فلا يعجب ساسة العالم، ولا يدهشوا حين ينظرون إلى لبنان الصغير الحجم، الذي أخرج إلى الدنيا شعبا يعد واحده بألوف مؤلفة، ثم لا نعجب نحن اليوم إذا رأينا هذا «الكوكتيل» الغريب العجيب من الملل والشعوب في بقعة ضيقة، وهي مؤلفة من جميع العناصر البشرية. فكأن هذا الجبل رمز أسطورة سفينة نوح التي كان فيها من كل جنس زوجان كما يزعمون. لا عجب إذا رأينا هذا الخليط الغريب في هذه البقعة الصغيرة اللبنانية، فالمطبوع على الهجرة يحب ابن جنسه الشريد الطريد، ويرحب به ويعطف عليه، وهذا ما مهد لتعدد طوائف لبنان واختلاف أنظمته وتبدلها في كل دور وطور.
وهنالك سبب آخر، وهو أنه في القرن الثامن عشر وما قبله كان الأثرياء اللبنانيون يتنافسون في إنشاء الأوقاف. كان إقطاعيوهم يبلصون أخاهم وابن عمهم ولا يرأفون بمن لهم، وتكفيرا عن مظالمهم وجورهم، كانوا يهبون عقاراتهم إلى رهبانيات غريبة طامعين بخلاص نفوسهم بهذه الوسائل، فتوجوا قمم لبنان بتيجان العمران من ديورة ومعابد ومعاهد؛ ولذلك قلما تجد طائفة - مهما قل عدد نسماتها - إلا ولها وكر في هذا الجبل الأشم المضياف.
كانوا - كما قلنا - يتنافسون على استقدام رهبانيات من هنا أو هناك، والسعيد من حظي بما لم يحظ به غيره منهم، فعششوا في هذا الجبل، وسابقوا الفلاح اللبناني الأصيل على اللقمة، أكلوا رزقه وصلوا لأجله ... فكان المسكين يشقى ويجوع وهم يتخمون، وهو يرجو خلاص نفسه عن طريق هذا الإحسان الزيف.
وضاق باب العيش على المزارع والفاعل، وثقلت عليه الضرائب، واستعبد الفلاح؛ فكان لا يحق له أن يلبس الحرير لأن هذا ملبوس الأمراء والمشايخ، ولا يحذى نعال السبت،
3
كما قال عنترة؛ لأنها ليست لطبقته. فهذا البلد، الذي كان المال حشو السهل والجبل فيه، صارت هذه البقعة منه، وهي مسرح روايتنا، أفقر بقاع الدنيا. فبعدما كان اللبناني الأول أوسع الناس ثروة صار في القرن التاسع عشر أفقر العالمين، أو صارت تنشب فيه الثورة تلو الثورة بسبب الضرائب والفقر؛ فالقلة تورث النقار.
كانت سجادة الفلاح اللبناني بلاسا، وبوطه مداسا، وصوف فراشه قشا وتبنا، ومخدته رويشة.
4
وإن غالى في تجويد الحذاء لبس السكربينة، ذات النعل اليابس، التي إذا لبسها جديدة، رقص الشارلستون ووقع على الأرض بعد كل خطوتين. أما معجنه فكان لا يثق بأن رغيفه - التي هي فيه - تبقى له إلا متى أكلها؛ ولذلك ترى أبواب الهياكل والبيوت اللبنانية العتيقة كأنها شبابيك، وذلك اتقاء للكبس ودخول جباة الحكام إليها بخيولهم وبغالهم وحميرهم. فالبلص كان مستمرا، والميرة والضرائب والنهب باسم العرف لا القانون، كانت دائما هي موقظة الفتنة النائمة، إلى أن أطاحت أخيرا بأمراء لبنان الإقطاعيين واحدا إثر واحد.
إن موقع لبنان الاستراتيجي هو الذي جنى على أمنه وسلامة كيانه، فمنذ البدء وهو يودع الغازي الرائح ويستقبل الفاتح الجائي، يصح فيه قول مثله: ما راح جحا واسترحنا منه، حتى عاد يقول صبحك بالخير يا خالتي.
Page inconnue