[مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله ﷺ أهل الجاهلية]
[مقدمة الطبعة الأولى] محب الدين الخطيب
مسائل الجاهلية
التي خالف فيها رسول الله ﷺ أهل الجاهلية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الأولى
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا (محمد) رافع لواء الهدى في العالمين وبعد فإن الخلفاء الراشدين ورجال الدولة في زمن بنى أمية كانوا يعهدون بلواء الإسلام إلى السواعد العربية تخوض به الآفاق شرقًا وغربًا، وإلى الألسنة العربية تدعو إليه بادية وحاضرة، فكانت الدولة على اتصال بجزيرة العرب تغذي الجيش من فتيانها، وتعنى بأحوال أهلهم في ربوعهم وبين جبالهم، وتوسد الأمور في الأقطار إلى النوابغ من عقلائهم وحكمائهم، فكان الإسلام غضًا في جزيرة العرب، وهدايته معمولا بها تحت الخيمة وفي بيت الشعر وبين جذوع النخيل فما برح الإسلام بذلك منصورًا، وممالكه بازدياد، والناس يدخلون في دين الله شعوبًا وأممًا، إلى أن استدار الزمان مرة أخرى فجرب الخلفاء من بنى العباس الاعتماد على أهل السياسة والحمية الدنيوية من الفرس في إقامة دعائم ملكهم، ولم يكن أهل السياسة والدنيا منهم كما كان أهل التقوى والدين، فأبدت المجوسية نواجذها، ورغم الفتك بأبي مسلم فإن الحال ظلت على ذلك إلى زمن أمير المؤمنين المعتصم فأخذ دفة السفينة من أيدي الفرس وأسلمها إلى أيدي غلمانه من الترك، فنهض من شر واحد ووقع في شرين: لأن للفرس سابقة وحضارة ليس لهؤلاء مثلهما. وفي هذه الحادثة يقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده:
[خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه. أكثر من ذلك الجند الأجنبي، وأقام عليه الرؤساء منه. فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء، واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم، ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم، لبسوا
1 / 207
الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته. . .] منذ تلك الأزمان وجزيرة العرب مهملة: لا تعنيها الدولة، ولا تستعين بها. وكانت نتيجة ذلك أن "الجاهلية" عادت إلى جزيرة العرب واستقرت فيها قرونًا طويلة.
ثم ظهر في صميم جزيرة العرب رجل عظيم لا يزال حقه على المسلمين مهضومًا فيهم، وأعني به الرجل المصلح، داعية العرب والمسلمين للرجوع إلى فطرة الإسلام الأولى، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب مؤلف أصل هذا الكتاب، هذا الرجل نظر فيما عليه سكان جزيرة العرب في زمنه فرآهم في حالة سوء: العصبية الجاهلية كالتي نهى عنها هادي البشر (محمد) ﷺ، ودعاء غير الله كالذي جاء ﷺ لاستئصال جرثومته، والاحتيال بمختلف الأسباب للابتعاد عن الحق والهدى كالذي كان قبل مبعثه ﷺ، ثم التقاطع والتفرق، والتواصي بالباطل دون الحق، والاعتداء على حق الغير، والعطالة، والكسل، والخرافات والأوهام، والضغينة، والفوضى، والقذارة، والمكر، والخداع، وعدم الانقياد للنظام بحيث كان كل رجل أمة وحده. هذه أمراض رآها مؤلف أصل هذا الكتاب موجودة في قومه وفي بلاده، ورأى السنة المحمدية تدور حول تطهير الإنسانية من هذه الشوائب، فقال في نفسه: - إذن نحن في مثل ما كان عليه أهل الجاهلية!
حينئذ عاهد ربه على أن يعلن الحرب على هذه الأمراض، وأن يداويها بالطب النبوي من كتاب الله وسنة رسوله.
قلت إنه كان رجلا عظيما، لأنه ثبت في جهاده إلى أن لقي ربه، فحول الله تلك الأوطان العربية على يده وبطريقته من أخلاق الجاهلية وأطوارها إلى أمة تقيم الصلاة ساعة الدعوة إليها، وتؤتي الزكاة عند استحقاقها، ولا يشهد رمضان فيها ما يشاهده في مصر والشام والعراق من فضائح، ويحجون بقلوب لا متسع فيها لغير الإيمان بالله، وكل رجل منهم عنده كفنه يحمله مع سلاحه إذا ناداه الإمام للجهاد.
1 / 208
إن تحويل هذه الأمة مما كانت عليه إلى ما صارت إليه ليس من الأمور الهينة، وأنا كلما تصورت في ذهني عظمة محمد بن عبد الوهاب ﵀ يتضاءل في نظري كثير من الشخصيات التي أنا معجب بها، فأنظر إليه بعين الإكبار والإجلال. نعم، كان في نجد جمود وشدة، لكنهما ناشئان عن عزلة النجديين في بلاد منزوية عن ممر الأمم، وأنا على يقين بأن اتصال نجد بالحجاز واتصال النجديين والحجازيين بحجاج الأقطار، وازدياد عدد الحجيج باستتباب الأمن ورسوخه، سيكون فيه خير عظيم للحجاز ونجد والعالم الإسلامي جميعًا.
وبعد فإن هذه الرسالة إحدى نظرات محمد بن عبد الوهاب إلى المرض العام الذي كان سكان الجزيرة العربية مصابين بأعراضه، والظاهر أنه جعلها رءوس أقلام ليتوسع فيها يومًا ما فلم يتيسر ذلك له وقد طبعت في الهند على اختصارها الذي جعلها بمقام فهرس للمسائل المائة التي خالف فيها رسول الله ﷺ أهل الجاهلية من الأميين والكتابيين، ولما رأى علامة العراق السيد محمود شكري الألوسي ﵀ اختصارها، وأدرك أنها ليست تأليفًا ولكنها مذكرة لتأليف، عمد إلى شرحها. ولا أعني شرح ألفاظها بل شرح معانيها، أي أنه أتم العمل الذي كان يريد المصلح النجدي العظيم أن يتمه.
