Art and Religion
إذا كنت في الفصل الأول قد تجشمت عناء كبيرا لكي أبين أن الفن لا يدين للحياة بشيء، فإن عنوان الفصل الثاني «الفن والحياة» قد يثير شبهة التناقض، غير أن الأمر أبسط من ذلك؛ فرغم أن الفن لا يدين بشيء للحياة فإن الحياة قد تدين حقا بشيء ما للفن. إن الطقس مثلا مستقل بدرجة فائقة عن آمال البشر ومخاوفهم، إلا أنه يندر من بيننا من يعلو شأنه عن الاكتراث بالطقس. إن الفن ليؤثر في حيوات الناس، إنه يثير النشوة، وهو بذلك يضفي لونا وأهمية على ما من شأنه أن يكون بدون الفن أمرا كئيبا وتافها نوعا ما. إن الفن عند البعض يجعل الحياة جديرة بأن نحياها، والفن أيضا يتأثر بالحياة؛ لأن إبداع الفن يتطلب أناسا ذوي أيدي وحس بالشكل واللون والمكان الثلاثي الأبعاد، والقدرة على الشعور والتوق إلى الإبداع؛ ومن ثم فإن للفن صلة كبيرة بالحياة؛ بالحياة الوجدانية. أما أنه وسيلة إلى حالة من النشوة العالية فهو أمر متفق عليه، وأما أنا يجيء من الأعماق الروحية للطبيعة الإنسانية فهو أمر يعز أن نختلف فيه. إن تذوق الفن هو بالتأكيد سبيل إلى النشوة، وإبداعه ربما يكون هو التعبير عن حالة نشوة ذهنية، الفن في حقيقة الأمر ضرورة للحياة الروحية ونتاج لها.
إن من يوافقونني تماما فيما قلته حتى آخر شوط من رحلتي الميتافيزيقية، سيسلمون بأن الانفعال المعبر عنه في العمل الفني هو انفعال ينبع من أعماق الطبيعة الروحية للإنسان، وحتى من لا يجدون لكلامي أي معنى سيوافقون على أن الجانب الروحي من الإنسان يتأثر تأثرا هائلا بالأعمال الفنية؛ الفن إذن مرتبط بالحياة الروحية التي إليها يعطي ومنها بالتأكيد يأخذ. والفن، بطريقة غير مباشرة، يرتبط ارتباطا ما بالحياة العملية؛ فالفن يفعل فعله في شخصياتنا، وإلا فما أهونها وأحقرها تلك الخبرات الوجدانية التي تغادر شخصياتنا دون أن تمسها من قريب أو بعيد؛ فمن خلال تأثيره على الشخصية ووجهة الرأي، يمكن للفن أن يؤثر في الحياة العملية، غير أن الحياة العملية والعاطفة الإنسانية لا يمكن أن تؤثرا في الفن إلا بقدر ما يمكن أن تؤثرا في الأحوال التي يعمل الفنانون في ظلها، وبهذه الطريقة قد تؤثران بعض التأثير في إنتاج الأعمال الفنية، فإلى أي حد يمتد هذا التأثير؟ هذا ما سوف أتناوله في موضع آخر.
كذلك يعنى كثير جدا من أعمال الفن البصري بالحياة، أو بالأحرى بالعالم الفيزيائي الذي تشكل الحياة جزءا منه؛ ذلك أن الأشخاص الذين يبدعون هذه الأعمال إنما قذفت بهم في الحالة الإبداعية بيئتهم المحيطة. لقد لاحظنا، وما كان بوسعنا أن نغفل، أنه أيا ما كان الانفعال الذي يعبر عنه الفنانون فإنه يأتي إلى الكثير منهم خلال تأمل الأشياء المألوفة للحياة، ويبدو أن موضوع انفعال الفنان هو في أغلب الأحوال إما مشهد أو شيء أو مركب من خبرته البصرية الكلية. قد يعنى الفن بالعالم الفيزيائي، أو بأي جزء أو أجزاء منه، كوسيلة إلى انفعال، وسيلة إلى تلك الحالة الروحية المتميزة والخاصة التي نسميها الإلهام، ولكن الفن يتجاهل قيمة هذه الأجزاء بوصفها وسيلة إلى أي شيء عدا الانفعال - أي أنه يتجاهل منفعتها العملية، وكثيرا ما يهتم الفنانون بالأشياء، ولكنهم لا يهتمون أبدا ببطاقات الأشياء. لقد اخترع هذه البطاقات المفيدة أناس عمليون من أجل أغراض عملية، والبلية هي أن العمليين من الناس بعد أن يكتسبوا عادة تمييز البطاقات يميلون إلى أن يفقدوا القدرة على الانفعال، وبما أن الطريقة الوحيدة لبلوغ الشيء في ذاته هي الإحساس بدلالته الانفعالية، فإنهم سرعان ما يبدءون في فقد حسهم بالواقع. لقد بين الأستاذ روجر فراي
Roger Fry
أنه من المحال على أغلب البشر أن ينظروا إلى ثور مغير (هاجم) كغاية في ذاته ويسلموا أنفسهم للدلالة الانفعالية لأشكال الثور، فنحن ما نكاد نميز بطاقة «ثور مغير» حتى نهيئ أنفسنا للفرار لا للتأمل،
1
ها هنا تكون عادة تمييز البطاقات مفيدة لنا، إلا أنها تضرنا عندما تحول بين الأشياء وبين استجابتنا الانفعالية لها رغم غياب أي داع للفعل أو العجلة، ليست البطاقة أكثر من رمز يوجز للجنس البشري المشغول دلالة الأشياء باعتبارها «وسائل»، يدلف الشخص العملي إلى غرفة حيث توجد كراس وطاولات وأرائك وسجادة ورف مصطلى. إنه يلحظ كلا منها فكريا، وإذا شاء أن يجلس أو يضع كأسا فسيعرف كل ما تلزم معرفته لتحقيق غرضه. إن البطاقة لا تبلغه إلا بالحقائق التي تخدم أغراضه العملية. أما الشيء ذاته الذي يقبع وراء البطاقة فلا يرد ذكره، أما الفنانون، من حيث هم فنانون
qua artist ، فلا يلقون بالا إلى البطاقات؛ فهم لا تعنيهم الأشياء إلا بوصفها وسائل إلى صنف معين من الانفعال، وهو مساو لقولنا إنهم يأبهون للأشياء إذ تدرك كغايات في ذاتها فحسب؛ فعندما «تدرك» الأشياء كغايات، هنالك فقط «تصير» وسائل إلى هذا الانفعال، وعندما نكف عن النظر إلى الأشياء في منظر طبيعي كوسائل إلى أي شيء، هنالك فقط يمكننا أن نشعر بالمنظر الطبيعي شعورا فنيا، ولكن عندما ننجح بالفعل في اعتبار أجزاء منظر طبيعي كغايات في ذاتها، كأشكال خالصة، فإن هذا يعني أن المنظر الطبيعي يصير، «بحكم طبيعته ذاتها»
ipso facto ، وسيلة إلى حالة ذهنية إستطيقية خاصة، ليس يعنى الفنانون إلا بهذه الدلالة الانفعالية الخاصة للعالم الفيزيائي؛ إنهم «يدركون» الأشياء بوصفها «غايات»؛ ولذا فإن الأشياء «تصير» بالنسبة لهم «وسائل» إلى النشوة.
Page inconnue