واستمر الحصار واشتد القتال، وكان الفرس يخرجون من أسوار المدينة يزاحفون المسلمين ثم يرتدون إلى الحصون بعد أن يصاب من الفريقين عدد كبير، وكتب أبو موسى إلى عمر يصف له ما يلقونه، فكتب الخليفة إلى عمار بن ياسر، وكان على الكوفة، أن يسير مددا إلى أبي سبرة، وأن يقيم عبد الله بن مسعود على إمارة الكوفة مكانه.
ورأى المسلمون حين أدركهم عمار وجنوده أن لا مقام لهم حول الأسوار، فلا بد أن يقتحموا المدينة بعد أن طال حصارهم لها شهورا، ورأى الهرمزان من أعلى الحصون تجهز المسلمين للقتال فأمر جنده بالخروج إليهم والشدة عليهم، وكله اليقين أنه ظافر بهم فردوهم على أعقابهم، وخرج هو بنفسه، حتى إذا كان على أبواب المدينة يقاتل المسلمين ويقتل منهم، لقيه البراء بن مالك وعرفه فاندفع إليه يريد قتله، ولم تخدع البراء نفسه؛ فقد كان البطل المجرب والفارس المعلم، عرف له المسلمون مواقفه في حروب الردة وفي حروب العراق والشام جميعا، وشهدوا له بأنه لا يغلب، ولقد أردى أمام تستر مائة مبارز خرجوا إليه ينازعونه الشجاعة والبأس، لكن الهرمزان لم يكن دونه قوة وبأسا؛ لذلك انفلت من ضربة سددها إليه خصمه، ورمى البراء بضربة أصمته قتيلا، وخرج مجزأة بن ثور يأخذ بثأر البراء فلم يكن أحسن منه حظا، فاستشهد كما استشهد غيره من خيرة أبطال المسلمين وشجعانهم.
لكن المسلمين كانوا يعلمون أن تستر عاصمة خوزستان وأكثر بلادها منعة، وأنها إن تغنم تخضد شوكة الفرس وتضعضع عزمتهم؛ لذلك لم يفل من عزمهم مقتل الصناديد من إخوانهم، بل زادهم استشهاد هؤلاء حبا للقتال وإقداما عليه وبلاء فيه وإقبالا على الموت ابتغاء الظفر، ومالت الشمس آخر النهار وقد تولى الفرس الإعياء، فلم يكن لهم بد من التراجع إلى المدينة والتحصن بقلاعها وأسوارها، وأصبح الصباح فلم يخرج منهم للقتال أحد، ذلك بأنهم رأوا المسلمين استحبوا الموت على الحياة، وأقسموا لا يبرحون تستر أو يفنوا عن آخرهم.
وضاقت المدينة بالفرس وطالت حربهم، فخرج أحد بنيها على غفلة منهم واستأمن أبا موسى فأمنه على أن يدله على مأتى للمدينة يكون منه فتحها، وفرض أبو موسى للرجل ولأهله رزقا إذا أظفر الله المسلمين بعدوهم، ودلهم الرجل على مدخل الماء للمدينة، فوجه أبو موسى معه أشرس بن عوف الشيباني، فخاض الرجل به دجيلا ودخل معه المدينة من سرب يجري إلى جانب مدخل الماء،
3
ثم ألبسه لباس الخدم وسار به في طرقات تستر، وأظهره على عوراتها، وأراه الهرمزان، ثم رده إلى أبي موسى، فشهد عنده بصدق ما قاله هذا الفارسى، وندب أبو موسى أربعين رجلا مع أشرس وأتبعهم مائتين، وسار الجميع في أعجاز الليل، فدخلوا المدينة وقتلوا الحرس وعلوا الأسوار وكبروا، وراع الهرمزان ما فاجأه من أصواتهم، ففر إلى قلعته وهو يقول لمن حوله: «ما دل العرب على عورتنا إلا بعض من معنا ممن رأى إقبال أمرهم وإدبار أمرنا.» واختلط حابل الفرس بنابلهم حين رأوا أميرهم يفر من بينهم، ورأوا أبواب المدينة يفتحها العرب ويدخلونها عليهم، وبلغ من اختلاطهم واضطراب أمرهم أن كان الرجل منهم يقتل أهله وولده ويلقيهم في دجيل خوفا من الغزاة، ألم يكونوا قد سمعوا أن مدينتهم أعز من أن تنال، وأن أميرهم أعظم شوكة وأشد بأسا من كل محارب! وهذا الأمير يفر والمدينة تفتح أبوابها والعرب يقتحمونها! فأي خير بعد هذا في عيش ذلة وضعة وانكسار! ومتى يستحب الموت على الحياة إن لم يكن في مثل هذا المقام!