ولما كان كتاب السيد محمود شكري الألوسي لا يزال مخطوطًا يخشى أن تجتاحه الجوائح، فقد رأى صديقي أديب العراق السيد محمد بهجة الأثرى - وهو خير من أنجبهم العلامة الألوسي - أن يجعل هذا الكتاب هديته إليَّ عند زيارته القاهرة في شهر صفر سنه ١٣٤٧ هـ، ورأيت من قدر هذه الهدية عندي أن أبادر إلى طبعها ووضعها بين أيدي الناس تعميما لفائدتها وأن أجعلها هدية المكتبة السلفية إلى سيد شباب هذه الدعوة الأمير فيصل السعود لأنه كما ورث حُماتها بآبائه ورث صاحب الدعوة نفسه من طرف أمه، فلم أجد أحدًا أولى بها منه. والله ولي التوفيق.
القاهرة: ١٢ ربيع الأول ١٣٤٧ هـ
محب الدين الخطيب
1 / 209
[مقدمة محمود شكري الألوسي البغدادي]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا للدين المبين، وأنار لنا الصراط المستقيم والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه الغر الميامين.
أما بعد فيقول العبد المفتقر إلى عفو الله وغفرانه محمود شكري الألوسي البغدادي كان الله تعالى له، وأحسن عمله: إني قد وقفت على رسالة صغيرة الحجم كثيرة الفوائد تشتمل على نحو مائة مسألة من المسائل التي خالف فيها رسول الله ﷺ أهل الجاهلية من الأميين والكتابيين، وهي أمور ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان ولا أخذت عن نبي من النبيين، ألفها الإمام محيي السنة، ومجدد الشريعة النبوية، أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب النجدي الحنبلي، تغمده الله تعالى برحمته. فرأيتها في غاية الإيجاز، بل كادت تعد من قبيل الألغاز، قد عبر عن كثير منها بعبارة مجملة، وأتى فيها بدلائل ليست بمشروحة ولا مفصلة. حتى إن من ينظرها ليظن أنها فهرس كتاب، قد عدت فيه المسائل من غير فصول ولا أبواب، ولاشتمالها على تلك المسائل المهمة الآخذة بيد المتمسك بها إلى منازل الرحمة، أحببت أن أعلق عليها شرحًا يفصل مجملها ويكشف معضلها من غير إيجاز مخل ولا إطناب ممل.
مقتصرًا فيه على أوضح الأقوال، ومبينًا ما أورده من برهان ودليل، عسى الله أن ينفع بذلك المسلمين، ويهدي به من يشاء من عباده المتقين. فيكون سببًا للثواب، والفوز يوم العرض والحساب، والأمن من أليم العذاب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
1 / 210
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمة الله تعالى عليه: هذِهِ مَسائِلُ خالفَ فيها رسول الله ﷺ ما عَلَيْهِ أهلُ الجاهِلِيَّةِ الكِتابِيِّينَ والأمِّيِّينَ، مِمَّا لا غِنى لمُسْلِمٍ عَنْ مَعْرفَتِها. فالضِّد يظهِرُ حُسْنَهُ الضِّدُّ وَبِضدِّها تتميز الأشْياءُ وَأهَمُّ ما فيها وَأشَدُّهُ خَطَرا، عَدَمُ إيمانِ القَلْبِ بِما جاءَ به الرَّسولُ ﷺ، فَإِنِ انْضافَ إِلى ذلكَ اسْتِحْسانُ دِينِ الجاهِلِيَّةِ والإِيمانُ بهِ، تَمَّتِ الخَسارةُ والعياذُ باللهِ تعالى، كما قال تعالى [العنكبوت: ٥٢]:. . ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [العنكبوت: ٥٢]
[دعاء الصالحين]
دعاء الصالحين (المسألة الأولى): أنَّهم يَتَعبَدونَ بإشْراكِ الصَّالِحينَ فِي دعاء اللهِ تعالى وعبادته، وَيَرَوْنَ ذلكَ مِنْ تَعْظيم الصَّالِحينَ الَّذي يُحِبُّهُ الله، ويُريدونَ بِذلكَ شَفاعتَهم عند الله لِظَنِّهِم أنَّهم يُحِبونَ ذلكَ كَما قَالَ تَعَالى في أوائلِ [الزُّمَرِ٢-٣]: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ - أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الزمر: ٢ - ٣] وقالَ تَعالى [يونس: ١٨]: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: ١٨] وهذهِ أعظمُ مسألة خالَفَهم فيها رَسول الله ﷺ، فَأتى بالإِخلاص، وأخْبَرَهم أنَّه دِينُ الله الَّذي لا يُقْبَلُ مِن أحَدٍ سِواهُ وأنَّ مَنْ فَعَلَ ما يسْتَحْسنونه، حَرَّمَ الله عليه الجَنَّةَ، ومأواه النَّارُ.
وهذه المسألةُ هي الدِّينُ كُلُّهُ، وَلأجْلِها تَفَرَّقَ النَّاسُ بينَ مسلمٍ وكافِرٍ، وعندَها وَقَعَتِ العَداوةُ، ولأجلِها شُرِعَ الجهادُ؛ كما قال تَعالى في [البقرة: ١٩٣]: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٣]
1 / 211
[التفرق]
التفرق (الثانية): أنهم مُتَفَرِّقونَ، ويَرَوْنَ السَّمْعَ والطَّاعةَ مَهانَةً ورَذالةً. فَأمَرَهُمُ الله بالاجتِماعِ، وَنَهاهُم عَن التفْرقة فقالَ عزَّ ذكرُه [آل عمران: ١٠٢ -١٠٣] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ - وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢ - ١٠٣]
يُقالُ: أرادَ سُبحانه بما ذُكرَ ما كانَ بين الأوسِ والخَزْرجِ مِنَ الحُروبِ التي تَطاوَلَت مِائةً وَعِشرينَ سَنَةً، إِلى أنْ أَلَّفَ سُبحانَه بينهم بالإِسلام، فَزالتِ الأحقادُ، قاله ابنُ إسحاقَ، وكان يومُ بُعاث آخِرَ الحُروبِ التي جَرَت بينهم، وقد فُصِّلَ ذلكَ في "الكامل " ومِن النَّاسِ مَن يقولُ: أراد ما كان بَيْنَ مُشركي العَرَبِ مِنَ التَّنازعُ الطَّويلِ والقتالِ العريضِ، ومنه حربُ البَسوسِ، كما نُقلَ عن الحَسَنِ ﵁. وَقَالَ تَعالى [التغابن: ١٦]: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ [التغابن: ١٦] إلى غيرِ ذلِكَ من الآيات النَّاصَّةِ على النَّهي عنِ الاستبدادِ والتَّفَرُّقِ وعَدَمِ الانقيادِ والطَّاعة مِمَّا كانَ عليه أهلُ الجاهِلِيَّة.
