المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
فتح الأندلس
فتح الأندلس
تأليف
مصطفى كامل
المقدمة
الحمد لله الذي ضرب الأمثال للناس، وجعلها تذكرة لقوم يعقلون، وصلاة وسلاما على سيدنا محمد نبي الحق الصادق الوعد الأمين، وعلى أصحابه وأحبابه مصابيح الهداية المرشدين، وبعد.
فلما كانت حاجة الشعوب إلى التأليف والتصنيف تختلف باختلاف الزمان والمكان، وكان أجدر المؤلفات بالنظر ما يهدي الأمة منها إلى طرق الخير والرشاد، ويبعدها عن سبيل الغي والفساد، عن لي أن أكتب رواية أظهر لقومي فيها دسائس الدخلاء على الأمم الذين يتردون بردائها، ويتخاطبون بلغتها، ويخالطونها مخالطتها لبعضها، فيكونون كالسم في الدسم، بغية منهم في إسقاطها من أوج مجدها إلى حضيض ذلها، شارحا غير ذلك فضائل الأمة العربية وأخلاقها الكاملة وعظيم تمسكها بالمكارم، مما جعلها في حصن حصين من شرور الدخلاء ومكايد الأعداء الألداء، وقد اخترت من الموضوعات التاريخية موضوع فتح الأندلس؛ لأنه من أجل الفتوحات الإسلامية التي فاز المسلمون فيها فوزا مبينا، وقد أحطت في هذا الموضوع الحقيقة بالخيال غرضا بإظهار المقصود بكامل مظهره.
وإني فيما أتيت لست بالأول، بل إن كثيرا من كتاب العرب الأقدمين والغربيين والأمريكانيين المعاصرين اختطوا هذه الخطة إرشادا لأممهم، فكتبوا القصص والحكايات، وألفوا الروايات من تشخيصية وغير تشخيصية، وصار لها من التأثير في النفوس والمنزلة في القلوب ما جعل الناس يختطفونها اختطافا، ويطلبون تشخيصها المرة بعد المرة، حتى ليشاهد المقيم، وكذلك السائح في أوروبا أو في أمريكا عدة من روايات بلغ تشخيصها فوق الألف والألفي مرة، وهذا عندهم ليس بمستغرب، لكثرة وقوعه بينهم وتواتره من شهر إلى شهر ومن عام إلى عام.
فهذه يا أفاضل الكتاب وأماجد القراء روايتي التي كتبتها بإحساسي الصادق، أقدمها لكم مطبوعة، ولم أر أن أقدمها مشخصة إلا بعد قراءتكم لها واستحسانكم لمبدئها وغايتها، وإني أرجو كل من طالعها ورأى فيها محلا للانتقاد يرشدني إليه تعضيدا للأدب ونصرة للعلم والتأليف.
مصطفى كامل
الفصل الأول
ملخص الفصل
يظهر في المرسح الوزير عباد - وهو رومي الأصل - وزير الأمير موسى بن نصير، ويغازل بنتا رومية اسمها «مريم» أتت من بلادها صحبة رجل اسمه «نسيم» بقصد رجاء عباد في منع وقوع حرب الأندلس، فيأبى عباد أولا، فتغضب وتخرج من عنده، ثم يأتي نسيم ويتكلم مع عباد إلى أن ينتهي الأمر برضاء عباد. (متكلم - مخاطب)
عباد - مريم :
يا زهرة الغرب إن الحب أضناني
وحسن قدك أعياني وأفناني
ملكت قلبي ففضلت الغرام على
ما كنت فضلته في كل أزماني
لك الفؤاد فجودي بالوصال فما
أحلى الوصال على قلبي ووجداني
لك الحياة وما في الجسم من رمق
ومن دماء ومن دمع وأشجان
لك الوزير وزير الملك ممتثل
فمتعيه بما يمسي به هاني
حسبت أن الهوى يجدي فهمت به
فما أفاد وما للوصل أدناني
فهل ترين وراء الحب منزلة
تدني إليك فإن الحب أضناني
فتجاوبه:
نعم وراء الهوى يا صاح منزلة
تدنيك مني ومن وصلي وإحساني
وهي الوفاء لأوطان بها نشأت
آباؤك الغر من فازوا بعرفان
مواطن خير ما تهدي البنون لها
دفع لضر وإعلاء لبنيان
هذي بلادك يا عباد في خطر
فاحفظ معاهدها من هدم أركان
يرجوك ذو الروم دفعا للحروب عسى
تطيب أندلس يا عين إنساني
فإن أجبت فإن الوصل مقترب
وإن رفضت فإني عنك في شان
عباد - مريم :
ما لك يا حبيبتي؟! تخافين على الغرب وأهله على أن ملك بلادك في القسطنطينية، وهي لا شك بعيدة عن الضير!
مريم - عباد :
كيف تقول ذلك وأنت أعلم مني بالعرب، قوم الطمع أصدق صديقهم، وحب الفتوح نبراسهم ودليلهم، إن فتحوا بلدا لا يقفوا عنده، بل يتجاوزونه إلى غيره ولو كان وراء ذلك أشد المصاعب وأكبر المتاعب.
عباد - مريم :
لا تخافي يا سيدتي على القسطنطينية، وكوني آمنة مطمئنة؛ فإني واثق بأن العرب إن فتحوا الأندلس لا يتجاوزون جبال الألبة أبدا.
مريم - عباد :
من ذا الذي يحقق لك هذا القول والأمور مرهونة بأوقاتها؟! هم يقولون اليوم: إننا لا نبغي إلا الأندلس. ولكنهم سيقولون في الغد إنما نبغي أن تكون لنا الأرض متاعا من مشارقها إلى مغاربها.
عباد - مريم :
لا تظني يا حبيبتي هذا الظن البعيد، واعلمي أن الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين الحالي لا يرضى بفتح غير الأندلس؛ لأنه أشد الأمراء حبا لجنوده، وهو يخاف عليهم كثيرا.
مريم - عباد :
جرد عن فكرك هذه الظنون، واعلم أن هذه الأمة الفخمة العالية البنيان، المشيدة الأركان، التي أرهبت كل إنسان، لا تهاب الأندلس ولا غيره.
تلك الأمة كالحديد لا يقطعه إلا الحديد، وأنى لنا بقوم من حديد يقدرون على مقاومة رجال هذا الشعب العظيم. الأولى بك يا عباد، إن كنت مخلصا للقسطنطينية ولمريم، أن تتلافى الأمر وهو صغير قبل أن يتسع الخرق على الراتق، وتقول يومئذ عندما ترى أهلك وأقاربك وبني وطنك في السجن يستغيثون ولا مغيث لهم، ويستعينون ولا معين لهم: يا ليتني أطعت حبيبتي مريم وسمعت نصيحتها!
عباد - مريم :
مريم، ما كنت أظن يا سيدتي أن الأمر يصل بك إلى هذا الحد وأن التأمل يبعدك عن النظر في مرآة الحقائق، فإني وحقك واثق كل الوثوق أن العرب لا يتجاوزون الألبة، ولا يفتحون غير الأندلس، وأنا أعلم منك بأسرارهم.
