فالتفت ألفونس إلى يعقوب وقال له: «قل لحامل الرسالة إنني ذاهب بعد قليل ...»
فقال: «قلت لك يا مولاي إنهم كوكبة من الفرسان، وقد علمت أنهم مكلفون ألا يعودوا إلا بك.»
فقطع أوباس كلام يعقوب وقال لألفونس: «اذهب يا بني، اذهب الآن وسأتولى أنا كل شيء في غيابك، ولكن أنصح لك أن تصطحب يعقوب وتعتمد عليه، وسوف يطلعك على أمور تهمك.»
فقال يعقوب: «سمعا وطاعة.» وأسرع إلى ثيابه فلبس منها ما يصلح للسفر، وكذلك فعل ألفونس، وخرجا وألفونس يتجلد وقد ألقى كل حمله على عمه.
عود إلى القصر
فلندع ألفونس يتأهب للسفر ولنعد إلى قصر رودريك، إلى حيث تركنا فلورندا في غرفتها تفكر في أمرها بعد أن فرغت من الصلاة وألقت حملها على الله، وكان رودريك قد خرج من عندها وهو يضمر لها الشر العاجل. وكان أول ما عمل أنه لقي الأب مرتين في غرفته يتلو بعض الصلوات، وكان مرتين قد شعر بذهاب الملك إلى قصر فلورندا، وتحقق أنه لن يعود من هناك إلا وهو على نية التخلص من ألفونس أو إبعاده. فلما لقيه عائدا آنس الغضب والانفعال في عينيه وجبينه، حتى لقد يعجب من يراه لصبره عن قتل تلك الفتاة، وهو إذا غضب لا يبالي أن يقتل المئات، ولكن الحب، الحب يخفف الغضب ويلجم القلب والعقل، الحب يذل الأسود ويأسر الجبابرة، وهو الذي يبعث على الشفقة والعطف، فإذا رأيت رجلا في خلقه جفاء وخشونة فاعلم أن الحب لم يستول على قلبه بعد. نعم، إن حب رودريك لم يكن خالصا من شوائب المنكر، ولكن ذلك لا يمنع تأثيره على القلب؛ لأن سبب الحب واحد، ولكنه يظهر في الناس مختلفا باختلاف أخلاقهم وأحوالهم. ولا يبعد أن يكون رودريك قد هم بقتل فلورندا وهي تعنفه وتقاومه، ولكنه أمسك طمعا في استرضائها واستبقائها؛ فتحمل من آثار الكظم ما ظهرت علاماته في وجهه حتى خيل لمرتين - حينما رآه - أنه في أشد حالات الغضب، فاستقبله ضاحكا، فتجلد رودريك وحياه وهو يحاول عبثا إخفاء انفعاله، فلم ير خيرا من أن يشاغل الأب بالحديث، فقال له وهو يظهر الاستخفاف: «يظهر أن لذلك الغلام مأربا في بعض أهل القصر.»
فأجاب الشيخ وهو يتلجلج: «كأني بالملك لم يفهم إشارتي إلى ذلك في هذا الصباح.»
فقال رودريك: «بلى فهمت، ولكني ...» وسكت.
فأدرك القس أنه يضمر شيئا فظل ساكتا وهو ينقر بسبابته على شفته الغائرة، وعيناه تنظران إلى الملك كأنه يتوقع تتمة حديثه. أما رودريك فلم ير بأسا من إطلاع مرتين على قصده، ولا عجب فهو مستودع أسراره، إلا سر حبه فلورندا فإنه كان يكتمه حياء من الناس وخوفا من زوجته. ثم هو يعلم مقدار سيطرة القسس على النساء، فخاف أن يقع حبه لدى القس موقع الاستهجان فيطلع الملكة على ذلك فتقف في سبيله. على أنه أراد إطلاع مرتين على ما بقي من عزمه فقال: «أرى أن أسعى في إبعاد هذا الشاب عن هذه المدينة بالحسنى فنشغله عن القصر وأهله.»
فطأطأ الشيخ رأسه استصوابا كأنه رأى الجواب في تلك الإشارة أهون عليه من الكلام ، ثم قال: «وإذا أبعدته فقد ننتفع بخدمته ونتخلص منه. ولكن الحية لا تموت إذا ظل رأسها سالما.»
Page inconnue