[مخالفة ولي الأمر]
مخالفة ولي الأمر (الثالثة) أنَّ مُخالَفةَ وليِّ الأمْرِ، وعَدمَ الانقيادِ له عندهم فضيلةٌ، وبعضهم يجعلهُ دينا. فخالفهم النَّبِيُّ ﷺ في ذلك، وأمَرهم بالصَّبْرِ على جَوْرِ الوُلاةِ والسَّمعِ والطَّاعة والنّصيحةِ لَهُمْ، وَغَلَّظ في ذلك وأبدى وأعادَ. وهذه الثلاثُ هي التي وَرَدَ فيها ما في الصَّحيح ﷺ: «يرضى لكم ثلاثا: أن تعبدوه ولا تُشْرِكوا به شَيْئا، وأنْ تَعْتَصِموا بِحَبل الله جَميْعا، وأن تُناصِحوا مَنْ وَلاَهُ الله أمرَكُم» . وروى البُخاريُّ عن ابنِ عبَّاس عن النَّبِيِّ ﷺ قال: «مَن كَرِهَ مِنْ أميرِه شَيْئا، فلْيَصْبِرْ، فإِنه مَنْ خَرَجَ مِنَ السُّلطانِ شِبْرًا، ماتَ مِيْتةً جاهِلِيةً» وَرَوى
1 / 212
أَيْضًا عن جُنادةَ بنِ أبي أُميَّة، قال: دَخَلنا على عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ وهو مريضٌ، فَقُلْنا: أصلَحَكَ الله، حَدِّثْ بِحَديثٍ يَنْفَعُكَ الله بِهِ سَمِعْتهُ مِن النبي ﷺ، قالَ: «دَعانا النَّبِيُّ ﷺ فَبايَعَنا، فكان فيما أخَذَ عَلَينا: أنْ بايَعَنا على السَّمْعِ والطَّاعَة في مَنْشَطِنا وَمَكْرَهِنا وعُسْرِنا وَيُسْرِنا وأثَرَةٍ علينا، وأنْ لا نُنازعَ الأمرَ أهلَهُ، إلا أن تَرَوْا كُفْرًا بَواحًا عندكم من الله فيه برهانٌ» . والأحاديثُ الصحيحةُ في هذا البابِ كثيرة، ولم يقعْ خَلَلٌ في دِين النَّاسِ أو دُنياهُم إلاَّ من الإِخلال بِهذِه الوَصِيَّةِ.
[التقليد]
التقليد (الرابعة): أنَّ دِينَهم مَبْنيٌّ على أُصولٍ أعْظَمُها التَّقْليدُ، فهوَ القاعدةُ الكُبرى لجميعِ الكفَّارِ مِنَ الأوَّلينَ والآخِرين: كما قال تعالى في [الزخرف: ٢٣- ٢٤]: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ - قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ [الزخرف: ٢٣ - ٢٤] فَأَمَرَهُمُ الله تعالى بقوله في [الأعراف: ٣]: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: ٣]
وقالَ تَعالى: [البقرة: ١٧٠]: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠] إلى غير ذلكَ مِمَّا يَدُلُّ على أنَّ أهلَ الجاهِلِيَّة كانوا في رِبْقَةِ التقليدِ، لا يُحكِّمونَ لَهم رَأيًا، وَلاَ يُشْغِلونَ فِكرًا؛ فلِذلِكَ تاهوا في أودِيَة الجَهالَة. وهكذا كُلُّ مَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهم في أيِّ عصرٍ كانَ.
[الاقتداء بالعالم الفاسق أو العابد الجاهل]
الاقتداء بالعالم الفاسق، أو العابد الجاهل. (الخامسة): الاقِتداءُ بِفَسَقَةِ أهلِ العِلْمِ وجهَّالِهِم وعبَّادِهِم فَحَذَّرَهُم الله تَعالى مِن ذلكَ بقوله [التوبة: ٣٤]: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] وقال تَعالى [المائدة: ٧٧]: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ [المائدة: ٧٧]
1 / 213
إلى آَيات أُخَرَ تُنادِي بِبُطْلانِ الاقْتِداءِ بالفُسَّاقِ وَأهْلِ الضَّلالَة والغَيِّ، وذلِكَ مِنْ سنَنِ الجاهِلِيَّةِ وطرائِقِهمُ المِعْوَجَّةِ.
[الاحتجاج بما كان عليه الآباء بلا دليل]
الاحتجاج بما كان عليه الآباء بلا دليل (السادسة): الاحتِجاجُ بِما كانَ عليه أهلُ القرونِ السَّالِفَةِ، مِن غَيرِ تَحكيمِ العَقْلِ، والأخْذِ بِالدَّليلِ الصَّحيح. وقد أبْطَلَ الله تَعالى ذلكَ بِقولهِ في [طه: ٤٩-٥٤]: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى - قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى - قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى - قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى - الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى - كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ﴾ [طه: ٤٩ - ٥٤] إلخ.
وقالَ تَعالى فيِ [القَصَصِ: ٣٦-٣٧]: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [القصص: ٣٦ - ٣٧] وَقَالَ عَزَّ ذكْرُه في سورةِ [المؤمنونَ: ٢٣-٢٥]: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ [المؤمنون: ٢٣ - ٢٥]
وقالَ تَعالى فيِ [ص: ٦-٧]: ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ - مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ﴾ [ص: ٦ - ٧]
فَجَعَلوا مَدارَ احْتِجاجِهِم على عَدَمِ قَبولِ ما جاءَت بِهِ الرُّسُلُ أنَّه لم يَكُنْ عليهِ أسْلافُهُم، وَلا عَرَفوه مِنْهم، فانْظُرْ إلى سُوءِ مدارِكِهم، وَجُمودِ قرائِحِهِم، وَلو كانَت لَهُم أعينٌ يُبْصِرونَ بِها، وآذانٌ يَسمَعون بها، لَعَرفَوا الحَقَّ بدليلِهِ، وانْقادوا لِليَقينِ مِن غيرِ تَعْليلِهِ، وَهَكَذا أخلافُهُم ووراثهم، قَد تَشابَهت قلوبُهُم.
