فعجب ألفونس لقول عمه وشعر بصغر نفسه وضعفه، ولكنه لم يستطع السيطرة على عواطفه، فقال: «كيف لا نعبأ بالأقوال؟ وكيف أستطيع الصبر على الإهانة والاحتقار؟ أترضى يا عماه أن نكون أرقاء لذلك المختلس؟» قال ذلك والحدة بادية في صوته.
فأجابه أوباس بصوت هادئ: «لا!»
فقال ألفونس: «فكيف تقبل هذه المعاملة، وتقول إنها حركات طائرة في الفضاء؟ إنني لا أستطيع الصبر على ذلك، وإن الموت خير لي من الحياة مع هذه الإهانة.»
فقال أوباس: «لا أقول إن الإهانة حركات في الهواء، ولكنني أرى الكلام الصادر عن الحدة والغضب بلا روية أشبه بحركات طائرة في الهواء لا فائدة منها.»
فخجل ألفونس من ذلك التوبيخ اللطيف، ولكنه ظل مندفعا في تيار العواطف، فقال: «أتلومني يا عماه على غضبي وقد قتلوا أبي واختلسوا ملكي، ثم ضيقوا علي في ذهابي ومجيئي كأني أحد عبيدهم؟ ماذا تريد أن أفعل بعد ذلك؟»
قال أوباس وصوته لم يرتفع: «أريد أن تنظر في الأمر بعين العقل والروية؛ لأن الحدة تذهب الرشد وتؤدي إلى الخطأ، وربما يخيل لك إذا رأيت هدوئي وصبري أني أقل منك استنكارا لأحوال هؤلاء، ولكنني أفكر كثيرا وأقول قليلا، وسترى متى سكن جأشك ودار الحديث بيننا أني قضيت العامين الماضيين وأنا أسعى في الأمر الذي لم يخطر ببالك إلا اليوم، وأنت إنما ذكرته على أثر انفعالك وغضبك بعد أن قابلت خطيبتك وعنفتك على ضعفك. وأما أنا فإني لا أندفع بالغضب ولا أغضب للكلام الفارغ، ولكنني أنظر بعين الحقيقة، وقد كنت أتوقع منك هذه الحمية في أول يوم خرج فيه هذا الملك من يدك، بغض النظر عما قد يلحق بك من الإهانة أو ما قد تسمعه من التعريض أو التوبيخ.»
فلما سمع ألفونس كلام عمه تهيب واتعظ لما آنسه فيه من الرزانة والجد وقوة العزيمة، وشعر بصغر نفسه لما تحمله عمه من الضيق في السنتين الماضيتين وهو لم يشك ضيقا، فأراد أن يصلح ما بدر منه من دلائل الضعف، فتحمس وقال: «لقد أصبت يا عماه، إني تهاونت في الأمر ولم أكن أحسبك على هذا العزم، أما الآن فأشر علي، أشر علي بالذي أفعله لاسترداد ما اختلسه منا هذا الرجل.»
وكان أوباس منذ شرع في هذا الحديث قد أخذت علامات الانقباض تبدو على محياه، فازداد هيبة وجلالا واستغرق في الأفكار، وقد أرسل بصره من النافذة إلى الفضاء، وكان من ينظر إلى وجهه يتبين استغراقه في الهواجس من ثبات بصره على لا شيء، كأنه ينظر إلى صور تمثلت في مخيلته وفيها الخوف والغضب والفرح والنشاط.
وكانت ظلال تلك العواطف تتجلى في عينيه البراقتين، ولو أحسن ألفونس الفراسة لقرأ أفكار عمه في عينيه وأسرته، وكفى نفسه مئونة الاستشارة والمداولة، ولكنه لم يكن على شيء من ذلك، فلما فرغ من كلامه صبر لسماع ما يقوله عمه.
فإذا هو ما يزال غارقا في الهواجس وهو يعبث بأطراف جدائل شعره، كأنه لم يسمع شيئا من ابن أخيه، فتهيب ألفونس من منظره، ولم يجسر على أن يشوش عليه أفكاره، فظل صامتا.
Page inconnue