مريم - عباد :
عجبا لك يا عباد، ما أحبك للبلاد العربية! وما أشدك وفاء لها! وما أعظمك جفاء لبلادك الأصلية ومواطنك الأولية التي أنشأت آباءك وأجدادك الأولين! أنسيت يا عباد أن لك أهلا وأقارب ترجوك أن تمنع حرب الأندلس وتستغيث بك، أما تغيثهم وهم ذوو القربى وأقرب الناس إليك وأحبهم لديك؟! أنسيت أن لك دما يطالبك بحقوق كبيرة وواجبات عظيمة؟! ألا تؤاخذك سريرتك ويوبخك ضميرك على عظيم تقصيرك عن أداء الوطنية حقوقها والجنسية فروضها وواجباتها. كيف تقول إن القسطنطينية في مأمن من العدو، وأنت تعلم أننا ما قطعنا البوادي والبحار وركبنا متن الأخطار، أنا ومواطني نسيم، إلا لندعوك لهذا العمل الجليل الذي يحفظ لك في تاريخ بلادك أعظم شرف وأكبر مجد، ويخلد لك في نفس كل رومي تذكارا لا تمحوه الأيام، وذكرا باقيا لا تنسخه الأعصار والأعوام.
عباد - مريم :
لا تغضبي علي يا حبيبتي، واصغي لما أقول.
مريم - عباد :
دعني، فما كنت إخالك هكذا خائنا لبلادك. (وتخرج.) (بعد ذلك يخاطب نفسه مندهشا بين وقوف وتمش.)
خائنا لبلادي؟! يا لها من كلمة أصابت فؤادي، أإلى هذا الحد بلغ كدرها وتعاظم غضبها! تالله لأرضينها وأخلص بلاد الأندلس من أيدي هؤلاء الطماعين. (ثم يهم بالخروج ولكنه يرجع متفكرا ويقول)
آه، ولكن هم العرب أسيادي وأرباب نعمتي، وأصل مجدي وسعادتي، كيف أخونهم؟! تالله إن هذا يعد لؤما كبيرا، يا ربي، ماذا أعمل؟! إن قمت للعرب بالواجب أغضبت حبيبتي مريم، ولربما كان ذلك سببا لضياع بلادي، وهو ما لم أحبه ولا أحبه طوال حياتي، وإن قمت لأوطاني العزيزة بما يجب علي لها خنت قوما أنزلوني من بينهم منزلة شماء وأحلوني مكانة علياء، وعودوني بعوائدهم، وربوني على أخلاقهم وفضائلهم، يا ربي كيف العمل؟! (ثم يفكر قليلا متمشيا ويقول)
ليس لي والله أن أستعمل الخداع مع العرب، وأقبح لهم الحرب، وما ينجم عنها، وأحسن لهم منعها؛ وبذلك أكتسب رضا الجانبين؛ تبقى دولة العرب كما هي والقسطنطينية كما هي. (ثم يسكت متفكرا ويقول)
نعم، إن هذا لهو الرأي الصواب (بعد ذلك يدخل نسيم وهو الذي أتى بصحبة السيدة مريم من القسطنطينية) .
نسيم - عباد :
أسعد الله نهار سيدي الكريم.
عباد - نسيم :
أسعد الله نهارك أيها الأخ العزيز، كيف حالك؟
نسيم :
الحمد لله.
عباد :
وكيف ترى البلاد العربية؟
نسيم :
أراها مشرقة بأنوارك.
عباد :
حفظك الله، وكيف تجد أهلها.
نسيم :
أجدهم قوما لا يهمهم شيء إلا إعلاء شأن دينهم، ونصرة بلادهم، ولو كان وراء ذلك الموت الزؤام.
عباد :
أما قابلت السيدة مريم قبل حضورك هنا؟
نسيم :
نعم، إني قابلتها في الطريق.
عباد :
وكيف رأيتها؟
نسيم :
رأيتها مقطبة الوجه، خلافا لعادتها، ولما سألتها عن سبب ذلك قالت: إنك أظهرت لها عدم رغبتك في قبول رجائها، وأنه لا يمكنك أن تساعد أوطانك، وتجيب دعوة أقاربك وأهلك، فتعجبت لذلك كثيرا، وكدت ألا أصدقها لولا علمي بصدقها.
عباد :
حاشا لله أن أكون أظهرت لها أني لا أساعد بلادي أو لا أجيب دعوة أهلي وأقاربي، ولكنني حققت لها أن الضير بعيد عن بلادنا فلم تسمع مني.
نسيم :
كيف ذلك يا مولاي؟! هب أن الضير بعيد عن بلادنا، أنسيت ما كان للأندلس معنا من الروابط والعلائق القومية والدينية؟
عباد :
إني لم أنس يا نسيم كل ذلك، ولكنكم قد استعجلتم في طلبكم؛ فإني وحق من أحب وأهوى لفاعل ما يرضي وطن أجدادي، ويريح خاطركم وخاطر أهلي وعشيرتي.
نسيم :
إننا يا مولاي لم نستعجل في الطلب أبدا؛ لأنك تعلم أننا ما غادرنا بلادنا وتكبدنا هول البر والبحر حتى وصلنا إلى هنا، إلا لهذه الغاية الشريفة.
عباد :
كن آمنا يا نسيم على بلادك، واذهب الآن إلى السيدة مريم، وأعلمها أني ذاهب في هذه الساعة إلى الأمير، وسأبذل جهدي في منع وقوع الحرب، سهل الله علينا كل أمر عسير.
نسيم :
سر على التوفيق نجح الله مقاصدك (يتفارقان وتنزل الستار) .
ملحوظة
أثناء كل ما يجري في هذا الفصل يمر خلف المتكلمين رجل متجسس اسمه عارف.
الفصل الثاني
الملخص
يرفع الستار عن الأمير موسى بن نصير أمير المغرب بالقيروان، وعلى يمينه وزيره الأول عباد، وعلى يساره وزيره الثاني حبيب، والجنود مصطفة تدعو له بالظفر والنصر، فيسعى لديه عباد في منع وقوع الحرب فيأبى، ويدعو إليه طارقا ورؤساء فرقه، وقسما من جنوده، فيأمره بالاستعداد للسفر، فيجيبه لذلك طارق، وتنشد الجنود نشيدا حماسيا يجيبهم عليه موسى، وبذلك ينتهي الفصل. (متكلم - مخاطب)
الجنود لموسى :
عش بالهنا ممتعا
يا أيها الشهم الرشيد
وارفع منار بلادنا
بالعزم والحزم المجيد
وابلغ مناك بعزمة
تأوي إلى رأي سديد
واهلك عداتك إنهم
للملك أول من يبيد
انصر بسيفك ديننا
في ظل مولانا الوليد
أبقاك رب العرش في
عز وإسعاد مديد
وأطال عمرك بالغا
في كل وقت ما تريد
موسى - عباد :
هل أجابت الخلافة العظمى والإمامة الكبرى على خطابنا المتعلق بمحاربة لذريق يا عباد.
عباد - موسى :
نعم يا مولاي، قد أجابت.
موسى - عباد :
بم أجابت.
عباد - موسى :
أجابت بتفويض الأمر إلى نظركم السامي.
عباد - موسى :
إذن لنا أن نوقع الحرب أو نرفعها.
عباد - موسى :
نعم يا مولاي.
موسى - عباد :
وماذا ترى أنت، من الصواب إيقاعها أو رفعها؟
عباد - موسى :
إني أرى أن رفعها هو الصواب؛ لأننا لسنا واثقين من أن أقواتنا أوفر من أقوات العدو، وأن جندنا أشد من جنده، فضلا على أن الحرب عندئذ لا تكون بيننا وبين القوطيين (سكان الأندلس) فقط، بل تكون بيننا وبين كل الإفرنج؛ لأن غير القوط منهم لا يرضى بوقوف القوط أمامنا وانهزامهم لنا، لا بد من أن يمد لهم يد المساعدة حتى ينصرهم علينا.
