فتهلل وجه عائشة وصاحت: إذن خذني معك يا مغيث؛ فتلعثم لسانه وقال: دعي هذه الغزوة يا عائشة، فإن الخليفة يخشى فيها على الرجال، فكيف يرضى أن تخوض غمارها النساء؟ - أيقف الخليفة في وجه فتاة رأت أبواب الجنة مفتحة فحنت إلى دخولها؟ - إن شؤون المسلمين أمانة في يده يا بنية، وهو بهم رحيم، وعليهم حريص.
ثم انفلت من بين يديها في خفة الطائر الحذر، وقامت عائشة لتدركه فلم تجد له أثرا، كأنما ابتلعته الأرض أو تخطفته السماء.
رحل المغيث إلى الأندلس برجاله، والتقى بطارق بمدينة «إشبيلية»، فرأى جنودا يتقدون حماسة، وقائدا لم تلهه الغنائم والكنوز عن مقصده الأسمى، ولم تستهوه غانيات الأندلس بما أفاض الحسن عليهن من سحر وملاحة، فاندمج في جيش طارق وانقض معه على «أستجة»، وكان أهلها في قوة ومنعة وعدد وعدة.
أما عائشة، فبقيت بعد رحيله أياما تقاسي ألم الفراق ولوعة الهجر، وتشكو مما أسمته ذل الأنوثة واستخفاف الرجل بالمرأة؛ لأنها لا تشهد حربا ولا تصول بسيف.
وحينما ضاق بها نطاق الصبر، ألحت على أمها أن تأذن لها في الرحيل إلى الأندلس، فبهتت المرأة، وظنت أن مسا من الجنون قد أصاب فتاتها لفراق من تحب، ولكن عائشة لم تنهزم أمام هذا الاستنكار، فكررت الرجاء، وألحفت في المسألة، وكلما زادت أمها إباء زادت عزيمة وعنادا، وطال الجدل، وطال الحديث، حتى ألقت أمها بالعنان مستنكرة ساخطة، وخضعت لإرادة ابنتها؛ لأنها لم تستطع إلا أن تخضع. وهبت عائشة كأنها النمرة الوثوب، فارتدت ملابس أخيها عبد الله، ولبست درعه، وتسلحت بسلاحه، ثم أعدت حقيبة ملابسها ووضعت بها مائة دينار، وصاحت: «يا رباح!» فأقبل عبد زنجي براق السواد كبير الهامة شعشاع، كأنه قطعة من جبل. وحينما وقف بباب الحجرة دهش لما رأى عائشة في زي الرجال، وهز رأسه في عنف كأنه يريد أن يستيقظ من حلم مخيف، فابتدرته آمرة: خذ الأهبة يا رباح لسفر طويل، فأعد أربعة جياد، واحمل على اثنين منها ما تحتاج إليه من زاد وسلاح. أسرع! - إلى أين يا سيدتي؟ - إلى حيث تغرب الشمس. فبهر العبد وقال: أخشى أن يلتقمها البحر يا سيدتي قبل أن ندركها. - لا تخش شيئا يا رباح. اذهب قبل أن يظلنا الليل.
فانطلق رباح، وكان يرى لذة في خدمة سيدته، وسعادة في أن تأمره فيطيع، وبعد قليل أعدت الخيول، وودعت عائشة أمها بين زفرات الألم وقطرات الدموع.
انطلقت عائشة من دمشق وخلفها رباح في أصيل يوم من أيام ذي الحجة سنة ثنتين وتسعين، وأحرى بنا ألا نحاول وصف ما لاقت هذه الفتاة المقدام في طريقها في الشام ومصر وبلاد المغرب، من أخطار وصعاب، فقد يكون أحيانا من حسن الوصف ألا تصف، ومن حسن الرأي أن تدع الكلام عما يعجز عنه الكلام.
وبلغت عائشة «سبتة»، وهي مدينة حصينة بمراكش، تقع قبالة الجزيرة الخضراء بالأندلس، وبينهما بحر الزقاق الذي يبلغ عرضه بضعة أميال. وحينما وقفت على سيف البحر حاولت أن تجد سفينة تمخر بها إلى عدوة الأندلس، ولكنها لم تجد إلا سفينة واحدة ظهر لها مما فيها من العبيد والخدم أنها خاصة ببعض كبراء المدينة، فوقفت حائرة تجيل الطرف هنا وهناك، علها تظفر بسفينة أخرى، ولم يطل بها الوقوف حتى رأت فتاة تدنو منها في بشاشة ولطف وتقول: أراك تنظر نظرة الحائر أيها الفتى الشجاع، فهل من حاجة لك نقضيها؟
فقالت عائشة في نبرة حزينة: أشكرك يا فتاتي، لقد كنت أبحث عن مركب أصل به إلى شاطئ الأندلس. - إني ذاهبة الآن إلى الأندلس في سفينتي هذه، وفيها متسع لعربي كريم مثلك. فهل تسعدني بإجابة طلبتي؟
وكانت عائشة حريصة على السفر، فلم تأب الكرامة وقالت: «هذه منة لن أنساها أبد الدهر.» ثم التفتت نحو رباح، وكان يقبض على عناني جوادين بقيا لهما بعد سفرهما الطويل، وقالت: «انزل يا رباح بما معك إلى السفينة، فقد تفضلت السيدة بحملنا إلى بر العدوة.»
Page inconnue