بعض ملحوظات عن تمثيل الرواية
(1) المسرح
هذه الرواية مكتوبة على أساس اشتراك الجمهور مع الممثلين في تقديم العمل المسرحي باعتبارهم وحدة واحدة، ولهذا فالجمهور هنا يعتبر جزءا من الممثلين، والممثلون يعتبرون جزءا من الجمهور. وإذا كان المسرح الإغريقي ومن ثم الأوروبي قد اصطلح على تسميته بالخدعة المتفق عليها، فمسرحنا في رأيي هو الخدعة التي لم يتفق عليها، الخدعة الكاملة المباشرة بلا أي محاولة لتخفيفها أو مواربتها.
المسرح الأمثل في نظري لتمثيل هذه الرواية ليس هو المسرح العادي، حيث الجمهور الذي يواجه الحائط الأول الذي تفرج عنه الستارة، ولكنه المسرح الدائري أو الحلقة التي تتكون نتيجة تجمع أي جماعة من الناس على شرط أن تزود بالإضاءة الكافية، ولا يحتاج الأمر إذن لأبواب دخول وخروج، فباستطاعة الممثل أن يخترق الصفوف في طريقه إلى الدائرة المسرحية في الوسط وهو داخل ثم وهو خارج.
ولكن، نظرا لأن توفر هذا النوع من المسارح التلقائية غير مضمون الحدوث، فيمكن تمثيل الرواية على المسرح العادي، بحيث تتخذ إجراءات ميكانيكية لإلغاء المسافة الكائنة بين خشبة المسرح وجمهور الصالة، وهي المسافة التي تخصص للأوركسترا في الغالب، إذ يمكن تغطيتها، ومد الغطاء إلى مسافة ما في مشاية الصالة الرئيسية بحيث تصبح الصفوف الأولى في متناول مقرعة فرفور، ومن ناحية أخرى ممكن وضع كراسي للمتفرجين العاديين فوق المسرح من الخلف بحيث لا يرى المتفرج ستائر خلف الممثلين وإنما يجد جمهورا أيضا يكون شبه الدائرة المفروضة. بالاختصار لا بد من اقتراب الجمهور من الممثلين واقتراب الممثلين من الجمهور إلى درجة تلغي المسافة النفسية الكائنة بين من يؤدي الدور ومن يشاهده. (2) عن التمثيل
بالنسبة لفرفور بالذات، فقد أفردت له نقطة خاصة. أما بالنسبة لبقية الشخصيات، فإني مع إيماني الشديد بالمواهب الضخمة التي يتمتع بها ممثلونا المسرحيون بمختلف مدارسهم، إلا أني شخصيا أميل إلى الطريقة التي لا تجعل الممثل يندمج اندماجا كاملا في الدور بحيث ينسى جمهوره تحت شعار «الانفعال الحقيقي الصادق»، ولست أيضا من أنصار أن يتحول الممثل إلى خطيب لا عمل له إلا هذا الجمهور. إني من أنصار مدرسة «عين في الجنة وعين في النار»، عين على الدور والموقف والانفعال، وعين على الجمهور؛ ذلك لأن هذه الرواية بالذات والمسرح المصري كما أراه عموما لا يعتمد على مخاطبة الشعور الفردي للكائن وسط الجماعة، ولكنه يعتمد على مخاطبة الشعور الكلي للجماعة المنبعث من بين أفرادها، ولمخاطبة هذا الشعور لا بد من «عين» حدسية وإحساسية للممثل تقيس مدى ودرجة حرارة التجاوب، بحيث بناء على الإشارات الواصلة إليها تتأنى أو تسرع أو تتوقف أو حتى تضيف كلمة ما إلى النص؛ ذلك لأني لا أؤمن أيضا بالدور المرسوم قبلها بالبرجل والمسطرة، لأني أؤمن بالدور الذي يرسم كل ليلة بمسطرة وبرجل مستمدين من جمهور الحاضرين الجدد ومشاعرهم. إن لشعبنا طريقته الخاصة في النظر إلى الأشياء، ومحاولة الممثل أن يرى المواقف، لا بعينيه وحده، ولكن بعيون كل الجمهور المحتشد لمشاهدته تغييرا كبيرا من طريقة التمثيل نفسها، فلا تصبح خطابية رصينة كمونولوجات جورج أبيض المشهورة أو هامسة متهافتة كتلك التي يسمونها الطريقة الحديثة في الإحساس والتمثيل، ولكنها تصبح همسا له وقع الخطب الرنانة، وخطبا رنانة تتلقفها الأذن وكأنها همس. (3) عن الأقنعة
أشار علي أحد الأصدقاء الذين أتيح لهم أن يقرءوا هذه المسرحية أن أوصي باستخدام الأقنعة في تمثيلها، باعتبار أنها أنماط وشخصيات قناعية. ولكني لا أحبذ استعمال الأقنعة هنا، فأنا شخصيا أكره التمثيل بالأقنعة، وشعبنا يكرهها تمثيلا أو حقيقة. وليس لدينا مانع أبدا أن يلعب الماكيير بوجه الممثل كما يشاء، ولكن فكرة القناع نفسها لا تعجبنا إلا في حلقات زورو، فلمسرحنا تقاليد عريقة ربما أعرق من الكورس والقناع وقواعد أرسطو. (4) عن شخصية فرفور