موسى - حبيب :
وأنت ماذا ترى يا حبيب؟
حبيب - موسى :
إني أرى أن رفع الحرب خطأ محض؛ لأن فتح الأندلس الآن يعد فرصة عظمى لإعلاء كلمة الله، ومهما تكن قوة الإفرنج في الحرب وثبات جأشهم في القتال، فإن جنودنا بإخلاصهم لدينهم وقوة حزمهم وعظيم عزمهم وقويم اتحادهم مع بعضهم لا بد أن ينالوا الفوز والنصر.
موسى - ملتفتا إلى عباد :
هذا هو الحق الوضاح يا عباد، إنه لا يليق بنا أن نرفع الحرب بعدما وعدنا يليان بفتح الأندلس وتخليص البلاد من أيدي الطاغية «لذريق» الذي عم فساده وكثر فسقه واعتسافه، كيف لا؟! وإنا لو لم نرفعه قالت الناس: إننا كالأطفال لا نثبت عند رأي ولا نقف عند مرام. الأجدر بك يا عباد أن تعدل عن رأيك وأن تتبع القائل:
لا تكن كالشرار يعلو ويهوي
ويزيل الغبار منه اللهيبا
بل تثبت إن شئت درك المعالي
واجعل الحزم صاحبا وحبيبا
عباد - موسى :
إني لم أقل برأيي يا مولاي إلا حرصا مني على حياة جنودنا وشرف بلادنا، وسوف يعلم الأمير أن رأيي صائب متى ذهب الجيش وعاد.
موسى - عباد :
سوف يذهب الجيش يا عباد ويعود بفوز مبين، قم وادع لنا القائد الهمام طارق بن زياد ورؤساء فرقه الأربع وقسما من الفرسان أتباعه حتى نأمره أمامهم بالاستعداد للرحيل.
عباد - موسى :
الأمر أمرك (ويخرج) .
موسى - حبيب :
حقيقة يا سيد حبيب أن فتح الأندلس الآن يعد فرصة عظمى؛ لأني تحققت من صدق يليان أمير سبتة الذي كانت شكايته لنا من أميره لذريق أكبر داع للسعي وراء فتح هذه البلاد.
حبيب - موسى :
كيف لا وأمير سبتة كله حقد على لذريق نظرا للفظائع التي ارتكبها هذا الأمير القوطي مع ابنته، ولا شك أنه سيرشدنا إلى أسرار كثيرة يكون من ورائها النفع العميم.
موسى :
هذه حقيقة جلية. (بعد ذلك يدخل عباد وطارق ورؤساء فرقه، وقسم من جنوده، فيقوم موسى واقفا ويصافح طارقا ورؤساء فرقه بيده ويقول مخاطبا طارقا):
موسى - طارق :
أيها البطل المقدام، تعلم جيدا ما كان من معاداة يليان أمير سبتة لمليكه لذريق سيد القوطيين وصاحب ملك الأندلس، نظرا لكونه هتك عرض ابنته، واستحل أمرا تحرمه الشرائع كلها، وتقبحه العوائد الحسنة والأخلاق الفاضلة، ولا يصح لأدنى الأفراد مقاما أن يأتيه لا لملك كبير كلذريق، وتعلم ما كان من أن يليان استنجد بنا، ودعانا لفتح الأندلس، مما حملنا على مخاطبة أمير المؤمنين في هذا الشأن. واليوم دعوتك إلي لأعلمك أن أمير المؤمنين حفظه الله قد فوض الأمر إلينا، ففضلنا الفتح والجهاد. ونظرا لثقتنا بغيرتك العربية وحميتك الإسلامية ومهارتك الحربية، قد اخترناك يا طارق قائدا للحملة التي ستفتح الأندلس - بإذن الله. فسس الجنود أحسن سياسة، وعاملهم أجل معاملة، واعدل بينهم، واختر لهم ما تختاره لنفسك، واجعل القرآن مرشدك في كل الأمور، ودليلك وهدايتك في حلك وترحالك؛ فأحكامه الحكيمة وأنواره الساطعة الباهرة ترشدك أنت وجندك إلى ما فيه خير المسلمين والإسلام.
فاستعد يا طارق، وسر بعد أسبوع كامل متكلا على الله، وتزود قبل سفرك، واستكمل استعدادك حتى تظهر دين الله الحنيف في تلك البقاع وتنصر الإسلام في هذه الأصقاع، وتحقق قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «زويت لي مشارق الأرض ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها.»
وإذا نلت المرام، وفتحت البلاد، فأمن الناس على أموالهم وأولادهم وعوائدهم وحريتهم، شأن الكرام الفاتحين، والمسلمين المعتصمين بحبل من الدين متين. وأنت تدري ما في ذلك من خير؛ إذ إن الرفق بالمغلوب أمضى سلاح للمؤمنين الصادقين. وإنا لنؤمل فيك ما بعثنا بك إليه؛ فأنت قائد ماهر ورؤساء فرقك كلهم بك مقتدون، وجنودك أبطال شجعان لا فخار لهم إلا نصرتهم على عدوهم، ولا ساعد لهم إلا سيوفهم، فاستعد للسفر وتوكل على الله (ثم يجلس) .
فيجيبه طارق: أيها الأمير الجليل، لقد اخترت للحملة التي نيط بها فتح الأندلس رجلا لا هم له إلا نصرة الإسلام، وإعلاء كلمة الإيمان، ولو جرت وراء ذلك أنهر من الدم وبحار من ماء الجماجم، وإني والغيرة العربية والحمية الإسلامية لباذل جهدي في إعلاء شأن ديني بتلك البلاد، وقتل طاغية القوم لذريق، وتشتيت كلمة ملكه، وهدم دعائمه وإنني أعد سعيد الحظ موفقا للخير لتكليفي بهذه المهمة التي طالما تاقت نفسي للقيام بمثلها، ولسوف يبلغك عني يا أميري وعن رؤساء فرقي وجنودي ما يسرك ويرضي خاطرك ويرضي أمير المؤمنين ويبهج كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية، وفقنا الله لما فيه خير بلادنا وسعادة أوطاننا وعز ديننا، إنه سميع مجيب! (بعد ذلك ينشد رؤساء الفرق والجنود):
سيرى لذريق منا
قوم حرب وطعان
سوف يلقى ما يلاقي
من نكال وامتهان
سوف يلقى قوم نصر
في لظى الحرب العوان
تخطف الأرواح خطفا
بحسام وسنان
فهلموا بابتهاج
نقتل النذل الجبان
ونولي الدين ملكا
زاهرا مثل الجنان (فيجيبهم موسى واقفا):
يا رجالي إن شكري
لا يوفيه الزمان
فلأنتم أهل فضل
وكمال وبيان
ولأنتم أهل رمح
وحسام وسنان
فانصروا الدين بسيف
ونبال وطعان
وعلى الله فسيروا
في سلام وأمان (يخرج الأمير والكل خلفه وينزل الستار.)
الفصل الثالث
الملخص
يرفع الستار على «عارف» الذي تجسس في الفصل الأول على عباد ومريم ونسيم، ويظهر أنه عالم بما يجريه عباد من الدسائس، وأنه سيبلغ كل ما ينوي عليه هو ورفقاؤه إلى طارق، انتقاما من عباد الذي طالما أضره، وخدمة للإسلام. ثم يختفي ويحضر عباد ونسيم، ويدبران دسيسة لإرجاع الجنود، وبعد ذلك يخرج نسيم ويرسل مريم فيخبرها عباد بما اتفق عليه مع نسيم، فتسر لذلك وتأخذ عبادا وتخرج.