1 / 214
[الاحتجاج على الحق بقلة أهله]
الاحتجاج على الحق بقلة أهله (السابعة): الاعْتِمادُ عَلى الكَثْرَةِ، والاحْتِجاجُ بالسَّوادِ الأعْظمِ والاحْتِجاجُ عَلى بُطْلانِ الشَّيْءبِقِلَّةِ أهلِهِ. فَأنْزَلَ الله تَعالى ضِدَّ ذَلِكَ وما يُبْطِلُهُ، فَقَالَ في [الأنعام: ١١٦-١١٧]: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: ١١٦ - ١١٧]
فالكثرةُ على خِلافِ الحَقِّ لا تستوجِبُ العُدول عَنِ اتِّباعِهِ لِمَنْ كانَ لَهُ بَصيرةٌ وَقَلب، فالحقُّ أحَقُّ بالاتِّباع، وإن قَلَّ أنْصارُهُ؛ كما قال تَعالى [ص: ٢٤]: ﴿قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ [ص: ٢٤] فأخْبَرَ الله عن أهلِ الحَقِّ أنَهم قليلون. غيرَ أنَّ القلَّةَ لا تَضرُّهُمْ.
تُعَيِّرُنا أنِّا قَليلٌ عَدِيدُنا ... فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الكِرامَ قَليلُ (١)
فالمقصودُ أنَّ مَن لَهُ بَصيرةٌ ينظرُ إلى الدَّليلِ، ويأخذُ ما يَسْتنتِجُهُ البُرْهانُ، وإنْ قَلَّ العارِفونَ بِهِ، المُنْقادونَ لهُ، ومن أخَذَ ما عَليه الأكثرُ، وما ألِفَتْهُ العامَّةُ من غيرِ نظر لدليلِ فهو مخطئٌ، سالك سبيلَ الجاهِلِية، مقدوحٌ عند أهلِ البصائرِ.
[الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبًا]
الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبًا. (الثامنة) الاستدلال على بطلان الشيء بكونه غريبًا. فرد الله تَعالى ذلك بقوله في [هود: ١١٦]: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: ١١٦] ومعنى الآية: (فَلولَا كاَنَ) تحضيضٌ فيه معنى التفجُّع، أي: فهل كان (مِنَ القُرونِ) أي الأقوام المقتربة في زمان واحد ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ [هود: ١١٦] أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل، أو ذَوو فضل، على أن يكون البقية اسمًا للفضل، والهاءُ (٢) .
_________
(١) للسموأل.
(٢) أي هاء التأنيث في "بقية".
1 / 215
للنقل، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم، أي: من خِيارهم، ومنه قولهم في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا، ﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ﴾ [هود: ١١٦] الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قَصَصهم، وفُسِّر الفساد بالكفر وما اقترن به من المعاصي، ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾ [هود: ١١٦] استثناءٌ منقطعٌ، أي وَلَكِن قَليلا منهم أنْجَينا لِكَونهِم كانوا ينهون.
[انخداع أهل القوة والحيلة بقوتهم وحيلتهم]
انخداع أهل القوة والحيلة بقوتهم وحيلتهم (التاسعة): الاسْتِدلالُ على المطلوب، والاحتجاجُ بِقومٍ أُعْطوا مِن القوَّةِ في الفَهْمِ والإِدْراكِ، وفي القُدْرَةِ والمُلْكِ؛ ظَنًّا أنَّ ذلك يَمْنَعُهُم من الضَّلالِ. فَرَدَّ الله تَعالى ذلك عليهم بقوله سبحانه في [الأحقاف: ٢٤-٢٦]: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ - تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ - وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٤ - ٢٦] ومعنى الآية: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٦] أي: قَوَّيْنا عادًا وأقْدَرْناهُم، و"ما" في قولِهِ تَعالى: فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ موصولةٌ أو موصوفةٌ و"إن" نافية، أيْ: في الَّذي، أو في شيءٍ ما مَكَّنَّاكم فيه من السَّعَةِ والبَسْطَةِ وطُولِ الأعمارِ وسائرِ مَبادئ التَّصَرُّفاتِ، كما في قولهِ تَعالى [الأنعام: ٦]: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ﴾ [الأنعام: ٦] ولم يَكن النَّفيُ بلفظِ "ما" كراهة لِتكريرِ اللَّفظِ، وإنِ اخْتَلَفَ المَعْنى، ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾ [الأحقاف: ٢٦] لِيَسْتَعْمِلوها فِيْما خُلِقَتْ لَهُ، وَيَعْرِفوا لكُلٍّ مِنْها ما نِيْطَت بهِ مَعْرِفَتُهُ مِن فُنونِ النِّعَمِ، وَيُسْتَدَلُّ بِها على شُؤُونِ مُنْعِمِها ﷿، وَيُداوموا على شُكْرِهِ جَلَّ ثَناؤُه ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٦] حَيثُ لم يَسْتَعْمِلوه في اسْتِماعِ الوحي ومواعظِ الرُّسلِ، ﴿وَلَا أَبْصَارُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٦] حَيثُ لم يَجْتَلوا بِها الآياتِ التكونِيَّةَ المَرسومةَ في صحائفِ العالم، ﴿وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ﴾ [الأحقاف: ٢٦]
1 / 216
حَيث لم يَسْتَعْمِلوها في معرفة الله تعالى ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأحقاف: ٢٦] أيْ: شَيْئًا من الأشياءِ، و"مِن" مَزيدَةٌ للتوكيدِ. وقولهُ: ﴿إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ [الأحقاف: ٢٦] تَعليل للنَّفيِ، ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الأحقاف: ٢٦] مِن العذابِ الذي كانوا يَستَعجِلونَه بطريقِ الاستهزاءِ، ويَقُولونَ: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأحقاف: ٢٢] فَهذه الآية تبطِلُ الاحْتِجاجَ بقومٍ أُعْطُوا مِن القوَةِ في الفهمِ والإِدراك وفي القدرةِ والملكِ؛ ظَنًّا أنَّ ذلكَ يَمْنَعُهُم منَ الضَّلالِ.
ألا تَرى أنَّ قومَ عادٍ كما أخْبَرَ عنهم التنزيلُ كانوا منَ القوَّةِ والبَسْطَةِ في الأموالِ والأبدانِ والإِدْراكِ وسَعَة الأذهانِ وغيرِ ذلك مما لم يَكن مِثْلُهُ لِلعربِ الذينَ أدركوا الإِسلامَ، ومَعَ ذلكَ ضَلُّوا عن سواءِ السَّبيلِ، وَكَذَّبوا الرُّسُلَ بالأباطيلِ، فالتَّوفيقُ للِإيمانِ باللهِ ورسلِه، والإِذعان للحق، وسُلوكِ سبيلِهِ إنِّما هو فَضْلٌ منَ الله تَعالى لا لِكَثرةِ مالٍ ولا لِحُسْنِ حالٍ.