في تصوري للمثل الذي يقوم بدور فرفور قلت أن لا بد أن يكون خفيف الدم أصلا أو معروف عنه أن لسانه لذاع، وكثيرون من الممثلين قد يضايقهم النص على شيء كهذا، فالممثل الأصيل في رأيهم باستطاعته أن يقوم بأي دور يشترط أن يحسه إحساسا كاملا ويهضم الشخصية، ثم إن خفة الدم أو اللسان اللاذع في الحياة العادية قد تختفي تماما على المسرح، بينما الممثل الذي يبدو وقورا في حياته باستطاعته أن ينقلب إلى فرفور حقيقي على المسرح، وهذا كله قد يكون صحيحا إذا نظرنا إلى التمثيل باعتبار أنه فن التمثيل، ولكنني أحس دائما أني ضد هذا الرأي، فالكتابة أيضا فن، ولكن الكاتب لا يستطيع أن يكتب أي موضوع، ولا أن يجيد تصوير أي شخصية، فالكتابة فن وإيمان معا، وكذلك الموسيقى ليس باستطاعته أبدا أن يؤلف أي موسيقى، إنه دائما يختار المواضيع التي توافق حاسته الجمالية ويستطيع بها أن يعبر عن وجهة نظره. لهذا أنا لا أعتقد أن الممثل الموهوب هو الذي باستطاعته أن يمثل أي دور، إنه لا يكون موهوبا حينئذ، ولكنه على أحسن الفروض «صنايعي» أو «حرفي»؛ ذلك لأن التمثيل ليس مجرد فن وموهبة، إنه يحتوي أيضا على مثل وإيمان ورسالة. وقد يكون هذا الرأي مخطئا في كثير من الحالات أو مبالغا فيه، ولكني هنا في شخصية فرفور كما حلمت بها دائما أريد لها ممثلا من ذلك النوع، ممثل لا يمثل ولا يتصيد الانفعال ولا يدعي ما ليس فيه، ممثل بسليقته، فرفور حقيقي. والفرافير موجودون، ولكنهم قليلون، من بين كل ألف أو بضعة آلاف نجد فرفورا، في مدرستك الثانوية، في كليتك، في قريتك أو مصنعك أو مؤسستك، لا بد التقيت يوما بهذا الإنسان الذي لا يكف لسانه عن سلخ الأوضاع والآخرين والأصدقاء والأعداء ونفسه وكل شيء، الناس تضحك وتأخذه على أنه مجرد مضحك ودائما تنتظر تعليقه. ولكن هذا الفرفور نفسه، هل هو مجرد إنسان همه أن يضحك الآخرين؟! إنه قطعا يجد متعة في إضحاك الآخرين، ولكن لماذا هو وحده القادر على هذا؟ ألمجرد كونه سريع البديهة أو قادرا على اصطياد موضع النكتة أو السخرية؟ ولماذا يجد هو في هذا الحدث أو ذاك ما يستطيع أن يسخر منه ولا تجد أنت؟ لا بد أنه إذن إنسان غير عادي، ليس فوق البشر، ولكنه مختلف عن البشر، على الأقل في وجهة نظره. وأهم ما يميزه أنه مؤمن بوجهة النظر هذه أكثر حتى من إيمانه بنفسه؛ إذ كثيرا ما يستعملها للسخرية من نفسه. إنه إذن إنسان له وجهة نظر قد تضحك لفرط غرابتها، ولكن أثرها أبدا لا يزول إذ هي تهدم وتبني في أنفس الناس بينما هم مشغولون بالقهقهات.
إن الممثل اللائق لهذا الدور لا بد أيضا أن يكون ممثلا له وجهة نظر فرفورية أو قريبة منها، فالتمثيل زمان، زمان جدا، كان يعتمد أساسا على الفرافير، زمان قبل أن يعي الناس بحقيقة التمثيل وأن اسمه مسرح وحقيقة الممثلين، زمان حين كان الجمهور نفسه يدفع بفرافيره فقط إلى الحلبة ويلتهب سعادة وحماسة وضحكا لكل ما يقولون، فهم ليسوا ممثلين، إنهم مؤلفون أيضا وحكماء وساخرون ولهم وجهة نظر جديدة دائما وغريبة. كان لا يجرؤ على الوقوف وسط الجموع المحتشدة إلا فرفور حقيقي يتحدث ويضحك ويهرج بالسليقة، ولا يفعل، ولا يفعل، إذ هو في حياته أيضا فرفور، والناس تتداول أخباره وتعليقاته وحكاياته وكأنها نوادر جحا. أما والتمثيل قد أصبح «علما» يدرس في المعاهد، و«فنا» في كتب يستطيع من يشاء أن يطلع عليها وينجح في القبول، وأصبحت المسارح بتذاكر وديكورات وحجز وإخراج وتأليف، أما وقد اتخذ هذا الفن طابع العصر الصناعي وأدخلت عليه كافة التحسينات الميكانيكية من أضواء ومسرح دائري ومؤثرات صوتية، فالوضع أيضا قد شمل الممثلين وأصبحوا يستعملون كقطع الإكسسوار في أي دور وأي رواية؛ لأن الهدف نفسه من التمثيل والمسرح تغير، لم يعد رسالة ووظيفة اجتماعية، وإنما أصبح طريقا إلى الشهرة والمجد والمكانة.
ولقد قرأت كتبا كثيرة عن فن التمثيل، ورأيت الطرق التي تشبه التنويم المغناطيسي التي يلجأ إليها المخرجون حتى الكبار منهم مثل ستانلافسكي في تعليم الممثلين كيفية تقمص الأدوار، أي أدوار، وأي ممثلين، وأي روايات؛ لأن الفرقة كالمعهد قد أصبحت مصنعا لتخريج قطع غيار بالجملة.
Page inconnue