وكان لهذا الصوت الضعيف من هذا الشيخ الفاني سحر تفتحت له القلوب، وأصغت الأسماع، فتزاحم الناس صائحين. «إلى دار الخلافة! إلى دار الخلافة!»
كانت دار الخلافة بالجانب الشرقي من دمشق تطل على الغوطة التي تعد من أجمل منازه الدنيا، وكانت ترى من بعيد جاثمة فوق ربوتها العالية كأنها الحصن العظيم. وهي بناء بيزنطي قديم بذل فيه الفن والمال ما جعله صورة ناطقة بالجمال، وأثرا باقيا للعظمة والجلال. جلس الوليد في أصيل هذا اليوم في القاعة الكبرى التي يستقبل فيها الوفود وكبار رجال المملكة، وجلس إلى يمينه سليمان بن عبد الملك، وإلى يساره مسلمة بن عبد الملك، الذي لم تترك غزواته للروم بلدا لم يرتفع فيه صوت مؤذن، ثم جلس بعدهما كبار دولته، وكان منهم: عبد الله بن همام السلولي، وقتيبة بن مسلم، وأبو القاسم المخزومي، والمغيث بن الحارث، وحبيب بن عقبة. فبدأ الكلام عبد الله بن همام وكان ذرب اللسان حاضر البديهة، فقال: إن هذا الفتح يا أمير المؤمنين إلى ما أنعم الله به علينا من فتح الهند والروم وأقصى بلاد خراسان، لدليل على يمن طالع أمير المؤمنين وسعادة جده، وأن المسلمين في أقطار الأرض ليتجهون نحو دار الخلافة كما يتجهون في صلاتهم إلى القبلة، ويرون أن أمير المؤمنين - أمتعنا الله بحياته - عصمة دينهم، ومجد دنياهم، وحامل رايتهم إلى الظفر والانتصار.
فتحرك في مجلسه قتيبة بن مسلم جبار خراسان، وظهرت على وجهه كدرة من الغيرة المكبوتة، وقال في تردد: لو كنت في سرج طارق ما اكتفيت بفتح الأندلس، وما خلعت رجلي من ركابي إلا بعد أن أخترق الأرض الكبيرة، وأطل على البحر المحيط. فصاح به أمير المؤمنين: مه يا قتيبة، فإن لطارق من الجرأة ما لا تقف أمامه عقبة، وهو فتى أحوذي بعيد الرأي واسع الحيلة، وأخشى ما أخشاه أن يغرر بالمسلمين، ويسلك بهم مسالك تنسد خلفهم منافذها، وبيننا وبينه المهامه الفيح واللجج الخضر.
فقال المخزومي: قدم في هذا الصباح حبيب بن عقبة رسولا من قبل طارق، وما كاد يصل إلى بساطي حتى سقط من الإعياء بعد أن طوى في السفر إلينا شهرا لا يستقر به جواده في ليل أو نهار ... فلما سكت عنه التعب، وعادت إليه أنفاسه، تقدم إلينا برسالة من طارق لم يكتب فيها إلا سطرا واحدا.
ثم أشار إلى كاتبه وأمره أن يقرأ الرسالة فقرأ: «أيد الله أمير المؤمنين وأعز جنده، إنه ليس فتحا يا أمير المؤمنين، وإنما هو الحشر ويومه!»
ثم اتجه حبيب بن عقبة نحو الخليفة فأومأ إليه بيده أن يتكلم فقال: لقد كانت مغامرة يا أمير المؤمنين، باع فيها المسلمون أنفسهم في سبيل الله والحق، ووثبوا بعزائم كالقضاء المحتوم ليس له من مرد ولا عنه من محيص، ونبذوا الخوف من العواقب وراء ظهورهم ساخرين مستميتين، ولقد كنت إلى جانب طارق حين أبحرت سفننا من «سبتة» في ظلام الليل الدامس كأنها مردة الجن لا تبطش إلا في الظلام، وكنت أراه وهو ينظر نحو الأندلس بوجهه العابس، وعينيه المتقدتين، فما كنت أرى إلا أسدا غاضبا يتحفز للوثوب، أو نسرا جارحا لاحت له الفريسة من بعيد فصفق بجناحيه لاصطيادها. بلغنا بر العدوة فنزلنا في صمت زاده ظلام الليل روعة وإرهابا، وكأن الخيل والإبل أرادت ألا تكون دوننا في الحذر فكتمت ما في صدورها من صهيل ورغاء.
نزلنا يا أمير المؤمنين كأننا ملائكة الله نزلت على القوم من السماء، وتقدم جيشنا نحو الأعداء، وقدم لذريق بأجناده مدججين مسلحين لا يعرف أوله أين آخره.
فلما رأيت يا أمير المؤمنين كثرة عددهم، وقوة عتادهم، جشأت نفسي وجاشت - كما يقول قطري بن الفجاءة - وهالني ما يهول الشجاع إذا رأى الفرار حزما، فهمست في أذن طارق قائلا: «حذار يا طارق! فإني أرى جيوشا تسد الأفق، كأنها البحر المضطرب، وماذا نصنع أمام هؤلاء باثني عشر ألفا من العرب لا يحمل أكثرهم إلا هراوة أو رمحا محطما؟!» فنظر إلي نظرة ساخت لها نفسي، ثم قال في غضب: «صدق الله العظيم وكذبت يا حبيب»:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين «البقرة: 249».
ثم صاح في وجهي وكأن صوته زمزمة الرعد، وقال: «اذهب مع جماعة من جندك وأحرق السفن التي قدمنا عليها.»
Page inconnue