وَمَنْ يُرِدِ الحَقَّ ويَسْتَدِلَّ بِكونِ مَن هو أحسنُ حالا منه لم يقبلْهُ، ولم يحُكِّم عقلَه، وَيَتَّبعْ ما يوصِله إِليه الدليل، فقد سَلَكَ سبيلَ الجاهِلِية، وحادَ عن المحجَّةِ المرْضِيَّة. ومِثلُ هذه الآية قولُه تَعالى [البقرة: ٨٩]: ﴿وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩] كانَ اليَهودُ يَعْلَمونَ مِن كُتُبِهِم رسالةَ محمَّدٍ ﷺ، وأنَّ الله سَيُرْسِلُ نبِيّا كَرِيما من العَرَبِ، وكانوا مِن قبلُ يَسْتَفْتِحونَ على المُشرِكينَ ببعثتِهِ، ويَقولونَ. يَا ربَنا أرْسِلِ النَّبيَّ الموعودَ إرسالُه؛ حتّىَ نَنتصرَ على الأعداءِ، فَلَمَا جاءَهُم ما عَرَفوا، وهو محمَّد ﷺ، كَفَروا بهِ؛ حَسَدًا منهم أنْ تكونَ النُّبُوَّةُ في العربِ، وهم بزعمِهم أحسنُ أثاثا ورِئْيا، ولَم يَعْلموا أنَّ النُّبُوَّةَ والإِيمانَ بها فضلٌ من الله يُؤتيهِ من يَشاءُ. ومِثلُها أيْضا قولُه تَعالى [البقرة: ١٤٦-١٤٧]: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ - الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [البقرة: ١٤٦ - ١٤٧] الضَّميرُ في قولِه: (يَعْرِفوُنَه) عائد على العِلم في قولهِ [١٤٥]: ﴿وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ١٤٥] فَكِتمانُهُم الحَقَّ، وعَدَمُ جَرْيِهِم على مُقْتَضى
1 / 217
عِلْمِهم لِما فيهم مِن الجاهِلِيَّةِ، والاعتقادِ أنَّ فضلَ الله مقصورٌ عليهم، لا يَتَعَدَّاهم إلى غيرهم وآيةُ [الأنعام: ١٩- ٢٠] موافقةٌ لِهذِه الآيةِ لفظًا ومعنًى، وهي قولُه تعالى: ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ - الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: ١٩ - ٢٠]
[انخداع أهل الثروة بثروتهم]
انخداع أهل الثروة بثروتهم (العاشرة): الاسْتدلالُ بعطاءِ الدُّنيا على مَحَبَّةِ الله تعالى قال سُبحانَه [سبأ: ٣٤-٣٩]: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ - وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ - وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ - قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: ٣٤ - ٣٩] وقال في سورة "القصص" [٤٦-٥٠]: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ - وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ - فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ - قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: ٤٦ - ٥٠] وفي آيات أخرى في سورة [القصص ٧٦ -
1 / 218
٧٨ -] يقول الله سبحانه ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ - وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ - قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ [القصص: ٧٦ - ٧٨]
فقدْ كفانا الله تعالى إبطالَ هذهِ الخَصْلة الجاهِلِيَّةِ بقوله في الآية الأولى [سبأ: ٣٦]: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [سبأ: ٣٦] وفي الآية الأخرى بقوله [القصص: ٧٨]: ﴿أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ﴾ [القصص: ٧٨] إلخ، فَعَلِمْنا مِن ذلك أنَّ محبَّة الله ورضاء الله إنَّما يَكون بطاعتِهِ والانقياد لرسلِه، والإِذعانِ للحقِّ باتِّباعِ البُرهانِ.
وأمَّا كثرةُ المالِ، وسَعَةُ الرِّزقِ، وعيشُ الرَّخاءِ، فلا دليلَ فيه على نجاةِ المُنْعمِ عليه بمثلِ ذلك، ولو كانتِ الدُّنيا وما فيها تُعادِل عند الله جَناحَ بَعوضة ما سَقى مَنْ عصاه شربةَ ماءٍ. قالَ سُبحانَه [الزخرف: ٣٣]: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ [الزخرف: ٣٣] وعلى ذلك قول القائل: (١) .
كمْ عالم عالِم أعْيَتْ مَذاهِبُهُ ... وجاهِل جاهِل تَلْقاهُ مَرْزوقا (٢)
ومما ينْسَبُ لبَعضِ الأكابرِ:
رضينا قِسْمَةَ الجَبَّارِ فينا ... لَنا عِلم وَلِلأعْداء مالُ
فإِنَّ المال يَفْنى عَنْ قريبٍ ... وَإِن العِلْمَ باقٍ لا يَزالُ
والشَّواهِدُ كثيرة. والمقصودُ أنَّ ما كانَ عليه أهلُ الجاهِلِيَّة مِنْ كونِ زَخارِفِ الدُّنيا مِن الأدلَّة على قُربِ مَن حازَها مِن الله وقَبوله عندَه فقول بعيد عن الحقِّ، ومذهب باطلٌ لا ينبغي لِمَنْ له بصيرة أنْ يُعَوِّلَ عَلَيْهِ.
_________
(١) هو أبو الحسين أحمد بن يحيى المشهور بابن الرواندي الملحد.
(٢) وبعده:
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا.
1 / 219
[الاستخفاف بالحق لضعف أهله]
الاستخفاف بالحق لضعف أهله (الحادية عشرة): الاسْتِدلالُ على بُطْلانِ الشَّيء بأخذِ الضُّعَفاءِ بِهِ، وضَعفِ فَهم من أخَذَ به، على ما يَدُلُّ عليه قولُ قومِ نوح له كما حَكاه عنهم الكِتابُ الكريمُ. قَالَ تَعالى في سورةِ [الشُّعراءِ: ١٠٥- ١١٥]: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ - إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ - إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ - فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ - قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ - إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: ١٠٥ - ١١٥]
فانْظُرْ إِلَى قومِ نُوح كَيفَ اسْتنكَفوا مِن اتِّباعِ نَبِيِّهم لِسَبَبِ اتِّباعِ الضُّعفاءِ له، وَذَلِكَ لِكونِ مَطْمَحِ أنظارِهِم الدُّنْيا، وإِلا لو كانت الآخرةُ هَمَّهم، لاتَّبَعوا الحَقَّ أيْنَما وَجَدوهُ، ولكن لِجاهِلِيتِهم أعْرَضوا عَن الحَقِّ لاتِّباعِ شَهَواتِهِم، وانْظُرْ إلى هِرَقْلَ لَمَّا كان من العَقْلِ والبَصيرةِ على جانبٍ عظيمٍ، اعتقدَ اتِّباعَ الضُّعفاءِ دليَلاَ على الحَقِّ. فقال في جُملةِ ما سألَ أبا سُفْيانَ عن رسولِ الله ﷺ. "وَسَألْتُكَ عن أشْرافِ النَّاسِ اتَّبَعوه أم ضُعفاؤهم؟ فَذَكَرْتَ أنَّ ضُعَفاءَهم اتَّبَعوه، وهم أتْباعُ الرُّسُل".
