وإنما دفع عمرو رجاله للسير في أرض مصر؛ لأنه خشي إن هو أقام بالقرية التي نزلها حتى يجيئه المدد أن يزداد عثمان بن عفان والذين يرون رأيه نشاطا، فيحبس الخليفة المدد عنه ثم يرده إلى أرض فلسطين، فتفوت المسلمين بذلك فرصة يؤمن ابن العاص بقدرته على انتهازها، فقد كان يرى الروم بمصر أشد عجزا عن القتال منهم بالشام، ومصر أكثر الأرض أموالا، فإذا فتحت كانت قوة للمسلمين ليس كمثلها قوة.
وسار عمرو في أربعة الآلاف الذين معه إلى العريش، فألفوها خلاء ليس بها للروم قوة، وشد ذلك من عزم عمرو ودفعه لمتابعة سيره، ورجع رسول الخليفة إلى المدينة وذكر له أن عمرا دخل أرض مصر وسار يطلب الروم فيها، فلن يرتد عنها إلا إذا اضطرته الهزيمة إلى الارتداد، عند ذلك لم يبق في وسع الذين رأوا في إقدامه مخاطرة تعرض المسلمين للخطر إلا أن يمسكوا حتى يتبين لهم أمره، فإما خذل فكان خذلانه دليلا على حسن رأيهم وبعد نظرهم، وإما ظفر فكانوا أول المعجبين به والمهنئين له!
وقد كتب القدر لعمرو أن يكون الظفر نصيبه، وأراد الله أن تدخل مصر في حمى الإسلام، وأن تصبح الدرة الغالية في تاج الإمبراطورية الإسلامية.
هوامش
الفصل التاسع عشر
فتح مدينة مصر وحصونها
عاد رسول عمر يطوي الطريق إلى المدينة، حاملا إلى أمير المؤمنين النبأ بأن عمرو بن العاص دخل أرض مصر أشد ما يكون عزما على فتحها، وأكثر ما يكون حاجة إلى المدد، وسار ابن العاص إلى العريش فلم يجد بها من يدافع عنها، فتخطاها منحدرا إلى الجنوب من بحيرة سربونة سائرا في الطريق الذي سار فيه الفرس لفتح مصر قبل خمس وعشرين سنة من ذلك التاريخ، ولم يلق عمرو من يقف سيره حتى بلغ مدينة الفرما، وهناك لقيه الروم في قوة وقفت في وجهه وحاولت صده عن الغزو.
والطريق من العريش إلى الفرما طويل يبلغ نحو سبعين ميلا، وهو يجري خلال الصحراء، تتخلله عيون وقرى تهون على السائر شقته؛ لذلك كان الطريق المعبد بين فلسطين ومصر من أقدم الحقب، حتى لقد شهد «مقدم إبراهيم ويعقوب ويوسف وقمبيز والإسكندر وكليوبترا وأسرة المسيح»
1
إلى هذه البلاد، وكان هذا الطريق طريق الحاج بين مصر وبيت المقدس، كما كان طريق التجارة والأسفار بين آسيا وأفريقيا، وقد سار عمرو بن العاص فيه غير مرة من قبل في تجارته، كما سار فيه مع ذلك الشماس الذي روينا قصته، والذي قيل: إنه سار بعمرو إلى الإسكندرية ليجزيه عن إحيائه إياه مرتين.
Page inconnue