عارف :
ما أحسن الانتقام من اللئام، لا سيما إذا كان فيه خدمة للإسلام، الانتقام الانتقام! لا يقوم به إلا كل قادر عزيز، ولا يحجم عنه إلا كل عاجز ضعيف. نعم نعم، قد جاءت الفرصة يا عباد لإيقاعك في جهنم العذاب، أما كفاك ظلمك وعدوانك على الأفراد، وسجنك لهذا يوما وطردك لذاك آخر، حتى قمت اليوم إجابة لداعي هواك الفاسد تقصد بالدولة الخراب، وتريد لجنودها الخذلان، والله لأرينك من العذاب أشكالا وألوانا، وأجعلنك عبرة للناس إنسانا إنسانا، وهكذا يلقى كل خائن يريد بنا ضيرا. الآن يأتي عباد ونسيم ويدبران ما يدبران، وأنا هنا أختفي لأسمع ما يقولان، وهما لا يعلمان، ومتى وقفت على حقيقة أسرارهما وكنه نواياهما، وتم ذلك عندي، رفعت لطارق به تقريرا، والله لا يفلح كيد المفسدين (ثم يختفي وبعد قليل من اختفائه يأتي عباد وبصحبته نسيم).
نسيم - عباد :
لعلك تكون عملت لنا عملا سارا.
عباد - نسيم :
إني وحقك بذلت أقصى جهدي في منع وقوع الحرب فلم يقبل الأمير، بل دعا إليه طارقا ورؤساء فرقه وقسما من جنوده، وأمرهم بالاستعداد للسفر، وهم سيسافرون بعد أيام قلائل.
نسيم - عباد :
كيف ذلك؟ وما العمل؟
عباد - نسيم :
إني والله في غاية الحيرة!
نسيم - عباد :
لا بد لنا من تدبير أمر، وإلا ضاع أملنا وعدنا إلى بلادنا خائبين دون أن نبلغ مرادا.
عباد - نسيم :
حقيقة يا نسيم إننا لنعمل حيلة لمنع الحرب، إذا انتصر طارق على لذريق وقومه وانتهى الأمر.
نسيم - عباد :
إني أرى أننا ندس للأمير سما في الأكل فيموت، وبذلك يكون لك أن تدعو طارقا وجنوده ليعودوا؛ لأنك تكون وقتئذ صاحب الأمر والنهي.
عباد - نسيم :
لا لا. إن هذا الرأي ضعيف؛ لأن سم الأمير صعب المنال، وربما ينكشف السر وتعلم حقيقة الأمر، وموت الأمير فجأة ليس بالأمر اليسير، فضلا عن أن طارقا لا يطيع أمري مطلقا لما بيننا من الخلاف القديم.
نسيم :
كيف لا يطيع أمرك، وأنت تكون عندئذ صاحب الشأن.
عباد :
أنا واثق بأنه لا يطيع، وإذا سئل عن ذلك احتج بانتظار أوامر الخليفة .
نسيم :
إذا كان الأمر كذلك فلنرسل لطارق من يسمه ليموت، ومتى مات تذهب ريح الجنود ويفشل أمرهم ويضطروا للعودة.
عباد :
وهذا أيضا رأي ضعيف.
نسيم :
إذن فماذا ترى أنت؟
عباد :
إني أرى أننا نأتي بجندي، ونكتب له رسالة ننسبها إلى السيد محمود رئيس الفرقة الأولى، ونقول فيها إن طارقا مات، والحزن مستول على قلوب الجنود، والأوفق إرجاعهم. ويقدمها للأمير ويخبره بأنه آت بها من قبل الرئيس محمود، وعندئذ أشير على الأمير برجوع الجند، فيضطر لقبول المشورة، ويأمر برجوعهم، وبذلك ترفع الحرب.
نسيم :
إذا رجع الجند، ورأى الأمير أن طارقا حي وليس بميت، ماذا يكون؟
عباد :
لا شيء يكون، إننا بعد عمل الحيلة نقتل الجندي ونخفي جثته، فإن سأل الأمير عنه نقول: مات، وبذلك لا تعلم الحقيقة.
نسيم :
لله درك يا عباد! إن هذا الرأي لأصوب ما يرى.
عباد :
الحمد لله على ذلك.
نسيم :
يلزمني الآن أن أذهب إلى السيدة مريم لأخبرها بهذا الاتفاق.
عباد :
لا لا. إن شئت فأرسلها إلي ولا تخبرها أنت.
نسيم :
الأمر أمرك (ويخرج) . (يتمشى عباد ويقول):
حكم الهوى في البرايا لا مرد له
فلا يخالفه إلا أخو اللمم
قد كنت قبل الهوى أرضى بما رضيت
به المكارم من مجد ومن شمم
اليوم أرضى بما يرضى الغرام به
من ذلة أبعدتني عن ذوي الهمم
والله لولا الهوى في الناس ما عشقت
نفسي تقهقر أهل الفضل والكرم
لكن حكم الهوى يقضي علي بأن
أخون سادة هذا العصر في الأمم (بعد ذلك تدخل عليه مريم.)
مريم :
ماذا عملت يا حبيبي عباد؟
عباد :
عملت كل شيء يرضيك يا سيدتي.
مريم :
عجل بالله عليك وأخبرني، فإني بشوق مزيد لسماع ما عملت.
عباد :
كل ما جرى أني لم أنجح في طلبي عند الأمير، وعن قريب سيسافر الجيش.
مريم :
سيسافر الجيش!
عباد :
نعم، سيسافر، ولكنه سيعود عما قليل.
مريم :
كيف ذلك؟ أخبرني بكل سرعة بالله عليك.
عباد :
اعلمي يا حبيبتي أنه لما خاب مسعاي لدى الأمير اجتمعت قبل حضورك بزمن قليل مع نسيم ودبرنا حيلة، يا لها من حيلة!
مريم :
ما هذه الحيلة؟
عباد :
افتكر نسيم أن نسم الأمير أو نسم طارقا، إلا أني رأيت أن الخطر حليف الفكرتين، فاستصوبت أن نأتي بجندي، ونكتب له رسالة وننسبها إلى الرئيس محمود، ونقول فيها: إن طارقا مات، ولا بد من إرجاع الجنود؛ لأن الحزن مستول على قلوبهم. وعندما يقدمها ذلك الجندي للأمير أشير عليه بإرجاع الجنود، فيضطر لإرجاعهم، وهنالك نقتل الجندي حتى إذا عاد الجيش، ورأى الأمير أن طارقا حي، وسألنا عن الجندي نقول: إنه مات. وبذلك لا يعلم للأمر سر.
مريم :
لله هذه الحيلة! ولله عباد! لقد اطمأن الآن خاطري على وطني، وارتاح ضميري لهذه المكيدة الجليلة، إلا أني أرى أنه من الواجب علي أن أنبهك لأمر مهم للغاية، وهو أن ذلك الجندي يكون من البربر الحديثي العهد بالإسلام؛ لأني أظن أن العرب لا يجسر أحد منهم على خيانة بلاده لهذه الدرجة.
