تلقى سعد كتب عمر، فبدأ سيره من شراف يريد القادسية، على أنه لم يفصل من شراف حتى كان قد عبأ جيشه تعبئة عرفها عمر وأقرها، فأمر أمراء الأجناد، وعرف العرفاء، فجعل على كل عشرة عريفا، وأمر على الرايات رجالا من أهل السابقة في الإسلام، وجعل على المقدمة والمجنبتين أبطالا حاربوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وكان في هذا الجيش أربعمائة وألف حاربوا مع رسول الله، منهم بضعة وسبعون بدريا، وبضعة عشر وثلاثمائة ممن كانت لهم صحبة في بيعة الرضوان وما بعدها، وثلاثمائة ممن شهدوا الفتح، وسبعمائة من أبناء الصحابة في جميع أنحاء العرب، وسار سعد بالناس متمهلا حتى بلغ العذيب فنزلها وأقام بها زمنا قبل أن يسير إلى القادسية.
وكانت العذيب من مسالح فارس الحصينة ذات البروج المنيعة، ولقد بلغتها طلائع المسلمين في وجه الصبح، فوقفت قبالتها، وجعلت تنظر إليها فإذا رجل يتراءى بكل برج من بروجها؛ لذلك أمسكوا ولم يتقدموا ، حتى إذا أدركهم كثف من الجيش ساروا يريدون اقتحام هذه البروج، فلما دنوا منها رأوا رجلا يركض نحو القادسية، ورأوا البروج خلاء ليس بها أحد، عند ذلك أيقنوا أن الرجل كان مكيدة، وكان يتراءى بين البروج ليراهم ويعرف قوتهم فينطلق بخبرهم إلى الفرس، ثم وجدوا بالبروج رماحا ونشابا وأسفاطا انتفعوا بها، وقد انطلق في أثر ذلك الفارس زهرة بن الحوية ليأسره فلم يدركه، فعاد يشارك المسلمين في الحديث عن ثباته ورباطة جأشه.
استقر سعد بالعذيب حين لم يجد بها من الفرس أحدا، ثم جعل يبعث قوات من جنده تغير على ما حولها تنشر الرعب في نفوس الناس وتجيء بالغنائم والأسرى، وقد سارت إحدى هذه الغارات بليل تريد الحيرة، فلما جاوزوا السيلحين وقطعوا جسرها في طريقهم إلى عاصمة اللخميين سمعوا جلبة وضوضاء، فأحجموا وأقاموا كمينا حتى يتبينوا، وإنهم لكذلك إذ جازت بهم خيول تتقدم ابنة مرزبان الحيرة تزف إلى صاحب الصنين أحد أشراف العجم، فلما جازت الخيل كمين المسلمين حمل هؤلاء على من يحيطون بالعروس ففروا، فأخذوا الأثقال وأخذوا ابنة المرزبان في ثلاثين امرأة من الدهاقين ومائة من التوابع ومغانم عظيمة القيمة، ثم رجعوا بذلك كله إلى سعد بالعذيب فقسمه بين المسلمين.
تولى أهل العراق الفزع فانكمشوا وسكنت ثورتهم بالمسلمين، واطمأن سعد إلى موقفه بالعذيب فحصن الموقع، وترك به كثيرا من أسر العرب، ووضع به خيلا يحمي هذا الحريم، وأمر عليهم غالب بن عبد الله الليثي، ثم سار إلى القادسية فنزل بها بحصن قديس، ونزل زهرة بن الحوية بحيال قنطرة العتيق، ووزع الجند كل فرقة في مكان، وأقام بها يبعث الغارات تجيء إليه بمئونة الجيش غنما وأبقارا وبرا ودقيقا وكل ما يحتاج إليه الناس.
1
وأقام سعد بالقادسية شهرا أخصب الجيش فيه بما كان يجيء من الطعام في هذه الغارات التي اتسع نطاقها بين الحيرة وكسكر والأنبار، وكتب سعد إلى عمر يخبره بموقفهم، ولعله وصف القادسية أدق الوصف في هذا الكتاب، ويذكر له أن الفرس لم يوجهوا إليهم أحدا ولم يسندوا إلى أحد قيادة جيش لمحاربتهم فيما يعلمون، لكنه لم يلبث بعد ذلك أن علم من أهل الحيرة أن يزدجرد ولى رستم بن الفرخزاد أمر الحرب، وأمره بالسير لمواجهة المسلمين، فكتب إلى عمر كرة أخرى بالخبر، فكتب عمر إليه:
لا يكربنك ما يأتيك عنهم ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليهم رجالا من أهل المنظرة والرأي والجلد يدعونه، فإن الله جاعل دعاءهم توهينا لهم وفلجا عليهم، واكتب إلي في كل يوم.
قد تعجب لتباطؤ الفرس دون مواجهة سعد وجنوده، بعد اجتماعهم على يزدجرد ومعاونتهم له حتى ينتقم لهم من هزيمة جيوشهم بالبويب، فقد فصل سعد عن المدينة في أوليات الربيع من تلك السنة، ثم أقام بشراف وبالعذيب أشهرا، وأقام بالقادسية أكثر من شهر قبل أن يعلم بمسيرة عسكر من الفرس لقتاله، فأين كان الفرس؟ وماذا كان يصنع يزدجرد طيلة هذه الأشهر؟
الواقع أنهم لم يكونوا في غفلة عن الأمر، فقد بعث يزدجرد إلى رستم بن الفرخزاد وقال له: «أنت رجل فارس اليوم، وأنا أريد أن أوجهك لقتال العرب.» وأجابه رستم: «دعني بالمدائن، فلعل الدولة أن تثبت بي إذا لم أحضر الحرب، فيكون الله قد كفى ونكون قد أصبنا المكيدة، والرأي في الحرب أنفع من بعض الظفر، والأناة خير من العجلة، وقتال جيش بعد جيش أشد على عدونا، ولن تزال العرب تهاب العجم ما لم تضربهم بي.» ونظر يزدجرد فيما قال رستم وشاور أهل الرأي فيه، فلما بلغه ما فعل العرب وأخذهم ابنة مرزبان الحيرة وغارتهم على بلاد العراق، أعاد القول على رستم، وأعاد رستم كلامه وقال: «لقد اضطرني تضييع الرأي إلى إعظام نفسي وتزكيتها، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به، فأنشدك الله في نفسك وملكك! دعني أقم بعسكري وأسرح الجالينوس، فإن تكن لنا فذلك، وإلا بعثنا غيره، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون، فإني لا أزال مرجوا في أهل فارس ما لم أهزم.» فلما اشتدت غارات العرب على السواد من أسفله إلى أعلاه، وبعث مرازبته ودهاقينه إلى يزدجرد أنه إن لم ينجدهم نزلوا على أمر المسلمين طائعين أو كارهين، زال من نفسه كل تردد وأمر رستم فسار إلى ساباط، وعلم سعد بمسيرته فكتب إلى عمر فأجابه بما قدمنا وأمره أن يبعث إلى صاحب الفرس من يناظرونه ويدعونه.
Page inconnue