وقد كان له مواقف بالعراق ليست دون موقفه اليوم حرجا ولا دقة، كان له مثل هذا الموقف أول ما جاء من البحرين إلى دلتا النهرين، وذلك قبل أن يمده أبو بكر بخالد بن الوليد، وكان موقفه أكثر دقة يوم فصل خالد من العراق إلى الشام لينسي الروم وساوس الشيطان، رجل ذلك شأنه ليس بالذي يستسلم أو يلقي بيديه مخافة ما تكنه الأقدار في حجب الغيب، فإنما هو قوة تلقي بها الأقدار لتوجيه مصاير العالم، فليعالج النكبة بما عرف عنه من دقة القائد الصبور المحنك، وليستمد الخليفة فهو لا ريب ممده، والحرب لا يصلحها إلى الرجل المكيث.
وكذلك وقف المثنى جلدا جريئا، يواجه الأيام السود التي أعقبت غزوة الجسر وكادت تعفي على سلطان المسلمين بالعراق، ولم يكتف بأن بعث إلى عمر يطلب المدد؛ فمجيء الجند من المدينة يقتضي زمنا قد يواثبه الفرس فيه، بل بعث فيمن يليه من قبائل العرب، فتوافوا إليه في جمع عظيم، بينهم نصارى بني النمر الذين قالوا: نقاتل مع قومنا، ونقل عسكره من أليس إلى مرج السباخ بين القادسية وخفان ليكون على مقربة من تخوم العرب، يلجأ إليهم إذا غلبه الفرس، ويلقى عندهم مددا جديدا إذا غلب الفرس، وما كان أشد حاجته إلى المدد ليتابع ظفره! وفي مرج السباخ اجتمع إلى عسكره عدد عظيم من الجند، اطمأن له، فأقام فيهم ينتظر ما الله فاعل بالفرس وبه.
لم يكن عمر بن الخطاب دون المثنى قلقا على موقف المسلمين بالعراق بعد غزوة الجسر، ولم يغب عنه أن المثنى بحاجة إلى مدد سريع يواجه به هذا الموقف الدقيق، وكان العرب يفدون إلى المدينة من شتى الأرجاء في شبه الجزيرة ملبين نداء الخليفة منذ رفع الحظر عمن ظهرت توبتهم من أهل الردة، فندبهم عمر إلى العراق، فجعلوا يتحامونه ويتثاقلون عنه، ويبدون الرغبة في الشخوص إلى الشام والاشتراك في غزوه، لكن خالد بن الوليد كان قد ظفر بالروم في الشام حين لاقوه على اليرموك، فلم يكن به من حاجة إلى مدد؛ لذلك لم يرض عمر أن يشخصهم إلى الشام، ولم يرغب أحد في الشخوص إلى العراق، وكان جرير بن عبد الله البجلي قدم على أبي بكر في خلافته، فذكر عدة له من رسول الله أن يجمع بني بجيلة وكانوا مشتتين في القبائل، فرده أبو بكر وقال له: «ترى شغلنا وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم، ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يغني عما هو أرضى لله ورسوله! دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين!» فلما ولي عمر أعاد عليه جرير عدة رسول الله، وأقام عليها البينة: فكتب عمر إلى عماله، فجعلوا بني بجيلة في صعيد واحد، فلما اجتمعوا قال عمر لجرير: «اخرج حتى تلحق بالمثنى.» فقال جرير: «بل الشام فإن أسلافنا بها.» وأردف عمر: «بل العراق فإن الشام في كفاية.» ولم يزل عمر ببني بجيلة وهم يأبون عليه حتى جعل لهم الربع في خمس ما يفيء الله على المسلمين يضاف إلى نصيبهم من الفيء، عند ذلك رضوا الذهاب إلى العراق وعليهم جرير ورأى الناس ما صنع بنو بجيلة فحذوا حذوهم، وكان الذين فروا من غزوة الجسر في مقدمتهم، ثم تابعهم بنو الأزد وعليهم عرفجة بن هرثمة، وبنو كنانة وعليهم غالب بن عبد الله؛ وخلق كثير من مختلف القبائل، وتحمل الناس جميعا ومعهم نساؤهم وأبناؤهم، وساروا يريدون العراق ينضمون إلى جنده ويمدون المثنى فيه.
هذا موقف عمر بالمدينة، وذلك موقف المثنى بالعراق، فماذا كان موقف الفرس بالمدائن؟ ترامت إليهم أنباء الأمداد التي تسير تباعا إلى العراق، فهالهم أمرها وأدركوا الخطر عليهم منها ، فقسم رستم والفيرزان السلطان بينهما، وجمعا جندا عظيما جعلا عليه القائد مهران الهمذاني، وأمراه أن يسرع السير للقاء هؤلاء الغزاة المسلمين، وسارت هذه القوات تتقدمها الفيلة، ومهران أحرص الناس على أن يحرز نصرا ينسي الفرس نصر ذي الحاجب في غزوة الجسر، وعرف المثنى مسيرة هذا الجيش وهو في عسكره بمرج السباخ، فأرسل إلى جرير بن عبد الله وإلى غيره من الأمراء الذين جاءوا يمدونه يقول: «إنا جاءنا أمر لم نستطع منه المقام حتى تقدموا علينا، فعجلوا اللحاق بنا وموعدكم البويب.»