تحصن الهرمزان بقلعته، فأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء، فأطل عليهم وقال لهم: «إن في جعبتي مائة نشابة، ووالله ما تصلون إلي ما دام معي منها نشابة، وما يخيب لي سهم! فما خير إساري إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح!» وإنما وجه إليهم هذا القول وهو موقن أنه لا محالة مقتول إذا أسر في قتال، وأن لا أمل له في حياة إلا على صلح، وقال له القوم: ماذا تريد؟ فأجابهم: أن أضع يدي في أيديكم على حكم عمر يصنع بي ما شاء، وأجابه القوم إلى ما طلب، فرمى بقوسه وأمكنهم من نفسه، فشدوه وثاقا وساروا به إلى أبي موسى وذكروا ما كان بينهم وبينه، فحمل الهرمزان مع أنس بن مالك والأحنف بن قيس إلى عمر فكان بين الرجلين حديث طويل نقصه في ختام هذا الفصل.
كان تسليم الهرمزان نفسه إيذانا بإذعان تستر؛ لذلك كف من بقي من أهلها عن المقاومة وألقوا بأيديهم، فتسلم المسلمون المدينة، واستولوا على ما فيها من الأموال، فاستأثروا لأنفسهم بأربعة أخماسه، وجعلوا الخمس لأمير المؤمنين، وقد بلغ نفل الفارس يومئذ ثلاثة آلاف، ونفل الراجل ألف درهم.
يجمل بنا، قبل أن نتابع جيوش المسلمين في مسيرتها لفتح ما بقي من أرض خوزستان، أن نقف هنيهة نلتمس ما ينطوي عليه فتح تستر من عبرة، فتستر عاصمة خوزستان كما رأيت، وكانت من أشد مدن الفرس منعة وأقواها حصونا، وكان يزدجرد قد وعد الهرمزان أن يطلق يده بالسلطان في خوزستان وفي منطقة فارس الواقعة في جنوبها، فكان ذلك من أقوى الحوافز دفعا له إلى الاستماتة في المقاومة والوقوف في وجه المسلمين أشهرا، فكيف تسول لرجل من أهل تستر بعد ذلك نفسه أن يدل العرب على مدخلها ويكشف لهم عن عورتها؟ بل إن بعض الروايات لتجري بأن جماعة من أمراء الفرس انضموا برجالهم إلى المسلمين المحاصرين تستر وعاونوهم في قتال بني وطنهم منحدرين بذلك إلى هاوية سحيقة من الانحلال النفسي، ثم ما للهرمزان يرضى، بعد أن أبلى ما أبلى في الدفاع عن المدينة الحصينة، أن يسلم آخر الأمر نفسه، وأن ينزل على حكم خليفة المسلمين في حياته وفي موته؟
لا أراني في حاجة إلى أن أكرر هنا ما ذكرته تعليقا على القادسية من ضعف الشعور القومي في النفس الفارسية لذلك العهد ضعفا جعل حب الذات والحرص على الحياة أقوى سلطانا على هذه النفس من كل اعتبار معنوي، وما أدى ذلك إليه من اضطراب البلاط واقتتال الأمراء على السلطان، وإنما أريد أن أرتب على هذه الحال المعنوية الآثار التي انتهت إلى هزيمة تستر وما تلاها من الهزائم.
Page inconnue