أفكانت سياسة عمر في هذا الموقف كسياسة أبي بكر حزما وقوة؟ ذكروا أن أسامة طلب إلى عمر أن يستأذن أبا بكر في دعوة الجيش إلى المدينة ليكون عون الخليفة على المشركين، وقالت الأنصار لعمر: «فإن أبى إلا أن نمضي فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة.» ولم يرفض ابن الخطاب طلب أسامة ولم يرفض طلب الأنصار، بل ذهب إلى أبي بكر فأبلغه ما قالوا، فكان رد الخليفة: «لو خطفتني الكلاب والذئاب لن أرد قضاء قضى به رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» وقال في طلب الأنصار: «ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتأمرني أن أنزعه!»
سار جيش أسامة وفيه جلة المسلمين مهاجريهم والأنصار، وفيه عمر بن الخطاب شأنه شأن رجل منهم يدين بالولاء لأسامة أمير الجند، وسار أبو بكر يودع الجند ويوصيهم، فلما آن له أن يرجع، قال لأسامة: «إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل.» وأذن أسامة لعمر أن يدع الجيش وأن يرجع مع أبي بكر.
من الحق علينا أن نقف هنيهة ننبه إلى هذا الاختلاف في الاتجاه السياسي بين أبي بكر وعمر، فقد كان أبو بكر متبعا وليس بمبتدع، فما صنع رسول الله هو لا محالة يصنعه، وللمسلمين أن يقولوا ما شاءوا، وأن يخالفوه عن رأيه، فلن يسمع لهم ما كان يصدر عن أمر رسول الله، وقد أمر رسول الله أن يتم بعث أسامة فليتم، ليختلف المهاجرون والأنصار، ولتثر شبه الجزيرة كلها، ولتتعرض المدينة لما عسى أن تتعرض له من خطر، كل ذلك لا يمكن أن يصرف الصديق عن إنفاذ ما أمر رسول الله بإنفاذه، أليس الله قد اصطفاه وأوحى إليه كتابه، ووعده النصر وأن يحفظ دينه! فكيف تطوع لمسلم نفسه ألا ينفذ أمره! وكيف لخليفته الأول أن يكون أول مخالفيه.
وكان عمر يرى واجبا على السياسي أن يقيم وزنا لكل ما حوله من الأحداث، ومن هذه الأحداث أن خلاف المهاجرين والأنصار لم يظهر في عهد رسول الله ما ظهر في اجتماع السقيفة، وأن انتقاض العرب على سلطان المدينة لم يبلغ حد الثورة إلا حين ذاعت الأنباء بوفاة رسول الله في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة. إن المسلمين قد كانوا يدينون لأمر رسول الله عن إيمان وتسليم، وليس من حق أبي بكر أن يطمع في أن يدينوا له كما كانوا يدينون للرسول المصطفى من عند الله، فجدير بالخليقة أن يقيم لهذه الأمور وزنها، وجدير به، وقد انقطع الوحي بوفاة الرسول، أن يكون السياسي الذي يدبر الأمور بثاقب نظره وحسن بصره بالأمور، بعد أن لم يبق لغير البصر بالأمور تدبير أو سلطان.
هذا اختلاف جوهري بين الرجلين في سياسة الدولة، لكن هذا الاختلاف لم يكن ليجني على تقدير أحدهما صاحبه ومحبته إياه واحترامه له؛ لذلك أدى عمر لأبي بكر حقه، فلم يصنع أكثر من أن أبلغه رأي المسلمين وأيده بحجته، فلما أصر الصديق على رأيه سار عمر في الجيش جنديا مجاهدا في سبيل الله بإمارة أسامة، وما كان له ألا يفعل وقد بايع أبا بكر وأقر له بخلافة رسول الله، وأدى أبو بكر لعمر حقه، فاصطفاه وزيرا يشير عليه كما كان يشير على رسول الله، وكذلك ظلت علاقات الرجلين علاقات مودة صادقة واحترام متبادل وتعاون وثيق لخير الإسلام والمسلمين.
وقد حدث مثل هذا الاختلاف في الرأي بين الرجلين وجيش أسامة لا يزال في الشمال من شبه الجزيرة يقاتل أنصار الروم، ذلك حين أرادت قبائل عبس وذبيان القريبتين من المدينة أن تمنعا الزكاة، فقد رأى أبو بكر أن يقاتلهم، ودفع حجة مخالفيه في الرأي بقوله: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
Page inconnue