فبعد أن تقدمت ألوان الأطعمة - وهي كثيرة ومتقنة - أحس الخليفة بالعناية التي بذلها صاحب سجلماسة في إكرامهم وظهر له الفرق بين الأطعمة التي تعود تناولها في قصره وما تناوله تلك الليلة؛ لأن العبيديين كانوا إلى ذلك الحين لا يزالون ميالين إلى السذاجة في الطعام واللباس لأسباب تقدم بيانها، أما حمدون فقد تعود وهو بسجلماسة الترف والتأنق بالأطعمة؛ تقليدا للمروانيين في قرطبة. وكان يبتاع أمثال آنيتهم للمائدة من الأباريق والأطباق الفضة والذهب ويوصي الطهاة بمعالجة اللحوم والألوان كما كان الخليفة الناصر يفعل في قصر الزهراء.
فلما صار حمدون في الأسر لم يعد يستطيع ذلك التأنق لكنه في تلك الليلة أوصى الطهاة أن يبذلوا الجهد في إصلاح الأطعمة؛ ليدهش الخليفة ويؤكد له حفاوته وإكرامه - ذلك ما أوعز به أبو حامد وأوصى الطاهي الخصوصي أن يجعل في جملة الأشربة الهاضمة الشراب الذي أمره أن يضع السم فيه.
فلم يتمالك المعز لدين الله عن إبداء إعجابه بتلك الحفاوة وذكر على الخصوص لذة الأطعمة، فقال له حمدون: «إننا تجاسرنا في إخراج أمير المؤمنين عن عادته في الاقتصار على الأطعمة البسيطة التي اقتضاها تقشفه إلى ما تعوده غيره من الملوك المنغمسين في ملذات الدنيا، وإنما فعلنا ذلك على سبيل التجربة فقط.»
فقال المعز: «قد علمنا ذلك ولا بأس به ... ولكن كيف تأتى لك هذا وأنت هنا؟»
فقال: «عهدت بذلك إلى طاه كان من جملة طهاة صاحب قرطبة، وهو كثير التفنن.» وأشار إلى الطاهي الواقف في جملة الواقفين وقال: «هذا الطاهي يا سيدي أتقن من عرفت من الطهاة للأطعمة.»
فالتفت المعز إليه فرآه في أنظف ما يكون من الثياب وقد حمل بيده إبريقا من الذهب وقدحا فابتسم المعز ابتسام من عرف الحق وأغضى عنه وقال: «بمثل هذه الأطعمة أوهنت عزائم أولئك ... لكن لا خوف علينا؛ لأننا لن نعود إلى مثلها بعد الآن ... ما الذي تحمله بهذا الإبريق؟ لم يبق لنا قدرة على طعام.»
فتقدم الطاهي وقال: «هذا يا سيدي شراب هاضم لا تلبث أن تتناول منه قدحا حتى تذهب التخمة وتشعر بالرغبة في الطعام ثانية.»
قال ذلك وصب منه في قدح من الزجاج منقوش وناوله إلى حمدون؛ فأخذ حمدون القدح وجعل يتفرس في ما عليه من النقوش - وهو من جملة آنية ابتاعها من تاجر حملها من قرطبة. ثم نظر إلى الخليفة وقال: «هذا الشراب الهاضم لم أذقه قبل الآن فإنه من استنباط هذا الطاهي؛ ولذلك ينبغي أن أذوقه قبل تقديمه لأمير المؤمنين.» أو هي عادتهم في الشروع بالطعام قبل ضيوفهم ويعدون ذلك مبالغة في الحفاوة. ثم أدنى القدح من فيه وشربه وأخذ يتلمظ ويبدي الإعجاب. وأمر الساقي فصب في قدح آخر ناوله إلى الخليفة وآخر ناوله إلى القائد جوهر وآخر للحسين.
الفصل الثامن والثلاثون
قادم مفاجئ
Page inconnue