ومِثْلُ ذلكَ قوله تَعالى في سُورةِ [هُوْدٍ: ٢٥-٢٧]: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ - أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ - فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ [هود: ٢٥ - ٢٧]
[وصم أنصار الحق بما ليس فيهم]
وصم أنصار الحق بما ليس فيهم (الثانية عشرة) من خصالِ أهل الجاهلية: رمي مَنِ اتَّبَعَ الحَقَّ بِعَدَمِ الإِخلاصِ، وطَلَبِ الدُّنيا. فَرَدَّ الله عَلَيهم بقولِ نَبِيِّهم الَّذِي حكاهُ الله عن نوحِ في الآيات المذكورة في المسألةِ الحاديةَ عشرةَ، بقوله [الشعراء: ١١١- ١١٥]
1 / 220
﴿قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ - قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ - وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ - إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الشعراء: ١١١ - ١١٥] ومقصودُهُم أنَّ أتْباعَكَ فقراءُ، آمَنوا بِكَ؛ لِينالوا مقصدَهُمْ مِن العَيشِ، لا أنَّ إيمانَهم كان لِدَليلٍ يَقْتَضي صِحَّةَ ما جئتَ بِهِ؛ فَلِهذا رَدَّ عَلَيهم بمِا رَدَّ.
[التكبر عن نصرة الحق لأن أنصاره ضعفاء]
التكبر عن نصرة الحق لأن أنصاره ضعفاء (الثالثة عشرة) من خصالِ الجاهلِية الإِعراضُ عَن الدخولِ في الحَقِّ الَّذي دَخَلَ فِيهِ الضعَفاء؛ تَكَبُّرًا وأنفَةً. فردَّ الله تعالى عَلَيْهم ذلِكَ بقولِهِ في سُورةِ [الأنعام ٥٢-٥٣]: ﴿وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ - وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: ٥٢ - ٥٣] ومِثلُ ذلكَ قوله تَعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى - أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾ [عبس: ١ - ٢] وغيرِ ذَلِكَ.
وحاصلُ الرَّدِّ أنَّ مَن آمَنَ مِن هؤلاءِ الضُّعفاءِ، إِنَّما كانَ إيمانُه عَن بُرهانٍ، لا كما زعم خصومهم، ولست أنت بمسئول عنهم، ولا هم بمسئولين عن حسابك، فطردُهم عن بابِ الإِيمانِ من الظلمِ بِمَكانٍ.
[استدلالهم على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا]
استدلالهم على بطلان الشيء بكونهم أولى به لو كان حقا (الرابعة عشرة): الاسْتِدْلالُ على بُطلانِ الشَّيء بِكَونِهم أوْلى بِهِ لَوْ كانَ حَقًّا. قَالَ تَعالى في سورةِ [الأحقاف١١] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ [الأحقاف: ١١] بعدَ قوله [١٠] ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأحقاف: ١٠]
1 / 221
[جهلهم بالجامع والفارق]
جهلهم بالجامع والفارق (الخامسة عشرة): الاسْتِدلالُ بِالقياسِ الفاسِدِ، وإنكارُ القِياسِ الصَّحيحِ، وجَهْلهمْ بِالجامعِ والفارِقِ. قال تعالى في سورةِ [المؤمنين ٢٤-٢٥] ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ - إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ [المؤمنون: ٢٤ - ٢٥] وقبل الآية [٢٣]: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾ [المؤمنون: ٢٣] شُروعٌ في بيانِ إهمالِ النَّاسِ، وتركِهِم النَّظَرَ والاعتبارَ فيما عَدَّدَ سُبحانَه مِن النِّعَمِ قَبْلَ هذهِ الآية، ومن خلفهم مِن زَوالِها، وفي ذلِكَ تخويفٌ لِقريشٍ، وتقديمُ قصَّة نوحٍ ﵇ على سائرِ القَصصِ مِمَّا لا يَخفى وجهُهُ، فَقال مُتَعَطِّفا عليهم، ومُسْتَميلا لهُمْ إلى الحَقِّ ﴿يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ﴾ [الأعراف: ٦٥] أي: اعْبُدوهُ وحدَه، ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٦٥] استئنافٌ مَسوق لِتعليلِ العبادةِ المأمورِ بِها، ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ٦٥] الهَمْزَةُ لإِنكارِ الواقعِ واستقباحِهِ، والفاءُ للعطفِ على مقدَّر يَقْتَضيهِ المَقامُ، أيْ: أتَعْرِفونَ ذلكَ، أي مَضْمونَ قولهِ تَعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ٦٥] عَذابَهُ تَعالى الَّذِي يَسْتَوجِبُهُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِن تَرْكِ عَبادتِهِ سبحانَه وحْدَه، وإشراككم بِهِ ﷿ في العبادةِ ما لا يَسْتَحِقُّ الوجودَ - لَولا إيجادُ الله إياه- فَضْلا عن اسْتِحقاقِ العبادةِ، فالمُنْكَرُ عدمُ الاتِّقاءِ، مَعَ تَحقُقِ ما يوجبُه، ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ﴾ [المؤمنون: ٢٤] أي الأشرافُ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾ [المؤمنون: ٢٤] وصِفَ الملأ بالكُفْرِ مَعَ إشْراكِ الكُلِّ فيه للِإيْذانِ بكمال عَراقَتِهِم وشِدَّةِ شَكيمَتِهِم فيهِ، وليسَ المُرادُ مِن ذلكَ إلاَ ذَمَّهُم، دُونَ التَّمَيُّزِ عن أَشْرافٍ آَخَرينَ آمَنوا به ﵇ أو لم يُؤمِنْ بِهِ أحَدٌ مِن أشرافِهم، كما يُفصِح عنه قولُه: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ [هود: ٢٧] وهذا القولُ صَدَرَ مِنْهُم لِعَوامِّهِم، ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [المؤمنون: ٢٤] أي: في الجِنسِ والوصفِ، من غيرِ فرقٍ بَينَكم وبَينَه، وَصَفوهُ ﵇ بِذلِكَ مُبالَغةً في وضْعِ رتْبَتِهِ العاليةِ، وحَطِّها عن مخصِبِ النُّبَوَّةِ، وَوَصَفوه بقوله ﷾: ﴿يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾ [المؤمنون: ٢٤] إغْضابا
1 / 222
للمخاطبين عَلَيه ﵇ وإغراء لهم على معاداتِه، والتَّفَضلُ: طَلَبُ الفَضلِ، وهو كِنايَةٌ عنِ السِّيادَةِ، كأنَّه قِيلَ يُريدُ أنْ يَسودَكمْ ويتقَدَّمَكُمْ بادِّعاءَ الرِّسالة، معَ كَوْنهِ مِثْلَكمْ، ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً﴾ [المؤمنون: ٢٤] بيانٌ لِعَدَمِ رِسالةِ البَشَرِ عَلى الإِطلاقِ على زَعْمهم الفاسدِ، بَعْدَ تَحْقيقِ بَشَرِيَّتِهِ ﵇. أي وَلَو شَاءَ الله تعَالى إرسالَ الرُّسلِ، لأرْسَلَ رُسُلا مِنَ المَلائكةِ، وإنَّما قيلَ "لأنْزَلَ" لأنَّ إِرْسَالَ المَلائِكَةِ لا يكونُ إلا بطريقِ الإِنزال، ﴿مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾ [المؤمنون: ٢٤] هَذَا إشارة إلى الكلامِ المُتَضمِّنِ الأمرَ بعبادةِ الله ﷿، خاصَّةً والكَلامُ على تقديرِ مُضافٍ أيْ ما سَمعنا بمثل هذا الكلامِ في آبائِنا الماضينَ قَبْلَ بعثتِه ﵇. وقُدِّرَ المضافُ لأنَّ عدمَ السَّماعِ لكلامِ نوحٍ المذكورِ لا يصلُحُ لِلرَّدِّ فإِنَّ السَّماعَ بِمِثْلِهِ كان في القَبولِ ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ﴾ [المؤمنون: ٢٥] أيْ ما هو إلاَ رَجُلٌ به جُنُونٌ أو جِنٌّ يخْبُلونَهُ ولِذلِكَ يَقولُ ما يَقولُ، ﴿فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ [المؤمنون: ٢٥] فاحْتَمِلوهُ واصْبِروا عليه وانْتَظِروا لَعَلَّهُ يَفيقُ مِمَّا هو فِيه مَحْمول على مَرامي أحْوالِهمْ في المُكابَرَةِ والعِنادِ، وإضرابُهُم عَمَّا وَصَفوه ﵇ بِهِ مِنَ البَشَرِيَّة، وإرادَةِ التَّفَضُّلِ، إلى وصفِهِ بِما تَرَى، وهُم يَعْرِفونَ أنَّه ﵇ أرجَحُ النَّاسِ عَقْلا، وأرْزَنُهُم قَولا، وهو مَحْمولٌ على تَناقُضِ مَقالاتِهم الفاسِدَةِ، قاتَلَهم الله تَعالى أنَّى يؤفَكونَ والقياسُ الفاسدُ والصَّحيحُ، والجامعُ والفارِقُ، مُفَصَّلا في كتبِ الأصول (١) فَبَيْنَ الرُّسلُ ﵈ وسائرِ النَّاسِ مُشابَهَة مِن جهةِ البشريَّةِ ولوازِمِها الضروريَّةِ، فيَصِحُّ حينئذٍ قياسُ الرُّسُلِ على غيرِهِم فيها، وعليه قولُه تَعالى [الكهف: ١١٠، فصلت: ٦]: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ [فصلت: ٦] وبَيْنَ الرُّسُلِ والأنبياءِ ﵈ وغيرِهِم مِن البَشَرِ فُروق كثيرة منها أنَّ الله تعالى اصْطفاهم على النَّاسِ بِرسالاتِه وبكلامِهِ ووحْيِهِ وخصهم بذلك، فَلا يُقاسُ أحَدٌ مِن النَّاسِ بِهِم حِينئذٍ مِن هذِهِ الجِهَةِ، كَما لاَ يَصِحُّ قياسُ غيرِهِم بِهم في سائر
_________
(١) وأجود ما كتب في الاستدلال بالقياس، وتمييز صحيحه من سقيمه، كتاب (القياس في الشرع الإسلامي) لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم، وقد طبعته المطبعة السلفية مرتين.
1 / 223
خَصائِصهِم التي فُصِّلَتْ في غيرِ هذَا المَوضعِ، فالجاهِلِيَّةُ لم يُمَيِّزوا بَين القِياس الصحيح والفاسِدِ، ولا عرفوا الجامع ولا الفارِق، كما سَمِعتَ مِن قِياسِهم الرّسُل على غَيرِهِم، وهَكَذا أتْباعُهُمُ اليومَ ومَن هو على شاكِلَتِهمْ.
[الغلو في الصالحين]
الغلو في الصالحين (السادسة عشرة): الغُلوُّ في الصَّالِحينَ مِن العُلَماءِ والأولِياء، كقوله تَعالى في سورة [التوبة ٣٠- ٣٢]: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ - اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ - يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٣٠ - ٣٢] فاتِّخاذُ أحبارِ النَّاسِ أرْبابا يُحَلِّلونَ وَيُحَرِّمونَ، وَيَتَصَرَّفونَ فِي الكَونِ ويُنادَونَ في دَفعِ ضُرٍّ أو جَلْبِ نَفْعٍ مِن جاهِلِيةِ أهل الكِتابِيِّينَ، ثُمَّ سَرى إلى غيرِهِم من جاهِلِيَّةِ العَرَبِ، ولهمُ اليومَ بقايا في مَشارقِ الأرضِ ومَغارِبِها، تصديقًا لِقولِ النَّبِيِّ ﷺ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنن مَنْ كانَ قَبْلَكُم» الحديث، حَتّىَ نَرى غالبَ النَّاسِ اليومَ مُعْرِضينَ عن الله، وعن دينه الَّذِي ارْتَضاه، مَتَوَغِّلينَ في البِدَع، تائِهينَ في أودِيَة الضَّلالِ، مُعادينَ لِلْكِتابِ والسُّنَّةِ ومَن قامَ بِهما، فأصْبَحَ الدينُ مِنهم في أنينٍ، والإِسلامُ في بَلاءٍ مبيِنِ. وحسبُنا الله، ونعْمَ الوَكيلُ.