عباد :
حقيقة إن العرب لا يجسر أحد منهم على القيام بهذه المكيدة؛ لأنهم اشتهروا بين سائر الأمم بشدة حرصهم على مصالح بلادهم، وعظيم إخلاصهم لأوطانهم، فضلا عن أن العرب أهل ذكاء وحذق شديدين، فإذا كلفنا أحدهم بهذا العمل لا شك أنه يفهم من أول لحظة أننا سنقتله بعد قيامه بمأموريته، بخلاف البربر، فإنهم أقل من أجلاف العرب نفسا، وأعظم شراهة وأكبر غباوة، ومن السهل على الإنسان أن يستخدمهم في مثل هذه الأمور.
مريم :
الحمد لله على هذا التوفيق، هيا بنا يا حبيبي نخرج من هذا المكان الآن؛ لئلا يطلع أحد على سرنا.
عباد :
هيا بنا ... (يخرجان وينزل الستار.)
الفصل الرابع
الملخص
يرفع الستار عن الأمير موسى ووزيراه حوله ولا يلبثون غير قليل من الزمن حتى يأتي الرسول المصطنع، ويقدم الخطاب، فيتكدر موسى كدرا شديدا، ويذهب إلى بيته ليدبر أمرا، وعند ذلك يكلف عباد نسيما بقتل ذلك الجندي الذي قدم الرسالة خوفا من ظهور السر، فيجيبه لذلك ويخرج. ثم يأتي موسى ويظهر للوزيرين أنه عزم على الرحيل واللحوق بالجنود، فيحاول عباد منعه، فيأبى ، وبينما هم يتحادثون في هذا الأمر، إذ يأتي كتاب من طارق يبشر فيه المسلمين بالنصر، فيسر موسى جدا، وكذلك كل الحاضرين، ومن ثم يتغير لون عباد ويظهر من فعله وكلامه أنه سبب الدسيسة، فيأمر موسى بسجنه، ويستعد للسفر واللحوق بالجنود، ليتم الفتح مع طارق، ويولي ابنه عبد الله على المغرب، ويكلفه بإرسال عباد بعد سفره بيومين مع بعض جنود يحرسونه.
موسى :
ما عندك من أخبار يا عباد؟
عباد :
لا شيء يا مولاي، الرعية بخير وهناء، والأمن ضارب أطنابه على سائر أرجاء البلاد.
موسى :
إن سفر الجند يا عباد قد أخذ من قلبي مأخذا كبيرا، وإني أفكر كل وقت فيما سيكون.
عباد :
إني والله أتوجس خوفا من هذا الأمر، ولا أرى فيه صلاحا مطلقا.
موسى :
أظن أنهم وصلوا من مدة إلى الجزيرة الخضراء.
عباد :
علهم وصلوا إليها. (بعد ذلك يدخل الحاجب ويقول):
مولاي، بالباب ساع يقول إنه من قبل السيد محمود رئيس الفرقة الأولى من حملة الأندلس ومعه كتاب باسم مولاي الأمير.
موسى :
دعه يدخل.
عباد :
يا ترى ما بهذا الكتاب، ولم أرسله السيد محمود؟
موسى :
ولم أرسله السيد محمود ولم يرسله طارق؟ (يدخل الساعي.)
موسى :
سلم الكتاب للوزير عباد.
موسى :
اقرأه لنا يا عباد.
عباد (يقرأ الكتاب) :
من محمود رئيس الفرقة الأولى إلى أمير أفريقيا موسى بن نصير، ليس في الإمكان أن أصف لك يا مولاي ما استولى على قلوب الجنود من الأسى والحزن من ساعة ما وارينا التراب قائدنا الهمام وفارسنا المقدام طارق بن زياد عقب مرضه. وإني أرى كما يرى إخواني رؤساء الفرق أن إرجاع الجيوش إلى القيروان؛ لأن الأسف عام والكدر شامل، ويخاف على الجيش من الانهزام في الواقعة ما دام على هذا الحال، والسلام.
موسى :
آه! وا مصيبتاه! أطارق مات!
ألا أيها الموت الذي ليس تاركي
أرحني فقد أفنيت كل خليل
أراك بصيرا بالذين أحبهم
كأنك تنحو نحوهم بدليل (وتسكب عيناه الدموع.)
عباد :
تصبر يا مولاي، فإن الصبر من الأمور بمنزلة الرأس من الجسد، ولا تملأ قلبك من الأسف فإن يكن مات طارق، فقد مات شهيد خدمة دينه وبلاده، يرجو لأميره أن يعيش ممتعا بالهناء والصفاء.
حبيب :
مولاي،
ادفع بصبرك حادث الأيام
وترج لطف الواحد العلام
لا تيأسن وإن تضايق كربها
ورماك ريب صروفها بسهام
فله - تعالى - بين ذلك فرجة
تخفى على الأبصار والأفهام
موسى - لوزيريه :
يا وزيري، إن المصاب عظيم، والخطب مدلهم، والأسى مقبل، والصبر مدبر، كيف أعمل الآن في أمر إرجاع الجنود؟ إن أرجعتهم قالت الأعداء: ما كان عندهم إلا طارق. فضلا عن أنهم يطمعون في بلادنا، وإن أبقيهم فشل أمرهم وذهبت ريحهم لتمكن الحزن من قلوبهم.
عباد :
والله، لقد كان يحدثني فؤادي بأن هذه التجريدة تعسة الطالع؛ ولذلك أشرت عليك يا مولاي برفع الحرب وعدم إيقاعها، وإني أرى الآن أنه لا بد من إرجاع الجنود.
حبيب :
ليس للأمير أن يقر على شيء الآن وهو محاط بالكدر والأسف، بل يلزمه التدبير.
موسى :
نعم، إني ذاهب الآن إلى داري وسأعود بعد قليل.
عباد :
إن هذا الأمر يدعو إلى الإسراع لا إلى التواني والانتظار.
موسى :
بعد قليل أعود (يخرج ويلحق به كل من بالمكان ما عدا عباد، فإنه يبقى متلفتا حتى يأتيه نسيم).
عباد - نسيم :
اعلم يا نسيم أن الأمر كان على وشك التمام لولا معاكسة الشقي حبيب، ولكني سأنهيه بعد قليل بحسن مسعاي، وما عليك الآن إلا أن تخبر حبيبتي بذلك، وأن تقتل سليمان؛ الجندي الذي استخدمناه في حيلتنا؛ لئلا يتضح السر.
نسيم :
السمع والطاعة (كل ذلك وعارف يراقبهم ويسمع أقوالهم) .
عباد :
اذهب وإياك والتأخير.
نسيم :
لا تخف (ثم يخرج. ويستقبل عباد الأمير حيث يدخل هو ومن معه).
عباد - موسى (يقول بعد جلوس الأمير) :
على أي شيء عزم الأمير؟
موسى :
ما عزمت إلا على السفر واللحوق بالجنود؛ لأقوم بأمر الفتح بنفسي.
حبيب - موسى :
لك الله من مولى يعمل لله في الله، ويهون الخطوب للإسلام، ويسهل الصعب طلبا لعزه ومجده، لا شك أن ما رأيت يا مولاي من الرأي لأحسن ما يرى الخبير، وأحكم ما يقطع به المتبصر في الأمور.
عباد - موسى :
إني لا أرى في ذلك يا مولاي إلا كل ما يقلقل أركان المملكة، ويوقع الرعب في الرعية، ويهدم صروح الأمن والسلام. ولا شك أن الحكيم المتبصر لا يقطع إلا بإرجاع الجنود وعدم ذهابك؛ لأن فيه فضلا عما ذكرت ضررا بالأمير نفسه.
