Farah Antoun : Sa vie, son œuvre, extraits de ses écrits
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Genres
إن اسم مخلوف الأصلي يعقوب درمان، وهو شاب أديب من بلدة صور، وكان منذ عشر سنوات مكبا على الدرس استعدادا لفن المحاماة، فبينما كان ذات يوم يطالع بعض دروسه على شاطئ البحر إذا به يسمع صراخا وعويلا، فركض فأبصر خادمة تنادي على سيدة لها بين الأمواج تكاد تغرق، فألقى نفسه حالا بأثوابه في البحر وأنقذ السيدة. وكانت هذه السيدة فتاة في نحو الثامنة عشرة من العمر، وهي كريمة تاجر كبير في صور، وقد رامت الانتحار غرقا لأسباب مجهولة، فلما أنقذها يعقوب أرسلها إلى بيتها، وكان مغشيا عليها، فكاد أبوها يموت من حزنه، ولكن الحياة عادت إليها. ومنذ ذلك اليوم أحبها يعقوب درمان حبا شديدا يقرب من العبادة، ومالت الفتاة إليه لأنه أنقذ حياتها، لكن الأقدار عاكستهما بعد ذلك، فإن أباها - على ما يقال - توفي في ذلك العام وقد خسر جميع أمواله، وانحطت كرامته بين قومه بعد أن كان عزيزا بينهم، وبذلك بقيت ابنته وحدها؛ إذ لم يكن في البيت غيرها لوفاة أمها. وكان يعقوب درمان فقير الحال أيضا، فرأت الفتاة أنها إذا اقترنت به ازدادت سوء حال على سوء حال. وكانت عزيزة النفس، شديدة الأنفة؛ لأنها نشأت في الترف والغنى والدلال، فكرهت أن تقيم ذليلة فقيرة في بلدة كانت فيها العزيزة المبجلة، فغافلت حبيبها يعقوب وفرت مسافرة مع إحدى البواخر التي تمر على صيدا، وتركت له ورقة تقول له فيها: انسني واسلني بعد الآن. ويظهر أن دماغ يعقوب ضعيف من فطرته، فلم يقو على تحمل الصدمة، فجن من يومها.
فقال سليم: ولكن كيف سافرت الفتاة وحدها إلى بلاد لا تعرفها؟ فأجاب أمين: لا تسل عن ذلك، فإنها نشأت في مدارس الأميركان، وأنت تعلم أنهم يربون البنات في مدارسهم على الجرأة والإقدام والاستقلال، وهو أمر أحيانا يكون نافعا، وأحيانا يكون ضارا.
فضحك كليم وقال: لا ريب أننا إذا رأيناه نحن في هذه الحادثة نافعا، فإن الخواجة مخلوف يراه مضرا جدا ؛ لأنه فقد به حبيبته وعقله.
فقال سليم: ولكن عندي أن الفتاة لم تخطئ؛ إذ لا أصعب من معيشة الإنسان محتاجا إلى الناس في بلدة كان فيها من قبل غنيا عنهم، فإن دناءة الشامتين، ولؤم المنتقمين، ووقاحة حديثي النعمة الذين يحلون محل ذلك الإنسان بعد سقوطه أمور لا تحتملها النفوس.
فقال أمين بهدوء ورزانة: ما للإنسان وكلام الناس، إنما عليه أن يعيش بهدوء مستورا، وإذا كان في الناس قوم أردياء يشمتون وينتقمون، ففيهم قوم طيبون يؤانسون ويعزون، فقد كان على الفتاة أن تبقى ولا تسافر بهذه الصورة الشنيعة.
فقال كليم ضاحكا: لو سمعك مخلوف الآن لأعطاك طربوشه من فرحه.
فقال أمين ضاحكا: وما نفعي منه؟ فإن طربوشه قذر.
فضحك الجميع لهذا الجواب. (6) حديث في حرج صغير
وقد طابت الإقامة لسليم وكليم في هذا الحرج الصغير، فصارا في كل يوم يقصدانه مرة أو مرتين للاستظلال به من حر الشمس، ولكنهما لم يكونا يجلسان في الظل ربع ساعة حتى يبردا، فينهضا إلى الشمس فيسخنا، فينهضا إلى الظل، وهكذا على التتابع، وكانا يصرفان الوقت هناك بالحديث ومطالعة أطايب الكتب.
فبعد أن مضى عليهما بضعة أيام في هذه المعيشة نظرا إلى نفسيهما ذات يوم وهما في ذلك المكان، فإذا بهما قد صار جسماهما ممتلئين قوة وصحة، وتوردت وجناتهما، واكتسيا من هواء الجبال ثوبا زاهيا غطى ثوب الاصفرار والضعف الذي كستهما به المعيشة المدنية. وكانا ينظران إلى نفسيهما في المرآة ولا يصدقان، فالتفت سليم إلى كليم وقال: إن الذين يعيشون في السهول والمدن في الشام وغيرها يخطئون أشد خطأ إذا كانوا لا يصعدون مرة في العام إلى جبال كهذه الجبال لتجديد قواهم ودمائهم، فأجاب كليم: أنا موافق على رأيك بعد ما شاهدته في صحتي من التحسن، تالله إنني أحسب نفسي كنت ميتا وبعثت، فإنني آكل ولا أشبع، وأشرب ولا أروى، وأمشي ولا أتعب، وأحيانا أخشى لنشاطي وخفة جسمي أن أطير في الهواء، فضحك سليم وقال: ما رأيك بأصحابنا في الشام وفي مصر الذين يقصدون جبال سويسرة وبلاد أوروبا في الصيف، ويتركون هذه الجبال التي فيها المعيشة أرخص ما يكون؟ فقال كليم: من جهل شيئا لم يحفل به، فهم يجهلون فضائل هذه الجبال. هذا عدا أن طريقها وعرة.
Page inconnue