162

أطرق المقوقس حين سمع هذا الوصف، ثم رفع رأسه وقال لأصحابه: «والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها، ولا يقدر على قتال هؤلاء أحد! ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.»

أترى هوى الضعف بنفس المقوقس فأملى عليه هذا الجواب؟ أم كان يطمع في إغراء العرب بعرض سخي يستهويهم فيرضونه ويرحلون عن أرض مصر؟ الجواب عن هذا وذاك تنطق به الحوادث من بعد؛ فقد رد المقوقس رسله إلى المسلمين يقول لهم: «ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم على ما عساه يكون فيه صلاح لنا ولكم.»

ولم يرفض عمرو ما طلب إليه، فبعث عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت، وكان أسود اللون ضخما طويلا، وأمره أن يكلم القوم، وألا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إحدى هذه الخصال الثلاث، ودخل القوم على المقوقس وأراد عبادة مخاطبته، فلما رآه قال: «نحوا عني هذا الاسود وقدموا غيره يكلمني.» ولعله أراد بهذا أن يوقع بينهم، لكنهم أجابوه جميعا بأنهم يرجعون إلى قول عبادة ورأيه، وتكلم عبادة وذكر ما أمر الله ورسوله المسلمين به من الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، والجهاد في الله، وحب الاستشهاد في سبيله، وأعجب المقوقس بكلامه، وأبدى إعجابه لأصحابه، ثم قال لعبادة: «لقد توجه إلينا لقتالكم من جميع الروم ما لا يحصى عدده قوم معروفون بالنجدة والشدة ممن لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقدروا عليهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا شهرا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، وتطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار، فتقبضونها وتنصرفون إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.»

هذا الكلام يجمع إلى الوعد الوعيد، وإلى الإغراء التهديد؛ فهذه ثلاثون ألف دينار تعرض على عبادة ثمنا للانصراف عن الحرب، فإن أباها كان مهددا بمدد الروم الذي يتكلم المقوقس عنه، ولكن أوامر عمرو إلى عبادة كانت صريحة، وكان عبادة شجاعا لا يهاب الموت؛ لذلك أجاب المقوقس مزدريا جمع الروم وعددهم، ذاكرا قوله تعالى:

كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ، وأن كل رجل من المسلمين يدعو ربه صباح مساء أن يرزقه الشهادة، وأنهم إلى ذلك في أوسع السعة من معاشهم وحالهم، «فانظر الذي تريد فبينه لنا، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك أو نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث، فاختر أيتها شئت ولا تطمع نفسك في الباطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين، وهو عهد رسول الله

صلى الله عليه وسلم

من قبل إلينا.» ثم ذكر له أنهم إن أسلموا انصرف العرب عنهم، وإن أبو الإسلام وأدوا الجزية أدخلهم المسلمون في حمايتهم ودافعوا عنهم، وإن أبو الإسلام والجزية جميعا فليس إلا الحرب تفصل بين الفريقين.

حاول المقوقس عبثا أن يصرف عبادة إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث، والتفت إلى من معه يستطلع رأيهم فأبوا إجابة المسلمين إلى شيء مما طلبوا؛ فانصرف عبادة وأصحابه لم يغيروا مما قالوه حرفا، وعاد المقوقس ينصح أصحابه بمصالحة المسلمين، فسألوه: أي خصلة نجيبهم إليها؟ قال: «إذن أخبركم، أما دخولكم في غير دينكم فلا آمركم به، وأما قتالهم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تصبروا صبرهم، ولا بد من الثالثة.» قالوا: فنكون لهم عبيدا أبدا! قال: «نعم! تكونون عبيدا مسلطين في بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم أو تكونوا عبيدا تباعوا وتمزقوا في البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم.» قالوا: الموت أهون من هذا! وعادوا إلى الحصن وقطعوا الجسر من الجزيرة، وعادت الحرب بينهم وبين المسلمين.

ماذا حدث بعد ذلك؟ يقول مؤرخو العرب: «فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من بالقصر حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم فقتل منهم خلق كثير وأسر من أسر منهم، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة .» ويقول بتلر: «ويظهر لنا أن كبار الروم طلبوا أن يهادنهم العرب شهورا ليروا رأيهم، فأجابهم عمرو جوابا قاطعا أنه لن يمهلهم أكثر من أيام ثلاثة، غير أن عمل المقوقس لم يلبث أن ذاع في الناس، فثار ثائرهم وأبى جند الإمبراطور إلا القتال، فما انتهت أيام الهدنة الثلاثة حتى أخذ أهل الحصن يتجهزون للخروج إلى المحاصرين يناجزونهم، ولم يبعثوا ردا إلى عمرو، وخرجوا إليه بغتة فوق قناطرهم فأخذوا جنود المسلمين على غرة، ولم تذهل تلك البغتة العرب، فأسرعوا إلى سلاحهم وقاتلوا الروم قتالا شديدا، وقاتلهم الروم يومئذ مستبسلين، غير أن العرب تواردوا إليهم منذ نذروا بهم فتكاثروا عليهم، فما استطاعوا إلا أن يتراجعوا إلى الحصن بعد أن قتلت منهم مقتلة عظيمة.»

ليس بين الروايتين فيما نرى خلاف، وكلاهما متفق على أن العرب أحرزوا هذا النصر بعد أيام معدودة من مفاوضة عبادة بن الصامت والمقوقس، ولم يرد المقوقس أن يضيع الفرصة فعاد إلى قومه يحدثهم في ضرورة الإذعان لما طلبه العرب من الجزية، وأقره القوم كارهين، فبعث إلى عمرو يذكر له أنه لا يزال على رأيه في مصالحته، «فأعطني أمانا اجتمع أنا وأنت، وأنا في نفر من أصحابي، وأنت في نفر من أصحابك، فإن استقام الأمر بيننا تم لنا ذلك جميعا، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.» وأبى أصحاب عمرو ما عرضه المقوقس، وآثروا الحرب حتى تصير الأرض كلها لهم فيئا وغنيمة، فقال لهم عمرو: قد علمتم ما عهد إلي أمير المؤمنين في عهده؛ فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلي فيها أجبتهم إليها وقبلت منهم، ومع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم، وقد كان هذا الرأي من عمرو رأي السياسي المحنك والقائد البارع، فقد أحدق الماء بالمسلمين من كل وجه، وصاروا لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى، فدفعهم إلى القتال خطأ في التقدير، وانتظارهم هبوط الماء قد يتيح للعدو فرصة وقد يهيئ للإسكندرية إمداده، ثم إن الروم في الحصن قد تضعضعت قواهم وخارت عزائمهم فمن حسن الرأي مفاوضتهم وهم فيما هم فيه من هذه الحالة النفسية، حتى لا يبعث اليأس إلى نفوسهم قوة التجلد والاستماتة، ولهم من مناعة الحصن ملجأ يستطيعون المقام فيه زمنا طويلا.

Page inconnue