يُوزَنُ بِكُلٍّ مِنْهَا صِنْفٌ مِنْ عَمَلِهِ انْتَهَى.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْأَمِيرُ قَوْلُهُ " وَاحِدٌ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ " وَيُلْهَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ مَالَهُ نَظِيرُ مَا سَبَقَ فِي الْحِسَابِ انْتَهَى.
(مَا قَوْلُكُمْ) فِي امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ أَزْوَاجًا وَمَاتَتْ فِي عِصْمَةِ آخِرِهِمْ فَهَلْ تَكُونُ فِي الْجَنَّةِ لِلَّذِي افْتَضَّهَا أَوْ لِلَّذِي مَاتَتْ فِي عِصْمَتِهِ أَوْ لِمَنْ كَانَ مُحْسِنًا لَهَا؟ أَفِيدُوا.
فَأَجَبْتُ بِمَا نَصُّهُ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ؛ اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ
1 / 23
فِي ذَلِكَ فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهَا تَكُونُ لِمَنْ افْتَضَّهَا، وَفِي بَعْضِهَا لِمَنْ مَاتَتْ فِي عِصْمَتِهِ وَفِي بَعْضِهَا لِمَنْ كَانَ مُحْسِنًا لَهَا وَفِي بَعْضِهَا تُخَيَّرُ قَالَ الْعَارِفُ الشَّعْرَانِيُّ فِي مُخْتَصَرِ التَّذْكِرَةِ بَابُ إذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ بِكْرًا فِي الدُّنْيَا كَانَتْ زَوْجَتَهُ فِي الْآخِرَةِ، رَوَى مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ كَانَ كَثِيرَ الضَّرْبِ لِزَوْجَتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَضَرَبَهَا يَوْمًا حِينَ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ بَعْدَ أَنْ عَقَدَ شَعْرَهَا بِشَعْرِ ضَرَّتِهَا ضَرْبًا شَدِيدًا وَكَانَتْ الضَّرَّةُ أَحْسَنَ أَنْفًا مِنْهَا فَكَانَ الضَّرْبُ بِأَسْمَاءِ أَكْثَرَ فَشَكَتْ إلَى أَبِيهَا أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ لَهَا أَيْ بُنَيَّةَ اصْبِرِي فَإِنَّ الزُّبَيْرَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ زَوْجَكِ فِي الْجَنَّةِ قَالَ، وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ إذَا ابْتَكَرَ بِالْمَرْأَةِ تَزَوَّجَهَا فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ أَزْوَاجٍ فَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهَا تُخَيَّرُ فِي الْأَزْوَاجِ فَأَيَّ زَوْجٍ اخْتَارَتْهُ كَانَتْ لَهُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لِزَوْجَتِهِ إنْ سَرَّكِ أَنْ تَكُونِي زَوْجَتِي فِي الْجَنَّةِ إنْ جَمَعَنَا اللَّهُ فِيهَا فَلَا تَتَزَوَّجِي أَحَدًا مِنْ بَعْدِي فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا انْتَهَى.
وَخَطَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أُمَّ الدَّرْدَاءِ فَأَبَتْ وَقَالَتْ سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ «الْمَرْأَةُ تَكُونُ لِآخِرِ أَزْوَاجِهَا فِي الْآخِرَةِ» فَلَا تَتَزَوَّجِي بَعْدِي.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «أُمَّ حَبِيبَةَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا الزَّوْجَانِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يَمُوتُونَ فَيَجْتَمِعُونَ فِي الْجَنَّةِ لِأَيِّهِمَا تَكُونُ لِلْأَوَّلِ أَوْ لِلْآخِرِ، فَقَالَ: تَكُونُ لِأَحْسَنِهِمَا خُلُقًا كَانَ مَعَهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا ثُمَّ قَالَ يَا أُمَّ حَبِيبَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» انْتَهَى.
وَاَللَّهُ ﷾ أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
وَجَمَعَ بَيْنَهَا بِأَنَّ حَدِيثَ أُمِّ حَبِيبَةَ فِيمَنْ طَلَّقُوهَا وَلَمْ تَمُتْ فِي عِصْمَةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَتُخَيَّرُ لِاسْتِوَائِهِمْ فِي وُقُوعِ عَلَقَةٍ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمْ بِهَا مَعَ انْقِطَاعِهَا فَاتَّجَهَ التَّخْيِيرُ لِعَدَمِ الْمُرَجَّحِ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - فِيمَنْ كَانَتْ فِي عِصْمَتِهِ أَوْ مَاتَ عَنْهَا وَلَمْ تَتَزَوَّجْ بَعْدَهُ لِأَنَّ عَلَقَتَهُ بِهَا لَمْ يَقْطَعْهَا شَيْءٌ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِأَنَّهَا لِمَنْ ابْتَكَرَهَا، وَمَاتَ عَنْهَا مِنْ الْأَزْوَاجِ حَيْثُ لَمْ يَرْجَحْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ الْآخَرَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ وَلِلْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا طَلَّقَهَا الَّذِي ابْتَكَرَهَا وَلَمْ يَرْجَحْ وَاحِدٌ مِنْ الْبَاقِينَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْهُمْ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ وَلِأَحْسَنِهِمْ خُلُقًا حَيْثُ تَفَاوَتُوا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ وَكُلُّ هَذَا مَا عَدَا أَزْوَاجَهُ ﷺ اللَّاتِي مَاتَ عَنْهُنَّ فَإِنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْجَنَّةِ بِلَا شَكٍّ انْتَهَى.
وَحَكَى بَعْضُهُمْ قَوْلًا رَابِعًا أَنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فِيهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَحِلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ تَمُتْ فِي عِصْمَةِ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا لَهُ اتِّفَاقًا لِظَاهِرِ قَوْلِ الشَّيْخِ فِي الرِّسَالَةِ نِسَاءُ الْجَنَّةِ مَقْصُورَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَبْغِينَ بِهِمْ بَدَلًا أَفَادَهُ سَيِّدِي مُحَمَّدٌ الزَّرْقَانِيُّ
1 / 24