[الاعتذار بعدم الفهم]
الاعتذار بعدم الفهم (السابعة عشرة): اعْتِذارهم عَنِ اتِّباعِ الوَحْيِ بِعَدَمِ الفَهْمِ، قَال تَعالى في
1 / 224
سورة: [البَقَرَةِ: ٨٧-٨٨]: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ - وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: ٨٧ - ٨٨] وفي سورةِ [النِّساءِ١٥٥]، ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: ١٥٥] الغُلْفُ: جمعُ أغْلَفَ، كَأحْمَرَ وحُمْرٍ، وهو الذي لا يفقهُ. وأصلُه ذو القَلَفَةِ: الذي لم يُخْتَنْ، أو جَمْعُ غِلافٍ، ويُجمعُ على غُلُفٍ بِضمَّتَيْنِ أيْضًا. وأرادوا على الأوَّل: قُلوبُنا مُغَشَّاةٌ بأغشيةٍ خَلْقِيَّةٍ مانِعَةٍ عن نُفوذِ ما جئتَ بِهِ فيها. وهَذَا كقولهِم [فصلت: ٥]: ﴿قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ [فصلت: ٥] قَصدوا به إقناطَ النَّبِّي ﷺ عن الإِجابة، وقَطْعَ طَمَعِهِ عنهم بالكُلِّية.
ومِنهم مَن قالَ معنى غُلْف: مُغَشَّاةٌ مِعُلوم مِنَ التَّوراةِ تحفظُها أنْ يَصلَ إليها ما تأتي به، أو بِسلامةٍ مِنَ الفِطْرَةِ كذلِكَ. وعلى الثاني أنَّها أوعِيَةُ العِلْمِ، فَلَو كانَ ما تقولُهُ حَالا وصِدقًا لَوَعَته.
قالَ ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ والسُّدي: أو مملوءَةٌ عِلْمًا، فَلا تَسَعُ بعدُ شيئًا، فَنحنُ مُسْتَغْنونَ بِما عندَنا عَن غيرِه. ومنهم مَن قالَ: أرادوا أنَّها أوعِيَةُ العِلْمِ؛ فَكَيْفَ يَحِلُّ لنا اتباعُ الأمِّيِّ، ولا يخفى بُعْدُهُ. وَقَالَ تعالى في سورةِ [هودٍ: ٨٩- ٩١]: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ - وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ - قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: ٨٩ - ٩١] وهذه الآية بمعنى الآية الأولى، وقد كَذَّبَهُمُ الله تعالى في دَعواهم هذهِ في الناس كثيرةٍ، وذَكَرَ أنَّ السَّبَبَ في عَدَمِ الفَهْمِ إِنَّما هو الطَّبْعُ على القُلوبِ بكُفْرِهِم، لا القُصورُ في البيانِ والتَّفهيمِ. وما أحسنَ قولَ القائل (١):
والنَّجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبصارُ صورتَه ... والذَّنْبُ للطَّرْفِ لا لِلنَّجْمِ في الصِّغَرِ
_________
(١) هو أبو العلاء المعري.
1 / 225
[إنكارهم الحق الذي لا تقول به طائفتهم]
إنكارهم الحق الذي لا تقول به طائفتهم (الثامنة عشرة): من خصال الجاهِليةِ: أنَّهم لا يَقْبَلونَ مِنَ الحَقِّ إِلا ما تَقولُ بِهِ طائِفَتهمْ. قَالَ تعالى [البقرة: ٩١]، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١]
وَمَعْنى ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٩١] أيْ: نَسْتَمرُّ عَلى الإِيمانِ بالتَّوراةِ ومما في حُكْمها، ومرادهم مما أُنزِلَ في تقريرِ حُكْمِها، ومرادُهم بضميرِ المُتكَلِّمِ إمَّا أنبياءُ بَني إسرائيلَ- وهو الظَّاهرُ، وفيه إيماء إلى أنَّ عدمَ إيمانِهم بالقرآنِ كانَ بغيًا وحَسَدًا على نُزولِهِ على مَن لَيْسَ مِنهم، وإمَّا أنفُسُهُم، ومعنى الإِنزالِ عليهم: تكليفُهُم بِما في المُنَزَّلِ مِن الأحكامِ.
وَذُمُّوا على هذِهِ المقالةِ لِما فيها مِن التَعريضِ بشأنِ القرآنِ، ودَسائسُ اليهود مشهورة، أو لأنهم تَأوَّلوا الأمرَ المُطْلَقَ العامَّ، ونزلوه على خاصٍّ هو الإِيمانُ بِما أُنْزِل عَليهم، كَما هو دَيْدَنُهُم في تأويلِ الكِتابِ بغيرِ المرادِ مِنهُ. ﴿وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ [البقرة: ٩١] أيْ: هُمْ مقارنونَ لِحَقِيقتِهِ، أيْ: عالِمونَ بها ﴿مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ﴾ [البقرة: ٩١] لأنَّ كُتُبَ الله يُصدِّقُ بعضُها بَعضًا، فالتَّصديقُ لازِم لا يَنْتَقِلُ، وقد قَرَّرَتْ مَضمونَ الخَبَرِ، لأنَّها كالاسْتدلالِ عليه، ولِهذا تَضَمَّنت رَدَّ قولهِم: ﴿نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: ٩١] حَيثُ أنَّ مَن لمْ يُصَدِّقْ بها بِما وافَقَ التّوَراةَ، لم يصَدقْ بِهِا.
﴿قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٩١] أمْرٌ للنَّبِيِّ ﷺ أنْ يقولَ ذلكَ تَبْكيتًا لهم، حيث قَتَلوا الأنبياءَ مَعَ ادِّعاءِ الإِيمانِ بالتَّوراةِ، وهِي لا تُسَوّغُه.
[التمسك بخرافات السحر]
التمسك بخرافات السحر (التاسعة عشرة) من خِصالهم: الاعتياض عن كِتابِ اللهِ تَعالى بكتُبِ السِّحرِ، كَما قال تَعالى في سورةِ "البقرةِ" [١٠١ - ١٠٢]: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ - وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ١٠١ - ١٠٢]
1 / 226