وإنما أصر نصارى بني تغلب على ألا يؤدوا الجزية أن كان في قومهم عز وامتناع فكانوا يرون في أداء الجزية آية خضوع ومذلة لا تليق بهم ولا تتفق وما عرف الناس لهم من إكرام وكرامة، وكرامتهم وقوتهم هما اللتان جعلتا الوليد بن عقبة يريدهم على الإسلام ليكون له بهم قوة ومنعة، ولقد كان تشدد عمر معهم في أداء الجزية بادئ الرأي ثم قبول صدقتهم مضاعفة بعد مشورة علي بن أبي طالب، سياسة منه يحمد عليها، مع مخالفتها لموقف أبي بكر من أهل الردة، ومخالفتها لموقفه هو من أعدائه الأقوياء في فارس والروم، فبنو تغلب عرب، وكان عمر حريصا على عزة العرب، ولئن أقام على نصرانيته منهم من أقام ليرجعن هؤلاء جميعا إلى الإسلام ولو بعد حين، والرفق في هذا الموقف أبلغ، وقد دلت الأيام على حسن فراسة عمر وبعد نظره؛ إذ نصرت تغلب المسلمين من بعد نصرا عزيزا، وأيدتهم على أعدائهم في مواقف كثيرة.
لم يكتف عمر بقبول الصدقة من هؤلاء النصارى! بل رأى أن ما بينهم وبين الوليد بن عقبة من خلاف قد يدفعهم إلى إخراجه فيضعف صبره فيسطو عليهم؛ لذلك عزله عنهم وأمر عليهم فرات بن حيان كيما يطمئن إلى استتباب الأمن واستقرار الطمأنينة في ربوعهم.
تم ذلك كله في السنة السابعة عشرة من الهجرة فتم به استقرار السلطان للمسلمين بالشام من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، والواقع أن ما بقي من سيرة عمر لا يعرف في الشام انتقاضا، ولا يعرف من جانب هرقل محاولة لاسترداده، إلا ما قيل عن قيسارية، فقد سبق أن ذكرنا رواية الحصار الذي ضربه معاوية بن أبي سفيان عليها قبيل فتح بيت المقدس، وإلى ما قيل من فتحه إياها وقتله فيها ثمانين ألفا بلغوا بعد الهزيمة والفرار مائة ألف، على أن البلاذري ينبه إلى اختلاف الروايات في أمر هذه المدينة فيقول: «قال قائلون: فتحها معاوية، وقال آخرون: بل فتحها عياض بن غنم بعد وفاة أبي عبيدة وهو خليفته، وقال قائلون: بل فتحها عمرو بن العاص ... والذي اجتمع عليه العلماء أن أول الناس الذي حاصرها عمرو بن العاص، نزل عليها في جمادى الأولى سنة 13 فكان يقيم عليها ما أقام، فإذا كان للمسلمين اجتماع في أمر عدوهم سار إليهم فشهد أجنادين وفحل والمرج ودمشق واليرموك، ثم رجع إلى فلسطين فحاصرها بعد إيلياء، ثم خرج إلى مصر من قيسارية، وولي يزيد بن أبي سفيان بعد أبي عبيدة فوكل أخاه معاوية بمحاصرتها وتوجه إلى دمشق مطعونا فمات بها.» والذي يخلص من هذه الروايات أن قيسارية حوصرت وطال حصارها؛ حتى لقد قيل إنها حوصرت سبع سنين، ذلك بأنها كانت ثغرا حصينا ومعقلا منيع الأبراج والأسوار، به من السكان والجند عدد لا نظير له بأنطاكية ولا بدمشق، يقول البلاذري: إن مائة ألف كانوا يقومون كل ليلة على سورها يحرسونها، وكان سبب فتحها أن يهوديا أتى المسلمين ليلا فدلهم على طريق في سرب فيه الماء إلى حقو الرجل، فدخل المسلمون المدينة منه في الليل فكبروا، فأراد الروم أن يهربوا من السرب فوجدوا المسلمين عليه، ويقال: إن عمرو بن العاص كان فتحها في السنة السابعة عشرة ثم نقض أهلها وأمدهم الروم، ففتحها معاوية وأقام فيها مسلحة ووكل بها الحفظة، وقد وجد بها معاوية سبعمائة ألف من المرتزقة وثلاثين ألفا من السامرة ومائتي ألف من اليهود، ووجد بها ثلاثمائة سوق قائمة كلها.
