Fatawa Hadithiyya
الفتاوى الحديثية
Maison d'édition
دار الفكر
معرفَة الله لَهُم هَل تَسْتَلْزِم إِثْبَات الْإِيمَان؟ فَأجَاب بقوله: سُئِلَ الْمَازرِيّ الْمَالِكِي عَن ذَلِك فَقَالَ: هَذِه الْمَسْأَلَة تفْتَقر إِلَى مقدمتين: إِحْدَاهمَا: مَا يُورِدهُ فِي هَذَا من الْأَخْبَار كثير من الْمُفَسّرين فَلَا طائل تَحْتَهُ، لِأَن الْمَسْأَلَة علمية وَالْعَمَل بِخَبَر الْآحَاد إِنَّمَا هُوَ فِي العمليات خَاصَّة لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على غَلَبَة الظَّن بِخِلَاف هَذِه، وَهَذَا مِمَّا لَا اخْتِلَاف فِيهِ وإنْ رَأَيْت الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي فروعه، فَذَلِك إِنَّمَا هُوَ لاخْتِلَاف آرائهم كاختلافهم فِي تَسْمِيَة الله تَعَالَى بِمَا ورد فِي أَخْبَار الْآحَاد إِلَى غير ذَلِك، وَأما مَا نقلَ بعضُ الْمُفَسّرين من الْخَبَر الصَّحِيح أَو السقيم فَلَا فَائِدَة فِيهِ، بل أصل الْمَسْأَلَة مِمَّا لَا يلْزم الْبَحْث عَنهُ. وَكَانَ شَيخنَا عبد الحميد يذكرهَا فِي ميعاده ذكرا يترددُّ، وينقل عَن شَيْخه فِيهَا رَأيا لَا أحفظه الْآن فليفهم الْإِيَاس على مَا يقطع بِهِ فِيهَا. والمقدمة الثَّانِيَة: وَهِي عَظِيمَة الوقع: وَهِي أَن تعلم أَن الله خلق فِي قُلُوب الْحَيَوَان علومًا ناطقها، وَغير ناطقها لَا يجلبه فكر وَلَا يميزه بحث، وَهِي عُلُوم ضَرُورِيَّة وطبيعية فِي الْحَيَوَان البيهمي وَمِنْهَا مَا لَا يدْرك إِلَّا بالفكر والبحث، وَهُوَ خَاص بِالْحَيَوَانِ النَّاطِق، وَمِنْهَا مَا لَا يُدْرِكهُ النَّاطِق لَا بِالضَّرُورَةِ وَلَا بالبحث، وإنْ أمكن من نَاحيَة النّظر أَن يكون فِي قُلُوب عباده فَهُوَ من نَاحيَة التجويز مثل رُتْبَة الْإِنْسَان يلْحق بهَا فلك الْقَمَر، فَهُوَ يُمكن عقلا، وَلَا يطْمع فِيهِ إِلَّا أهل الوسواس، وَطَائِفَة من الْأَوَائِل يمْنَعُونَ هَذَا وأصغى إِلَيْهِم بعض أهل الْعَصْر لِأَنَّهُ خَارج عَن الطبيعة، فَلِذَا لم يُدْرِكهُ الْعقل، كَمَا أَنه لَا يعلم السَّبَب فِي خُصُوصِيَّة جذب المغناطيس للحديد دون غَيره، وَمَا لَا يُمكن إِدْرَاكه فَلَا مورد فِيهِ وَلَا تصور، ومَنْ لَا يُمَيّز بَين الْفِكر المحصل علما أَو ظنا يُورد الْكَلَام إِيرَاد قَاطع، كَأَنَّهُ يرَاهُ كالنور الساطع، وَبِهَذَا يتَمَيَّز المُستبْحر فِي الْعُلُوم من غَيره فَإِذا أَكثر النّظر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة المستبحر فَهُوَ كَمَا قَالَ المتنبي: وَمن تفكر فِي الدُّنْيَا وبهجتها أَقَامَهُ الْعَجز فِي فكر وَفِي تَعب لَكِن مَنْ لَا تخفى عَلَيْهِ خافية أرسل الوحيْ إِلَى رسله بِعلم مَكْنُون مَا فِي غيبه فَاطَّلَعُوا عَلَيْهِ وعلموه النَّاس. والعلوم ثَلَاث طَبَقَات مِنْهَا: مَا لَا يعلم بِالْعقلِ وَإِنَّمَا يعلم بِالسَّمْعِ كجواز رُؤْيَة الله تَعَالَى، وَمن ذَلِك علم إِبْلِيس فَهُوَ لَا يعرف إِلَّا بِالسَّمْعِ أما تكبره فمقطوع بِهِ لقَوْله تَعَالَى: ﴿اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [ص: ٧٤] وَلَفظ الْكفْر وَإِن اسْتعْمل للستر فَهُوَ مَوْضُوع شرعا لمن لَا يعرف الله وَيُؤَيِّدهُ قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأٌّرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الْحجر: ٣٩] وَقَوله: ﴿لأّمْلأّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: ٨٥] الْآيَة، وَغير ذَلِك مِمَّا يدل على كفره. وَأما كَون كفره حدث بعد إِيمَان، أَو لم يزل كَافِرًا فَلَا قَاطع فِيهِ من نَص قُرْآن وَلَا خبر متواتر وَلَا إِجْمَاع. وَاخْتلف النَّاس هَل هُوَ من الْمَلَائِكَة أَو من الْجِنّ وَاحْتج الْأَولونَ باستثنائه مِنْهُم فِي السُّجُود وَاحْتج الْآخرُونَ بقوله: ﴿وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا﴾ [الْكَهْف: ٥٠] وَأَجَابُوا عَن الِاسْتِثْنَاء بِأَنَّهُ مُنْقَطع، وَأجَاب الْأَولونَ عَن كَونه من الْجِنّ بِأَنَّهُ مِنْهُم فِي التمرد وَالْفساد والاستكبار والعناد، وَمن الْوَاضِح أَن دلَالَة كَانَ من الْجِنّ لِأَن كَونه مِنْهُم أظهر من دلَالَة الِاسْتِثْنَاء على كَونه من الْمَلَائِكَة لِأَنَّهُ يَأْتِي مُنْقَطِعًا كثيرا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا﴾ [النِّسَاء: ١٥٧] وَتَأْويل كَانَ من الْجِنّ بِمَا ذكر بعيد جدا. على أَنه يُمكن أَن يُقَال إِن الْجِنّ من جنس الْمَلَائِكَة من حَيْثُ لطافة الْجِسْم وَعدم رُؤْيَته للبشر فِي كلٍ فَيكون الِاسْتِثْنَاء مُتَّصِلا مَعَ كَون إِبْلِيس من عنصر الْجِنّ حَقِيقَة وَقَوله: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الْأَعْرَاف: ١٢] دَلِيل ظَاهر على أَنه من الْجِنّ حَقِيقَة. وَلَيْسَ من الْمَلَائِكَة وَقَالَ بَعضهم: خلق الله العناصر الْأَرْبَعَة: المَاء والهواء وَالتُّرَاب وَالنَّار، وَركب مِنْهَا الْعَالم بأسره نَبَاته وحيوانه ومعدنه، فَهُوَ كُله أجسام مركبة من أجسام بسيطة وَهِي العناصر. وَخلق أجسامًا روحانية مِنْهَا الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ والطاهر مِنْهَا الْمُطِيع ﴿يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاء: ٢٠] وَتسَمى مَلَائِكَة، والشرير الْخَبيث جَان كَمَا أَن الْآدَمِيّ على قسمَيْنِ صَالح وخبيث فَاسق أَو كَافِر، وَكَون إِبْلِيس سمع كَلَام الله أَو لَا يرجع فِيهِ إِلَى قَاطع وَلَيْسَ بموجود نَظِير مَا مر، وَإِنَّمَا فِيهِ ظواهر وَهِي لَا تعْتَبر فِي هَذَا بل فِي الظنيان العمليات، وَقَوله: ﴿قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ﴾ [ص: ٧٥] ظَاهر فِي عدم الْوَاسِطَة ومحتمل لوجودها. وَكَون الْكفَّار هَل يعْرفُونَ الله أَو لَا؟ جَوَابه أَنه يُمكن معرفتهم بِاللَّه دون رسله، وَلَا يتَصَوَّر عَكسه، إذْ الرَّسُول لَا تتَحَقَّق مَعْرفَته إِلَّا بنسبته إِلَى الله، وَأما معرفَة الله فَيمكن أَن تتَحَقَّق بِدُونِ رسله لِأَنَّهُ تَعَالَى نصب عَلَيْهَا أَدِلَّة مِنْ مصنوعاته لَا يفْتَقر الِاسْتِدْلَال بهَا إِلَى مَجِيء رَسُول بهَا، وَمن ثمَّ قَالَ بعض الْأَئِمَّة: تجب معرفَة الله بِالْعقلِ لِأَنَّهَا لَا تتَوَقَّف على الشَّرْع، وَالَّذين ينفون الْوُجُوب قبل الشَّرْع لَيْسَ هُوَ
1 / 91