Farah Antoun : Sa vie, son œuvre, extraits de ses écrits
فرح أنطون: حياته – أدبه – مقتطفات من آثاره
Genres
ومتى ثبت أن أول أغراض الأدب والعلم ترقية الأمم وإنهاض الشعوب؛ ترتب علينا أن نعلم حاجات الكاتب الشرقي الجديدة في هذا العصر.
الحاجة الأولى:
وعندنا أن أولى حاجات الكاتب الجرأة والحرية، ونريد بذلك حرية الفكر والنشر، وتحت الحرية تدخل فضائل كثيرة، فإنه متى كان الكاتب يكتب بحرية واستقلال فكر، فإنه يكون صادقا منصفا عادلا قليل الشذوذ والشرود. ويشترط في ذلك أن تكون الحرية مطلقة في أقواله، لا أن يتكلم بحرية في هذا الموضوع لأن الحرية فيه موافقة لمصلحته، ويداهن ويصانع في ذاك لأن الحرية فيه مخالفة لمصلحته. وكل إنسان يعذر الكاتب
المداراة القانونية، ولكن ما عذر الكاتب الذي يعيش في بلاد أقلامها مطلقة؟ لا عذر له
مدح ما يستحق الذم، وذم ما يستحق المدح، وحينئذ يخرج عن دائرة الوظيفة الحقيقية التي توجد لها الصحافة، وتثقف لها الأقلام.
ولسنا ننكر أن هذه الحالة شائعة في كل العالم؛ لأنها حالة عمومية؛ إذ كل إنسان يطلب تأييد مصلحته قبل كل شيء؛ ولذلك كانت أكثر صحافة أوروبا نفسها مبنية على المصلحة. قال أحد كتابهم في الشهر الماضي: إن جرائدنا صارت عبارة عن وباء حقيقي، فإن المدح والذم يكالان فيها بلا عدل، وقد قتلوا الانتقاد الصحيح المبني على الصدق وحرية الفكر، ووضعوا في مكانه أوراقا يرسلها المؤلفون وأصحاب الكتب، فإذا قرأت انتقاد كتاب، فاعلم أن أكثره مكتوب بقلم المؤلف نفسه أو بقلم صديق له. نقول: ولكن إذا كان في الغرب جرائد هذه حالها، ففيه أيضا جرائد كالتيمس، والطان، وبرلنر تاجبلاط لا يمكن أن يلحقها شيء من هذا الغبار. فنحن نرجو أن تقوى في الشرق صحافة جدية مستقلة كهذه الصحافة؛ لتخرج من الدائرة التجارية المحضة إلى الدائرة الصحافية الحقيقية. ويلوح لنا أن ذلك لا بد منه، وإلا بطل كل تأثير لها في القراء؛ لأن الأقوال لا تؤثر إلا متى كانت خارجة من القلب والضمير.
الحاجة الثانية:
ورب قائل يقول: ماذا يحل بالأفكار في الشرق إذا كان كل كاتب فيه يبسط آراءه بكل حرية دون مراعاة ما هو معروف من تعدد العناصر؟ فنجيب: لا يحل بالأفكار سوء؛ لأن التساهل كالماء يخمد كل حدة وكل نزق، فالحاجة الثانية: التساهل. وليس المراد بالتساهل أن يكون ما يكتبه الكاتب موافقا لكل الآراء، وكل العناصر، وكل المذاهب. كلا، فإن هذا التساهل يفني قوى الكاتب، ويذهب بتعبه أدراج الرياح، ويشوه الحقائق أقبح تشويه. ولقد سمعنا مرة بعضهم يقول: إن موقف الكاتب الشرقي صعب جدا في هذا العصر؛ لأنه يكتب للمصري والشامي والجزائري والتونسي والهندي والفارسي والأفغاني والقوقازي إلخ إلخ؛ ولذلك يجب عليه ألا يكتب إلا ما يرضي الجميع. فضحكنا عند سماعنا هذا الكلام وقلنا: إن وظيفة الكاتب أسمى من ذلك بكثير. أجل، ليست وظيفة الكاتب بتر الحقيقة هنا، وتمويه الكلام هناك إرضاء لهذا أو ذاك، بل وظيفته أن يقول الحق، وينطق بالصدق في أي جانب كان، لكن يشترط عليه في ذلك شرط لا بد منه، وهو أن يترك دائما للقارئ الحكم في المسائل التي يبسطها؛ لأن القارئ قلما يحب أن تضغط عليه لتقنعه. وإذا كنت تطلب منه التساهل فيجب عليك أن تعلمه ذلك بالقدوة؛ أي أن تكون متساهلا في آرائك؛ لأن القدوة خير المعلمين. إذا لا تضع آراءك وأقوالك في منزلة الحق الأبدي الذي لا يجوز لأحد مسه، فإن لكل إنسان نظرا ومذهبا في الأمور، ومتى احتكت هذه المذاهب والآراء بعضها ببعض فلا يبقى منها مع الوقت إلا أفضلها. وهذه هي الطريقة الوحيدة لنشر الحقائق والمبادئ نشرا فعليا بين الناس، وترقية العقول عن الأشياء المألوفة الراسخة في النفوس بحكم العادة. وكن على ثقة من أن كل العناصر التي ذكرتها تقرأ أقوالك ولا تستاء منها إذا راعيت هذا الشرط، ولو وجدت فيها ما يسوء؛ لأنها تعلم أنك لا تقصد بها سوءا ولا سيطرة على عقولها فيما تكتب، وإنما تقصد بسط الآراء والمبادئ بعضها بجانب بعض طلبا للحقيقة في أي جانب كانت.
الحاجة الثالثة:
والحاجة الثالثة أن يحب الكاتب صناعته، ويولع بها، ويطلبها لذاتها. ولا بد هنا من اعتراض قوي، وهو أن جميع الكتاب في كل البلدان يحبون صناعتهم، وكثير منهم لا يجنون منها فائدة كبيرة ، ومع ذلك تراهم متعلقين بها. فالجواب أن هنا إشكالا تجب إزالته؛ إذ شتان بين من يولع بشيء لأنه عمله الذي خلق له، وبين من يريد أن يجعله عمله قسرا، ويرغم طبيعته به ميلا إلى جماله وجلاله. وهذا الخطر موجود في كل مكان، لا في الشرق فقط. وقد وضع المسيو بونيه الفرنسوي منذ بضعة أشهر كتابا سماه: خطر صناعة القلم، أو ثلاثة من عائلة لكران، أثبت فيه أن ألوفا من الأدباء يتهافتون في كل عام على صناعة القلم في فرنسا، وتسوء حالهم لأنهم قهروا طبيعتهم قهرا على عمل لم يكونوا من رجاله، وإنما جذبوا إليه بجاذب جماله.
Page inconnue