أين المسرح المصري
ونعود إلى السؤال: أين المسرح المصري إذن رغم كل ما قلنا؟
في الريف لا يزال السامر مسرحا شعبيا، لا يعرف أحد متى بدأ، وفي المدينة كاد ينقرض مسرح مماثل، مسرح الحواري، وخيال الظل، والأراجوز، وكل تلك الأشكال المسرحية الصريحة. ولكني لا أعتقد أنها أشكال من احتكار الشعب المصري، ولا يمنع هذا أن شعبنا بمواهبه التمثيلية والتأليفية طورها ونبغ فيها؛ ذلك لأن الشعب المصري حدث له شيء في تاريخه لم يحدث لشعب آخر، شيء قطع تماما كل صلته بتاريخه الطويل الذي يعتبر أطول تاريخ لأي شعب معروف، وأوقف تماما سريان وتوارث التقاليد الحضارية وتراكمها في وجدان الشعب وعقله الباطن والواعي.
فبعد سلسلة من الحكومات الأجنبية التي كانت الحضارة المصرية تبتلعها دائما وتمصرها، جاء الدين المسيحي فآمن به الشعب إيمانا راسخا أقوى بكثير من إيمان أهل روما أو بيزنطة؛ لأنه كلما تقدم الشعب حضاريا أصبح أكثر قابلية لتغيير معتقداته والتعصب لكل ما هو أرقى وأحدث، وتلقف الشعب الراقي هذا الدين الجديد، فآمن به بإخلاص جعله يغير من ذاته تماما ويبتر كل صلة بكل معتقداته السابقة. وفعل هذا لمئات طويلة من السنين، حتى جاء الدين الإسلامي فاعتنقه بإخلاص كامل أيضا وغير من ذات نفسه ليخضعها لتعاليمه.
بالاختصار جاءت كتلة صلبة سمكها مئات السنين من العقيدة المسيحية والإسلامية لتقطع سلسلة التطور الحضاري، فكانت وكأنما قضينا على الحياة المصرية القديمة، وخلقنا حياة جديدة مسيحية أولا، وكأن الشعب تحول كله إلى كهنة وقسس، إسلامية إلى أقصى حد، وكأن الشعب تحول إلى أئمة ووعاظ. إن العبادة، أي إفناء الذات الصغرى في الذات الشاملة الكبرى، كانت دائما علاقة رئيسية من خصال الشعب المصري في قديمه وحديثه، وباستمرار، وكأنه يتحضر ليؤمن بشيء أو ليعبد ويمجد العقيدة أو الفكرة.
هذا الحادث الضخم كان له أثره في حياتنا اليومية، إذ كان علينا بعد الإسلام أن نبدأ في ابتكار حياة اجتماعية إسلامية جديدة، ابتكارات ظلت تتطور حتى وصلت في عهد الفاطميين إلى حد تكاملها الأول، وهو تكامل لم يكن كله من ابتكار الشعب المصري؛ فدولة الإسلام الكبرى التي أصبح جزءا منها قد حملت إليه عادات وابتكارات من أقصى الشرق في الصين إلى أقصى الغرب في الأندلس، ولأن نفس الشيء كان يحدث تقريبا في كل أجزاء الدولة الإسلامية، فقد تقاربت أشكال الحياة اليومية في الممالك الإسلامية إلى حد بعيد.
وفي المسرح بالذات لم يكن هذا هو ما حدث في أوروبا، فالمسرح الإغريقي لم يمت تماما أو اندثر، وإنما بقي في الكتب وبقيت نصوصه. وصحيح أنه كبت بالمسيحية، ولكنه حين خفت قبضتها وتحركت الغريزة الجماعية لتعيده وجد كل شيء معدا لحياته الثانية، ومنها انطلق.
في مصر، حين خف الإيمان المتعصب بالإسلام أيام الفاطميين، لم يكن هناك ليزدهر إلا بعض الأشكال البدائية التي نمت بصعوبة في ظل الإيمان الجديد، فلم يسترجع الشعب عاداته في الرقص، ولكنه استرجع عاداته في تمجيد الموتى، وبدأ العصر الذهبي للعمارة، وأولها إقامة مدافن على شكل مساجد للحكام والأعيان. هناك، وعلى صورة واهية شديدة البهتان كانت ذكريات الحضارة القديمة لا تزال مجرد أحاسيس غامضة، خرجت هذه المرة على شكل إسلامي المظهر والمحتوى، احتفالات رمضان، وحفلات الذكر، ووفاء النيل، وعودة مجالس القصاصين والحكايين، وازدهار خيال الظل والأراجوز، كله إلا أن يمثل الشخص أو يقلد شخصا آخر؛ لأن التحريم الديني كان يمنعه، إذ كان فقهاء ذلك العصر وحتى إلى عهد قريب يعتبرونه نوعا من الاعتراض على الخالق في خلقه، فالإنسان في الدين الإسلامي من صنع الله، وأي انتقاد له يحمل في طياته انتقادا لصانعه. وكذلك ارتداء قناع أو تغيير ملامح الوجه حتى لو كان وجه الشخص نفسه، فهو أيضا تشويه في خلقة الله.
ولكن التمثيل نفسه لم يتوقف، ظل يزاول بأشكاله غير المحددة ودون جرأة على تعريفه أو تحديده أو تطويره، وهكذا نشأت القافية المصرية، وخلقت العبقرية المصرية وطورت من النكتة وإلقاء النكتة، ووضعت فيها كل قدرة الشعب على السخرية وكل طاقته على الإيجار. والنكتة فن مسرحي أو على الأقل نوع من الحضور المسرحي، الذي يقوم فيه شخص بإلقاء أو «تمثيل» موقف واحد متناقض من مواقف الحياة. ولقد ازدهر هذا الفن لاحتوائه على كل الطاقة الدرامية لشعب محروم من إخراج هذه الطاقة على صور أخرى، كما ازدهر فن الزخرفة المصري الإسلامي حيث حرم على الشعب إظهار طاقته الفنية التشكيلية في صور الأشخاص.
نستطيع القول إذن إن محاولة العثور على شكل صريح للمسرح المصري في العصرين المسيحي والإسلامي تعتبر نوعا من الافتراء على الواقع؛ إذ الواقع لم يكن يشتمل إلا على أشكال بدائية، وإن استطاعت أن تكفي إلى حد ما حاجة المصريين إلى التمسرح، فهي أبدا لا يمكن أن تكون قد وجدت بمثل الصراحة والتحديد اللذين وجد بهما المسرح فيما بعد العصور الوسطى من أوروبا المسيحية.
Page inconnue