موسى - عباد :
اعلم يا عباد أن في ذهابي منة عظمى وراحة كبرى وخدمة للإسلام، لا تقدر ولا تحصى، ولا شيء من الأضرار يحيط بهذا الأمر. فإن كنت تخشى من وقوع الرعب في قلوب الرعية، فلا إخالك تدري من أمورها شيئا، وإن كنت تخاف علي فأظنك تجهل أمري جهلك لأمر دولتك.
لا تخدم الأوطان إلا بالنصب
ويدوم فينا المجد ما دام التعب
ما كان موسى في الورى إلا لأن
يعلي معاهده وإن لقي النوب
إني إلى جيشي أسير ومهجتي
قبلي تسير ولا تخاف من العطب
ستعود غيرته ويرجع بشره
وينال دين الله منا المرتقب
عباد :
إن طائر الخوف يخفق بجناحيه على قلبي، وإني أرى كما رأيت أول الأمر أن وقوع الحرب غير واجب.
حبيب :
لا، لا يا مولاي، لا تعدل عن رأيك، فإن فيه الخير للإسلام والشرف للبلاد.
موسى :
لا شك أني لاحق بجنودي؛ لأن مثلي خير له أن يموت في الاغتراب تحت ظل الخدمة الصادقة عن أن يموت ببلده بين أهله وأقاربه. (يدخل الحاجب ويقول):
مولاي، بالباب رسول معه كتاب للأمير من قبل القائد الهمام طارق بن زياد.
موسى :
من قبل طارق بن زياد؟! أطارق حي؟!
الحضور :
طارق!
عباد (يصفر وجهه ويقول بصوت منخفض) :
يا خيبة المسعى!
موسى :
كم للزمان عجائب وغرائب
تسبي العقول وتدهش الألبابا
بالأمس طارق مات بين جنوده
واليوم قد أهدى إلي كتابا
موسى للحاجب :
دعه يدخل (يدخل الرسول ويقدم الكتاب لموسى) .
موسى (يقرأ) :
من طارق بن زياد إلى أمير المغرب موسى بن نصير، أبشرك أميري لتبشر المسلمين إخواني بأننا قد فتحنا الأندلس، وأبدنا جنود الأعداء، وقد وقعت المعركة أمس بوادي لوكة، حيث قتلت طاغية الروم لذريق، والسلام. كتب بوادي لوكة في 16شعبان عام 92 من الهجرة النبوية. (سرور عام، وغوغاء ضعيفة، وزيادة اصفرار في وجه عباد.)
موسى :
عاد النهار وعادت الأنوار
وبدا لنا بعد الظلام منار
والبشر أقبل والهناء توطدت
أركانه وزهت به الأمصار
لما بدا نور الكتاب وبينت
آياته وبدت لنا الأسرار
لما علمنا أن طارق سالم
من كل ما جاءت به الأخبار
يلقى بحد السيف لذريق العدا
مهما تعاظم جيشه الجرار
أفنى الجموع وجأشه متثبت
السيف منه قاطع بتار
مرحى لطارق، ما أجل فخاره!
سيجله التاريخ والأعصار
حبيب :
كأن السرور يا مولاي قد عم قلوبنا، والفرح ملأ أفئدتنا؛ فإنه لا بد لنا من معرفة سر الأمر والوقوف على من دبره.
موسى :
كن آمنا أيها الصادق الأمين فسوف تنجلي غياهب الأمور، وتنكشف الأسرار حيث يعلم الغادر الخائن، ولنسمع الآن من هذا الرسول الكريم كيف كان الفتوح.
موسى للرسول (ملتفتا إليه) :
قص علينا ما كان من يوم ما تركتم القيروان إلى الآن.
الرسول :
إننا يا مولاي بعدما ركبنا البحور وتركنا القيروان سرنا مسيرة أسبوعين كاملين حتى وصلنا الجزيرة الخضراء، فبتنا بها ليلة وتركناها، وبعد مغادرتها بيوم وليلة وصلنا شواطئ الأندلس، فبتنا هنالك ليلة حتى استقر بنا القرار، وتركنا عصا التسيار في البحار، وبعد ذلك بدأنا في الفتح، فأخذنا بالتوالي: شدونه ومدور وعطف وقرونة وإشبيلية، وفي هذه المدينة علمنا أن جيش لذريق صار على مقربة منا؛ ولذلك قام بيننا القائد الهمام طارق بن زياد وألقى خطبة بليغة، قال في أولها: «أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم». مما جعل لها تأثيرا عظيما في قلوبنا، وقد حثنا فيها على الصبر والجلد وشوقنا إلى نيل النعيم، فحرك من قلوبنا الساكن، وبعث فينا روح النشاط والحمية، وما فرغ من خطابه حتى انبسطت نفوسنا، وتحققت آمالنا، وبتنا ليلتنا، حتى إذا ما جاء الصباح أقبل جيش لذريق - وهو محمول على سريره وفوق رأسه مظلة - فلما علم طارق أنه طاغية القوم هجم عليه حيث التقى الجيشان، فقتل طارق لذريق بسيفه، ولم تلبث جنده بعده إلا قليلا حتى انهزموا عن آخرهم، وولوا الأدبار، وتم لنا الأمر كما نروم ونشتهي.
موسى وكل الحضور :
الحمد لله رب العالمين.
موسى :
ولما كنتم في الطريق هل أرسل لنا السيد محمود كتابا مع مندوب من قبله؟
الرسول :
إنه لم يرسل قط. ولم يرسل السيد محمود وطارق رئيس الجيش؟!
موسى :
الآن آن للحق أن يظهر. (يلتفت لعباد)
أين الجندي يا عباد؟
عباد (يقول مرتجفا) :
مات بعد أن سلمك الخطاب يا مولاي.
موسى :
مات بعد أن سلمني الخطاب!
عباد :
نعم يا مولاي.
موسى :
وما لك تقول القول مرتجفا؟!
عباد :
إن بي هزة برد.
موسى :
لا وحقك! إنها هزة رعب وخوف وضياع أمل. الآن علمت أن في الأمر سرا، وأنه لا بد أن تكون لك يا عباد يد في دسيسة عملت لإرجاع الجنود.
عباد (مرتجفا أكثر من ذي قبل) :
حاشا لله يا مولاي، إني خدمت الدولة بصدق وأمانة.
موسى :
لا يخليك من الشبهة شيء حتى تتجلى الحقيقة، وأما الآن فأنت موضع الظن؛ لأني كنت أرى منك أنك أول عامل في إرجاع الجيش (يطرق عباد رأسه) .
موسى - كاظم «السجان» :
يا كاظم.
كاظم :
بين يديك يا مولاي.
موسى :
خذ عبادا وضعه في بيته وضع عليه الحرس، ولا يخرج منه إلا بإذني، وإياك أن تدخل عنده أحدا، ومن دخل لا يخرج، بل يبقى معه مسجونا، وإلا فماذا ترون يا معشر الفضلاء؟ (يلتفت مخاطبا الحضور.)
الحضور :
ما رآه الأمير الصواب.
عباد :
إني يا مولاي لا أستحق السجن؛ لأني ما أتيت إثما.
موسى :
أتيت أو لم تأت ستعلم الحقيقة.
موسى - الرسول :
وهل تعرف لأي البلاد سيسير طارق؟ وكيف يكون بقية الغزو؟
الرسول :
نعم، إنه بعد أن قتل لذريق وانتصر على قومه أرسل الفرقة الأولى لقرطبة، والثانية لغرناطة، والثالثة لمالقة، وسار هو بالفرقة الرابعة إلى طليطلة عاصم ملك الأندلس. (يطرق موسى قليلا.)