سبق أن قلنا: إن خالد بن الوليد لم يقم بقنسرين طويلا، ولم نعثر في كتب الثقات على تفاصيل لغزوه بعد انصرافه من حمص إلى إمارته أكثر من أنه سار في دروب الروم مع عياض بن غنم، وعاد من غزواته بمغانم كثيرة، وأراني في حل من القول بأن ما حدث، إثر مجيء السفن عليها جنود الروم إلى أنطاكية، من ثورة شمال الشام بسلطان المسلمين، لم يزل فجأة إثر هزيمة الروم بحمص، وأن ما أشار إليه المؤرخون من انتقاض حلب وحماة وأنطاكية وغيرها من الحواضر قد اقتضى خالدا وعياض بن غنم وغيرهما من قواد المسلمين أن يقمعوه، وقد ذكر الواقدي أن حلب قاومت مقاومة عنيفة، وأن خالد بن الوليد إنما تغلب عليها بعد حصار طويل، فلما سكنت الثورة في شمال الشام تجاوزه المسلمون إلى إرمينية، كما كانوا قد تجاوزوه بعد غزو خالد بن الوليد مرعش وشمشاط وغيرهما من قبل، ثم عادوا إلى الشام كما عادوا إليه أول مرة، ذلك أن عياض بن غنم ما لبث حين تم له الأمر بالجزيرة أن سار صوب إرمينية يعزز تخوم المسلمين ويدخل الروع في نفوس أعدائهم، وسار خالد بن الوليد من شمال الشام إلى تلك الأرجاء حتى بلغ آمد والرهاء، فكان في مسيرته يفتح البلاد ويستفيء المغانم، ويلقي في القلوب الرعب،
3
ثم عاد إلى قنسرين وقد اجتمع له من الفيء شيء عظيم؛ لذلك انتجعه رجال من الآفاق يرجون جوائزه فلم يضن عليهم، وكان الأشعث بن قيس فيمن انتجعه فأجازه بعشرة آلاف درهم.
تحدث الناس بفعال خالد بن الوليد بقلقية وإرمينية معجبين، وذكروا بها خوارقه المجيدة وانتصاراته المعجزة بالعراق والشام، وتحدثوا بجوائزه وأعطياته للأبطال والشعراء وبجائزته العظيمة للأشعث بن قيس، فذكروا بها أريحية ملوك بني غسان وملوك الحيرة، ونمي حديث الإعجاب به وخبر هذه الجائزة إلى عمر بالمدينة كما كان ينمى إليه كل شيء من أمور عماله، فهاج هائجه على خالد ورآه لا يرجع عن غيه، فقد بلغه من قبل أن خالدا، إذ كان بآمد من أرض إرمينية، دخل حماما فتدل بغسل فيه خمر، فكتب إليه: «بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه ومسه فلا تمسوها أجسادكم.» وأجابه خالد: «إنا قد فتناها فعادت غسولا غير خمر.» ولم يعجب عمر هذا الجواب، فرد عليه مغضبا: «إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه!» وكان عمر قد أمره أن يحبس ما يصيبه من المال على ضعفة المهاجرين وها هو ذا يجعله أعطيات لذوي البأس والشرف واللسان، ألا يدل ذلك على أنه لا ينفذ ما أمره به من مراجعته في حساب المال، وألا يعطى شاة ولا بعيرا إلا بإذنه، وأنه مصر على قوله يوم وجه إليه هذا الأمر: «إما أن تدعني وعملي، وإلا فشأنك بعملك.»
كيف يستقيم الحال وخالد يريد أن يستأثر بالسلطان ويستقل بالأمر دون حسيب أو معقب! بل كيف يستقيم وقد فتن خالد بالناس لإعجابهم به وإكبارهم فعاله، فخيل إليه أنه أصبح صاحب الأمر والنهي في الشام كله، وأنه صار فيه ملكا كجبلة وآبائه من بني غسان يثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع! ألا لئن ترك وشأنه ليبلغن به الزهو يوما، فلا يقيم لأمر الخليفة وزنا ولا يحسب له حسابا، فلئن أراد الخليفة يومئذ نزعه من عمله ليثورن به وليجدن من الجند ومن أهل الشام أعوانا له؛ وقد يؤيده الروم فتكون الطامة الكبرى، ويومئذ لا يلومن عمر إلا نفسه، ثم ليحاسبنه الله على ما قصر في أمر المسلمين بتردده وإحجامه.
هاج هائج عمر على خالد فقال: «والله ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمره فلم أنفذه! والله لا يلي لي خالد عملا أبدا.» وكتب إلى أبي عبيدة أن يستقدم خالدا وأن يعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلم: أأجاز الأشعث بن قيس من ماله أم من إصابة أصابها، فإن زعم أنها من إصابة فقد أقر بخيانته، وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف، وأمره أن يعزله على كل حال، وأن يضم إليه عمله.
تناول أبو عبيدة هذا الكتاب فتولته الحيرة؛ فلخالد في نفسه وفي نفوس الجند والمسلمين جميعا منزلة أعظم المنزلة، لكن أمير المؤمنين مطاع ويجب تنفيذ أمره، فليدع خالدا إليه، وليترك التنفيذ لرسول عمر ولمؤذن النبي، وكتب إلى خالد فقدم عليه، فلم يذكر له عن كتاب عمر شيئا، بل جمع الناس وجلس لهم على المنبر، ثم قام البريد الذي أوفده الخليفة يسأل خالدا: أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة أصبتها؟ ودهش خالد مما سمع ولم يجب، وكرر البريد السؤال فلم ينبس خالد ببنت شفة، كل ذلك وأبو عبيدة جالس على المنبر ساكت لا يقول شيئا، فلما ألح البريد في السؤال وألح خالد في الصمت، قام بلال فقال: إن أمير المؤمنين أمر أن تعقل بعمامتك، وأن تنزع عنك قلنسوتك حتى تجيب عما تسأل الآن عنه، وزادت بخالد الدهشة فلم يخرج من صمته، هناك تناول بلال قلنسوته، ولم يديه وراء ظهره وعقله بعمامته، وقال: «ما تقول؟ أمن مالك أم من إصابة؟»
Page inconnue