قال: «هو ابنه أو ابن أخيه سالم - على ما أظن - نعم أعرفهما، وإنهما يترددان على الأمير كثيرا كما تعلم، وأنا أستغرب أمرهما ولا أعلم لهما محلا سوى ...»
فقطع يعقوب كلامه قائلا: «أنا أعلم أنهما يحرضان أميرنا على فتح القيروان ...»
فدهش الطبيب، وقال: «أين نحن والقيروان! ألا يكفينا ما يشغلنا من أنفسنا، ما الذي تريده مني؟»
قال: «إن هذا الغلام يريد أن يحضر مجلس كافور ويسمع ما يدور فيه خصوصا عند وجود سالم وعمه ... ولكيلا أخفي عنك شيئا أخبرك أن هذا الرسول ليس غلاما، وإنما هو فتاة بلباس الغلمان، احفظ ذلك سرا، ولها شأن خاص مع سالم هذا. وقد بلغها عنه أقوال قالها لكافور لم تصدقها فأحبت أن تسمعها بأذنيها. فالذي أراه أن تأخذها معك بدل غلامك الذي يحمل لك الأدوات والعقاقير وتجتهد بأن تدخلها معك دار الأمير؛ لتكون بمشهد ومسمع.»
فاستغرب شالوم كونها فتاة وقال: «لابد لهذه الفتاة من حديث هام، وقد تاقت نفسي لرؤيتها، ادعها وقدمها لي وأوصها أن تضع ثقتها بي، ثم أخبرها ماذا ينبغي أن تعمل ليتم لها ما تريده.»
فحول يعقوب بصره نحوها، فانتبهت لمياء، فأشار إليها بالقدوم إليه، فأسرعت وقد توردت وجنتاها فظهرت الأنوثة فيها. ولكن القوة كانت بادية في وجهها وسائر حركاتها فأعجب الطبيب بهيبتها وجمالها وبريق عينيها. فلما دخلت قال يعقوب: «هذا الطبيب شالوم طبيب مولانا الأمير كافور، وهو صديق حميم أثق به كثيرا، وقد أطلعته على قصدك واتفقنا على طريقة تحضرين بها مجلس كافور وتشاهدين كل ما تريدينه هناك ...» وضحك.
فأدركت من مخاطبته إياها بصيغة التأنيث أن الطبيب مطلع على حقيقة أمرها، فبانت البغتة في عينيها وأطرقت. فابتدرها يعقوب قائلا: «لا تخجلي يا بنية من اطلاع الطبيب على حقيقتك؛ فإنه على رأيي من كل وجه. والمطلوب الآن أن تكوني هنا بعد قليل وسيأتيك بالثياب اللازمة تتنكرين بها فلا يظن من يراك إلا أنك غلام الطبيب شالوم وتمكثين هنا حتى يأتي هو فتذهبين معه في أصيل هذا اليوم وأكون أنا قد سبقتكما إلى هناك. ولا بد لي من الذهاب حالا؛ لأني أطلت الغياب عن المجلس، وإنما شغلني عنه القيام بأمرك، فامكثي هنا ريثما تأتي الثياب وتلبسينها وسأوصي قيمة المنزل بك خيرا، وكل ما تطلبينه يقضى.»
فلم يسعها إلا السكوت وقد شغل خاطرها بهذه المهمة بما فيه من التجسس، وهو يخالف ما فطرت عليه من استقلال الفكر وحرية القول. ولكنها تحملت ذلك في سبيل كشف حقيقة ذلك الرجل الذي خانها في عواطفها.
ثم نهض الطبيب وودعهما وانصرف على أن يبعث بالثوب والأدوات والعقاقير، وودعها يعقوب بعد أن لبس الثوب الذي يلقى به الأمير ومضى إليه.
وبعد قليل أتت تلك الأشياء فلبست لمياء ثوب غلام الطبيب - كما كانت العادة يومئذ - وعلقت جرابا من الديباج بعنقها وفيه أدوات الجراحة وبعض العقاقير الضرورية، فأصبح من يراها لا يشك أنها غلام الطبيب شالوم.
Page inconnue