موسى - الحضور :
اعلموا يا فضلاء الأمة أنه قام بخاطري أن أسير بجيش لألحق بطارق حتى يتم لنا الفتح في الأندلس وفي غيره من بلاد الإفرنج، وأن أولي بدلا عني على المغرب ولدي عبد الله، فماذا ترون؟
الحضور :
نعم ما رأى الأمير، رأي ثاقب وفكر صائب.
موسى - الحضور :
إن ضميري يحدثني يا معشر الفضلاء أنه لا بد أن تكون لعباد يد في دسيسة عملت لإرجاع الجنود.
الحضور :
يظهر عليه ذلك يا مولاي.
موسى :
انظروا إخواني أساتذة الأمة وعلماء الشعب، كيف كان حزم طارق وتدبيره؟ وكيف كانت خيانة عباد إن كان كما نظن؟ لله الفضيلة وأهلها. (يدخل عبد الله وحبيب.)
موسى (واقفا) - وعبد الله :
اعلم يا ولدي أني عزمت على الرحيل بقصد اللحوق بطارق في طليطلة وتكملة الغزو بصحبته، وقد رأيت بعد أخذ رأي أكابر المؤمنين أن أنيبك عني واليا على المغرب مدة غيابي، فأحسن موالاة قومك، واجعل ذكرك حميدا بينهم، وإياك أن تعمل بغير الكتاب والسنة، ومتى سافرت بجيشي، أرسل الوزير عبادا المسجون بصحبة أربعين جندي في طليطلة لننظر في أمره أمام طارق.
عبد الله :
لأمرك الطاعة يا مولاي. (بعد ذلك يهم موسى للخروج حيث ينشد كل الحاضرين):
سر بالسلامة والهنا
وارجع إلينا بالمنى
واحكم وفز يا ذا السنا
واسلم ودم طول الزمان
الفصل الخامس
وهو الأخير
الملخص
يرفع الستار عن موسى وطارق بطليطلة يتحدثان في شأن الفتوح، منتقلان من موضوع إلى آخر حتى يصل بهما الكلام إلى ذكر خيانة عباد، فيعرف طارق موسى بأنه عالم بالأمر، وأن عربيا تجسس على الخائنين، ورفع له تقريرا بكل ما اتفقوا عليه، فيسر لذلك موسى، ويكلف صاحب التقرير بقراءته أمام الجميع في مواجهة عباد وزميليه، فيقرؤه عارف ويحكم موسى على عباد ونسيم ومريم بالنفي، ويهنئ طارقا بين كل الحاضرين على ما أتاه من العمل الجليل. (متكلم - مخاطب)
موسى - طارق :
وماذا رأيت من هؤلاء القوم يا طارق؟
طارق - موسى :
رأيت منهم سرورا عظيما وانشراحا كبيرا بعدما عاملتهم بسنة نبينا من تأمينهم على ديانتهم وحريتهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وقد شرح لي الكثيرون منهم مظالم لذريق العديدة، وكيف أنه كان يهتك أعراض نسائهم وبناتهم جهرا ولا يخشى أحدا.
موسى - طارق :
الحمد لله الذي من علينا بفتح هذه البلاد النضرة الزاهرة، فإنه فتوح أنعم به من فتوح، أعلينا فيه كلمة الله، ورفعنا عن هذا الشعب الضعيف أنواع المظالم التي كان يثقل كواهلهم بها لذريق الفاجر.
طارق - موسى :
إني وحقك يا أميري لم يكن لي نصير حقيقي في هذا الفتح إلا الله سبحانه وتعالى؛ فإنه جل شأنه لا ينصر إلا الحق وأهله.
موسى - طارق :
حقيقة يا طارق إن الباطل لا نصير له، وأن الحق نصيره الله؛ ولذلك كانت أمتنا أشرف الأمم جميعا لما لها من عظيم التمسك بالفضيلة والتعلق بالشرف.
طارق - موسى :
ولا جرم إذا دامت أمتنا هكذا، عزيزة في مجدها قوية في عزها ورفعتها.
موسى - طارق :
وأظنك يا طارق لا تدري من أمور الدولة شيئا ما نظرا لبعدك عنا، وانقطاعك للغزو والفتح (يبتسم عندئذ طارق) .
موسى - طارق :
لم تتبسم؟!
طارق - موسى :
قد وصلتني - يا أميري - أول الأمس الأخبار كلها وعلمت مفصل حادث موتي.
موسى - طارق :
كيف ذلك؟ ومن أوصل إليك الأخبار؟!
طارق - موسى :
إن الذي أوصل إلي الأخبار هو رجل كنت خلصته مرتين من يد عباد الوزير، قد تجسس على الذين سعوا في إرجاع الجيش، وعلم كنه نواياهم ورفع لي بها تقريرا.
موسى - طارق :
يا لهذا الاتفاق الغريب، أحمدك ربي على جزيل نعمائك! لقد ارتاح الآن ضميري وهدأ بالي لانكشاف هذه الأسرار الخفية، ومن هؤلاء الساعون في إرجاع الجيش الناصبون لنا أشراك المكايد؟
طارق - موسى :
هم ثلاثة، عمدتهم أقرب الناس إليك.
موسى - طارق :
عباد؟!
طارق - موسى :
نعم عباد.
موسى - طارق :
هو ذا اللئيم محل ظني من يوم ورود خطابك المبشر بظفرك، والله لأذيقنك يا عباد من العذاب أمر كأس! أنرفعك فتخوننا، ونعظمك فتسعى في دمارنا؟! ومن الاثنان الآخران يا طارق؟
طارق - موسى :
هما رومي ورومية أتيا من بلاد الروم لرجائه في منع وقوع الحرب.
موسى - طارق :
إني أود أن أسمع التقرير من صاحبه.
طارق - موسى :
لك بغيتك يا أميري.
طارق - الحاجب :
ادع لنا يا إسحاق عارفا.
الحاجب :
السمع والطاعة. (بعد ذلك يدخل حاجب آخر ويقول):
بالباب كاظم السجان.
موسى - الحاجب :
دعه يدخل هو ومن معه، ما أظن الخائن إلا حضر (يدخل كاظم وخلفه عباد ونسيم ومريم) .
موسى - كاظم :
هذا عباد، ومن هذا الرجل وهذه المرأة؟
كاظم - موسى :
هما حبيبان له، دخلا عنده بعد أن أعلمتهما أن من يدخل عنده لا يخرج، فحبستهما حسب أمركم.
موسى - كاظم :
خيرا ما فعلت، لا شك أنهما شريكاه في الإثم (يدخل إسحاق الحاجب ويخاطب طارقا) .
إسحاق - طارق :
بالباب عارف.
طارق - إسحاق :
دعه يدخل (يدخل عارف) .
موسى - عباد :
من معك يا عباد؟
عباد - موسى :
حبيبان يا مولاي.
موسى - عباد :
أما اشتركا معك في الإثم.
عباد - موسى :
أنا لست آثما يا مولاي.
موسى - عباد :
الآن تعلم أنك الآثم (يقول ذلك، ويلتفت إلى إسحاق الحاجب) .
موسى - إسحاق :
ادع لنا يا إسحاق كل الموجودين بالقرب من هذا المكان من علماء وغير علماء؛ ليشهدوا ما نشهد من غدر وخيانة وصدق وكرامة.