2
ثم سار بقواته حتى انتهى إلى البويب على شاطئ الفرات حيث وافاه جند المسلمين جميعا، وسار مهران كذلك بقواته حتى كان قبالة المسلمين لا يفصل بينهما إلا النهر.
أجال المثنى بصره في قواته فاطمأن، فلئن لم يكن فيها من الفيلة مثل ما للفرس، إنها لتمثل بمن انضم إليها من الأمداد قوات العرب جميعا في شبه الجزيرة وخارج شبه الجزيرة، ففيها أولئك الذين استمدهم المثنى وهو بأليس فأمدوه، وفيها بجيلة والأزد وكنانة وغيرها من قبائل العرب الذين أجابوا نداء عمر، وفيها من بني النمر نصارى قدموا مع أنس بن هلال وجلاب جلبوا خيلا، وفيها من تغلب نصارى جاءوا مع ابن مردى الفهر التغلبي وجلاب جلبوا خيلا، وفيها غير بني النمر وبني تغلب رجال من قبائل عربية أخرى مقيمة بالعراق، هؤلاء جميعا رأوا موقف العرب من العجم فقالوا: نقاتل مع قومنا، وكذلك جمعت رابطة الجنس إلى جيش المسلمين عددا غير قليل من نصارى العراق وقفوا بجانبهم وحاربوا في صفوفهم.
وبعث مهران إلى المثنى يقول: «إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم.» ولم يكن المثنى قد نسي ما أصاب أبا عبيد حين عبر النهر يلقى ذا الحاجب، وكان عمر قد أهاب به بعد غزوة الجسر ألا يعبر نهرا قبل أن يتم له النصر؛ لذلك بعث إلى مهران أن اعبروا أنتم، وعبر الفرس إلى البويب وتعبئوا في صفوف ثلاثة مع كل صف فيل.
وخرج المثنى على فرسه الشموس، وكان لا يركبه إلا لقتال ، فإذا فرغ من القتال ودعه، وكان الفرس يدعى الشموس للين عريكته، وطاف المثنى راكبا في صفوفه يعهد إليهم عهده ويحضهم ويأمرهم بأمره ويحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم، فكان يقف عليهم راية راية يقول: «إني لأرجو ألا تؤتى العرب من قبلكم، والله ما يسرني اليوم لنفسي شيء إلا وهو يسرني لعامتكم.» فكانوا يجيبونه بمثل قوله، وإذ كان الشهر رمضان فقد نادى المسلمين: «أيها الناس إنكم صوام والصوم مرقة ومضعفة، وإني أرى من الرأي أن تفطروا فتقووا بالطعام على عدوكم.» وأجابه الناس إلى ما طلب فأفطروا، وسمع المثنى من جانب الفرس زجلا يرددونه وهم يقتربون، فقال: «إن الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت وأتمروا همسا.» وجعل الناس يستمعون إلى المثنى وهو يتحدث إليهم منصفا إياهم جميعا، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا أو فعلا، بل ازدادوا له حبا وبه تعلقا، فلما قال لهم: «إني مكبر ثلاثا فتهيئوا ثم احملوا مع الرابعة.» تهيأت الرايات جميعا تنتظر الشدة على العدو وهي أشد ما تكون اغتباطا بلقائه وحرصا على الظفر به.
ولم يكد المثنى يكبر أول تكبيرة حتى أعجل الفرس العرب وعاجلوهم فشدوا عليهم، واختلت لشدة الفرس بعض صفوف المسلمين من بني عجل؛ فأرسل المثنى من يقول لهم: «إن الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم.» واعتدل بنو عجل وشدوا مع سائر الجند على الفرس، فأعادت شدتهم للصفوف نظامها، واشتبك الفريقان في قتال دام ساعات أعنف قتال، ورأى المثنى أن المعركة تترجح حامية الوطيس بين الفريقين، وأنها تؤذن أن تطول، ففكر في الوسيلة التي يكفل بها النصر للعرب؛ وذلك بأن يحمل على قائد الفرس فيزيله عن مكانه أو يقتله، ولينفذ عزمه دعا إليه أنس بن هلال النمري ثم دعا ابن مردى الفهر التغلبي، وقال لكل منهما: «إنك امرؤ عربي وإن لم تكن في ديننا، فإذا رأيتني قد حملت على مهران فاحمل معي.» وحمل المثنى على مهران حملة صادقة فأزاله حتى دخل في ميمنته، ورأى الفرس ما حدث فاندفعوا يحمون قائدهم فاجتمع القلبان وثار النقع، فلا يعرف أي الفريقين لمن منهما الغلب، وانكشف الغبار لحظة رأى المسلمون فيها تراجع قلب الفرس، فحملت عليهم الميمنة والميسرة فدفعوهم إلى ناحية النهر يبتغون النجاة، والمثنى في أثناء ذلك يحرض جنده ويرسل إليهم من يقول لهم: «عاداتكم في أمثالهم، انصروا الله ينصركم.» فيزداد المسلمون حماسة وشدة على العدو وضربا في صميمه.
Page inconnue