وفيما هما في الحديث آنسا نارا عن بعد فقال حماد: «وما هذه النار ألعلنا على مقربة من القرى.»
فوقف سلمان ونظر إلى ما حوله وفكر قليلا ثم قال: «إن النور الذي تراه هو في بلدة يسمونها بيت الجمال أو أم الجمال فإذا شئت أن نتحول إليها فعلنا وإلا فإننا سنشرف على جدول فيه ماء نشرب منه ونسقى جوادينا ونبيت فيه بقية ليلتنا.»
قال: «دعنا من البيوت لئلا ينكشف أمرنا.»
الفصل الحادي عشر
مسبعة الزرقاء
وسارا حتى أشرفا على واد فيه ماء جار من الشرق إلى الغرب وقد غطته الأشجار من الجانبين فوقفا في أعلاه ونظرا إلى أسفله فهالهما منظره لسكون الطبيعة وهدوء الليل وضعف الأظلال لا يسمعان سوى نقيق الضفادع وقرقرة حبل القر وحفيف الشجر حفيفا بمرور النسيم وشعرا ببرد خفيف فترجلا ونزلا الوادي يقودان الجوادين وراءهما وضوء القمر لضعفه لم يكن يريهما الطريق إلا بصيصا وكانا يسمعان لوقع حوافر الخيل دويا يردده الصدى من جوانب الوادي حتى يخال لهما أن فرسانا آخرين قادمون إليهما ثم لا يلبثان أن ينتبها إلى الصدى على أن هيئة المكان كانت مستطلة عليهما وخصوصا سلمان فقد كان أكثر وجلا من حماد ليس لضعف فيه بل لعلمه أنهما على مقربة من الزرقاء وهي مسبعة مشهورة بالضراوة وفيها السباع ولكنه كتم ذلك على حماد لئلا يثير هواجسه واتخذ التدابير اللازمة للدفاع عند الحاجة فظلا سائرين حتى اقتربا من الماء ونظرا إلى موقفهما فإذا هما في واد بين جبلين والوادي تكسوه النباتات وبينها أشجار هائلة.
فشد سلمان الفرسين إلى شجرة على مسافة من الماء ريثما يستريحان قبل الشرب وسار مع حماد إلى الماء فغسلا وشربا فنزع حماد كوفيته وعقص شعره لئلا يرف على كتفيه ووجهه ثم افترش سلمان عباءته على منبسط من الأرض تحت شجرة جلسا عليها والجوادان يصهلان ويفحصان الأرض في طلب الماء.
ثم اتكأ حماد وجلس سلمان إلى جانبه يحادثه وحماد ساكت وذهنه مشتغل بنقيق الضفادع ونعيق الغربان على تلك الأشجار وحفيف الورق والأغصان وخرير الماء ولولا شواغله بهواجسه في والده وهند وثعلبة لخاف منظر ذلك الوادي ولكنه كان لا يزال متهيجا تتقاذفه الشواغل فلبث صامتا لا يتكلم فتركه سلمان وسار إلى الجوادين فحلهما وجاء بهما إلى الماء ووقف بهما على منحدر بالقرب من مجلس حماد وضم العنانين وربطهما ووقف بجانبهما يتلاهى ببند حسامه وعيناه شاخصتان إلى قمم تلك الجبال كأنه يتوقع محذورا وحماد غافل عن كل ذلك بهواجسه فلما روى الفرسان أعادهما إلى مربطهما وجاء إلى مجلس سيده وأسند ظهره إلى جزع الشجرة وكان التعب قد أخذ من حماد مأخذا عظيما فالتف بعباءته وغلب النعاس عليه فنام أما سلمان فلم يستطع رقادا خوفا من غائلة السباع وجعل يتوسل إلى الله أن يمضي ذلك الليل بسلام فما زال كذلك إلى قبيل الفجر فذبلت عيناه وهو جالس ولم يكد يغمضهما حتى سمع صهيل الجوادين معا وقرقعة اللجامين فانتبه ونظر إليهما فإذا بهما قد أجفلا فخفق قلبه واستعاذ بالله ونهض لساعته وإلتفت يمنة ويسرة فلم ير شيئا ثم سمع قرقعة حجارة تتدحرج من قمة الجبل المقابل لهما حتى وصل بعضها إلى الماء على مقربة منه وأجفل الجوادان وأكثرا من الصهيل فانتبه حماد وصاح: «ما هذا يا سلمان.»
فقال: «انهض يا سيدي اننا في خطر.» فنهض حماد وأسرع سلمان إليه قائلا: «نحن على مقربة من الزرقاء فلعل بعض السباع جاءت ترد الماء ولا خوف علينا منها لأن الماء يفصل بيننا وبينها فهلم إلى جوادك ولنعد من حيث جئنا.» فهما بالجوادين وما كادا يركبان حتى رأيا أسدا منحدرا نحو الماء يتمايل عجبا بمشيته المعهودة والأحجار تتدحرج أمامه وعيناه تتلألآن كأنهما سراجان متقدان فاثنيا العنانين نحو الجبل فسمعا صوتا كالرعد القاصف ارتجت له جوانب الوادي فقال سلمان: «هذا هو زئير الأسد يا سيدي فأسرع بنا ولا تخف فإن الماء حائل بيننا وبينه.»
فوخزا الجوادين وصعدا حتى وصلا إلى مرتفع والأسد يزأر عن بعد وهما يحسبانه وراءهما لهول صوته ومجاوبة الصدى فلما وصلا قمة الجبل إلتفتا إلى الوادي وكان النور قد لاح فشاهدا الأسد عند الماء يشرب.
Page inconnue