إسحاق - موسى :
لأمرك الطاعة يا مولاي (يخرج ويتكلم موسى مع طارق بصوت خفي لحين عودته مع كثير من فضلاء الأمة، حيث يستقبلهم موسى وطارق واقفين. بعد ذلك يلتفت موسى لعارف، ويقول له) :
موسى - عارف :
هات ما عندك يا عارف. (يقرأ عارف التقرير):
قائد الجيش وأمير الجنود
نظرا لثقتي بما لك من الإخلاص الديني الحقيقي، واعترافا بما لك علي من الأيادي البيضاء أرفع لك تقريرا عن حادث يتوضح من تلاوته، كيف أن الدخلاء في البلاد يضرون أكثر من ضرر أشد الأعداء قوة، وأقوى الأخصام نفوذا وسطوة، وهو أن الوزير عبادا ليس بعربي الأصل، بل إنه دخيل على المسلمين، قد تربى بينهم لا ليخدمهم بصدق، بل ليكون دسيسة لقومه عند الحاجة، فهو مهما ارتفع مقامه في الإسلام وعظم، فإنه يرى الدم الرومي الجاري في عروقه يدعوه دائما لخيانة المسلمين، والسعي في هدم دعائم ملكهم، وتخريب ديارهم، وما زال يرى من نفسه ذلك حتى أتاه من بلاد الروم رجل اسمه نسيم، وهو ذا (يشير إلى نسيم)
وغانية خادعة اسمها مريم وهي هذه (يشير إلى مريم)
بقصد رجائه أن يسعى إلى منع الحرب الأندلسي، فأخذت البنت تغازله وهو يغازلها حتى وقع حبها في قلبه، فطلبت منه كما طلب منه نسيم أن يمنع الحرب، فوعدهما بذلك، وأخذ يسعى عند الأمير في منع الحرب، فلم يجب الأمير طلبه، بل دعاكم إليه وأمركم بالاستعداد للسفر، وخيرا ما فعل الأمير، فلما خاب مسعاه أخذ يدبر مع نسيم حيلة لإرجاع الجند، فافتكر نسيم أول الأمر في تسميم الأمير؛ ليكون لعباد حق إرجاع الجيوش، فقبح له عباد هذا الرأي لما فيه من الأخطار، فخطر بباله عندئذ تسميم طارق، فخطأه عباد أيضا، وأتى هو بحيلة دلت على أنه عريق في المكر والخداع، متدرب على الإفساد والإيقاع، وهي أن يصطنع رسالة يسندها إلى السيد محمود رئيس الفرقة الأولى، ويقول فيها: إن طارقا قد مات، والأوفق إرجاع الجنود لاستيلاء الحزن على قلوبهم. فاتفقا عليها وكتبا الرسالة، وقدمها بربري قتله نسيم بعد ما قدمها، حتى لا يعلم للأمر سر، فتكدر الأمير موسى كدرا عظيما لظنه صدق الرسالة، وعزم على اللحوق بالجنود غير ناظر إلى أقوال عباد المختلفة التي دلت في الحال على أنه دسيسة، وبينما الأمير يعزم وعباد يرجوه الرجوع عن عزمه، إذ جاء رسولكم، وقدم خطابكم المبشر بنصركم على عدوكم، فسر كل المسلمين لذلك وخصوصا الأمير الذي وقعت شبهته في عباد، لا سيما عندما علم بموت الجندي الذي جاء بالرسالة الأولى، فسجنه وأتى بجيشه إلى هنا حيث قابلكم، والسلام. (دهشة عظيمة، وسرور عام، وغوغاء ضعيفة، ونظر شذر من الحضور إلى الخائنين، واصفرار شديد في وجه هؤلاء.)
موسى - الخائنين :
إلى هذا تخونون وتظنون أننا عنكم نائمون، والله لأجعلنكم عبرة الأيام، وحديث أبناء الزمان مدى الأعوام.
أحد الحاضرين - موسى :
نعم، إن مثل هؤلاء المجرمين والغادرين الخائنين لأحق المذنبين بأشد العقاب وأقساه وأجدرهم بأن يكونوا أول الزمان مثلا للغدر والخيانة والكفران بالنعمة.
الحضور :
لا شك في ذلك.
موسى - الحضور :
يا قوم قد ظهر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا، انظروا - أعانكم الله على نصرة دينكم - إلى الحوادث التي مرت أمام أعيننا من يوم شكاية يليان إلى الآن، إن فيها لتبصرة وتذكرة لأولي الألباب؛ منها تعلمون أن كل ملك ضعف رأي الشعب فيه، وتولاه رجل لا يرعى للمكارم مقاما، ولا يحسب للشرف حسابا يضيع كما ضاع ملك الأندلس من يد لذريق الذي كثر فسقه وفجوره، وعم فساده حتى اشتكى منه العالم والجاهل، والكبير والصغير من شعبه وأهل بلاده، واستسلم جميعهم لنا على أننا نخالفهم دينا وعادة وخلقا، ومن تلك الحوادث تعلمون مزية الحزم والعزم والتثبت في الأمور وعدم الإسراع، تلك الصفات التي امتازت بها الأمة الإسلامية عن غيرها، مما رفعها عن سواها منزلة واعتبارا، ومنها تعلمون أيضا - حفظهم الله - كيف أن الغرام يلعب بعقول الرجال كما لعب حب مريم بعقل عباد، وكيف أن الدخلاء أمثاله هم أشد الأعداء ضررا بالأمة الذين يدخلون عليها، وحسبكم دليلا على ذلك أن هذا اللئيم الذي أفضنا عليه من أنعمنا ما جعله في عداد رجال الدولة المعدودين وعظمائها المحسوبين قد كان يضر بدولة كدولتنا بنيت على أساس متين، وغير ما ذكرت تقرءون في صفحات هذه الحوادث ما لعظماء الرجال في الأمم من جليل الأعمال مما نأخذ له مثلا ما أتى به طارق، فإنه دل حقيقة على أنه خادم الإسلام الصادق، وفارسه الجدير بأن يكون مثلا لجميع الفرسان في سائر الأزمان (يقول ذلك ويلتفت لطارق) .
موسى - طارق :
لك من أمتك يا طارق أعظم الشكر على ما أديت لها من الخدمة الجليلة وما أوليتها من الشرف العظيم، وإني لأقر على رءوس الأشهاد بعجزي عن توفيتك حقك من الثناء والإجلال. وكفاك مجدا أنك أول مسلم ملك الأندلس وجلس على كرسيه.
طارق - موسى :
إني - وحقك يا أمير - لا أرى في عملي هذا إلا عملا يجب على كل مسلم حقيقي أن يعمله.
الحضور - طارق :
جزاك الله يا طارق عن الإسلام خيرا.
موسى - الخائنين :
وأما أنتم يا خائني الدولة والدين، فقد رأفت بكم، وحكمت بالنفي عليكم إلى الأبد، مع إعلان ذلك الحكم في كافة الأنحاء، وكفاكم به عقابا.
موسى - كاظم والحجاب :
إذن فخذوهم وأودعوهم السجون. (يأخذهم السجانون، وينشد الحاضرون) :
ظهر الحق وبان
وتبدى للعيان
فانظروا يا قوم واحكوا
ما رأيتم في الزمان
إن خير الناس شهم
صادق ثبت الجنان (يلتفت الحضور لطارق.)
طارق ذكرك يبقى
ما تبدى النيران
لك الحمد وثناء
بلسان الامتنان (يقولون ذلك وينزل الستار.)
Page inconnue