representation
فإنني أوافق عندئذ على أن هناك صنفا واحدا من التمثيل غير خارج عن الموضوع. إنني أوافق أيضا على أننا يجب أن نأتي معنا، إلى جانب شعورنا بالخط واللون، بمعرفتنا بالمكان إذا شئنا أن نظفر من كل صنف من الشكل بأوفى نصيب، ورغم ذلك فإن هناك تصميمات رفيعة لا يحتاج إدراكها بالضرورة إلى هذا الصنف من المعرفة. إذن رغم أن المعرفة بالمكان غير خارجة عن الموضوع في بعض الأعمال الفنية، فإنها غير ضرورية لإدراك جميع الأعمال، وما يتعين أن نقوله هو أن تمثيل المكان ذي الأبعاد الثلاثة لا هو خارج عن الموضوع ولا هو ضروري بالنسبة لكل فن، وأن كل صنف عداه من التمثيل هو خارج عن الموضوع.
ليس من المستغرب على الإطلاق أن هناك عنصرا تمثيليا أو وصفيا خارجا عن الموضوع في الكثير من الأعمال الفنية العظيمة، وسوف أحاول في موضع آخر أن أبين لماذا هو غير مستغرب. إن التمثيل ليس موبقا بالضرورة، وليس هناك ما يمنع أن تكون بعض الأشكال البالغة الواقعية هي أشكال بالغة الدلالة، إلا أنه في أغلب الأحوال يكون التمثيل علامة ضعف في الفنان؛ فمن دأب الفنان الذي لا يقوى على خلق أشكال قادرة على إثارة انفعال إستطيقي كبير أن يتحايل على ضآلة ما يثيره باللجوء إلى انفعالات الحياة، وهو لكي يثير انفعالات الحياة فلا بد له أن يستخدم التمثيل؛ مثال ذلك أن يشرع رسام في تنفيذ مخططه، ولأنه يخشى أن تحيد رميته الأولى عن إصابة شكل جمالي فسوف يحاول الإصابة بالثانية بأن يوقظ انفعالا بالخوف أو الشفقة، ولكن إذا كان الميل إلى العزف على عواطف الحياة لدى الفنان هو علامة على خبو الإلهام في كثير من الأحوال، فإن ميل المشاهد إلى التماس عواطف الحياة وراء الشكل هو علامة على قصور الحساسية في جميع الأحوال؛ فهو يعني أن انفعالاته الإستطيقية ضعيفة أو غير تامة على كل حال؛ فإزاء العمل الفني يشعر الأشخاص الذين لا ينفعلون بالشكل الخالص إلا قليلا، أو لا ينفعلون على الإطلاق، بالحيرة الشديدة؛ فهم أشبه بالصم في حفل موسيقي، إنهم يعرفون أنهم ينبغي أن يشعروا إزاء هذا الشيء بانفعال هائل، غير أن الصنف الخاص من الانفعال الذي يمكن أن يثيره فيهم هو شيء يحسونه بالكاد أو لا يحسونه على الإطلاق، وهكذا يقرءون في أشكال العمل تلك الوقائع والأفكار التي يملكون القدرة على أن يشعروا بها، وهي الانفعالات المألوفة في الحياة، وعندما يواجهون بإحدى اللوحات فهم يردون أشكالها تلقائيا إلى العالم الذي أتوا منه، فهم يعاملون بالشكل المبتكر كما لو كان شكلا مقلدا، ويعاملون اللوحة كما لو كانت صورة فوتوغرافية، وبدلا من أن يترحلوا على تيار الفن إلى عالم جديد من الخبرة الإستطيقية، فهم يولونه أظهرهم ويعودون أدراجهم إلى عالم الاهتمامات البشرية. إن دلالة العمل الفني بالنسبة لهم تتوقف على ما يجلبونه له؛ ولذلك لا يضيف الفن شيئا جديدا إلى حياتهم، إن هي إلا المادة القديمة قد أثيرت، إن العمل الفني الجيد ليحمل الشخص القادر على تذوقه ويخرج به من الحياة إلى الوجد، واستخدام الفن كوسيلة إلى انفعالات الحياة هو مثل استخدام تلسكوب لقراءة جريدة، وسوف تلاحظون أن الأشخاص الذين لا يقدرون على الشعور بانفعالات إستطيقية خالصة يتذكرون اللوحات بموضوعاتها، أما القادرون فكثيرا ما لا تكون لهم أي فكرة عما يكونه موضوع لوحة ما؛ ذلك أنهم لم يعيروا العنصر التمثيلي انتباها قط؛ ومن ثم فحين يناقشون اللوحات الفنية فهم يتحدثون عن الهيئة التي تتخذها الأشكال، وعن علاقات الألوان وكمياتها، وكثيرا ما يكون بإمكانهم أن يحكموا من خلال خط واحد ما إذا كان الفنان قديرا أو غير قدير. إن اهتمامهم بكامله منصب على الخطوط والألوان وعلاقاتها وكمياتها وكيفياتها، غير أنهم من خلال هذه الأشياء يظفرون بانفعال أكثر عمقا وأكثر جلالا بكثير من أي شيء يمكن أن يمنحه وصف الوقائع والأفكار.
قد يلمس البعض في هذه العبارة الأخيرة نبرة شديدة الثقة ... زائدة الثقة، وربما أمكنني أن أبررها وأن أجعل مقصدي أكثر وضوحا أيضا إذا ما تناولت بالوصف مشاعري الشخصية تجاه الموسيقى. إنني في الحقيقة لست مولعا بالموسيقى، ولست أجيد فهم الموسيقى، وأجد صعوبة بالغة في إدراك الشكل الموسيقي، ومن المؤكد أن غوامض الهارموني والإيقاع ودقائقهما تفوتني في معظم الأحوال، والحق أن شكل أي مؤلف موسيقي لا بد أن يكون بسيطا كيما يتسنى لي أن أفهمه فهما صحيحا. إن رأيي في الموسيقى لا يعتد به، غير أني في بعض الأحيان، إذ أجلس في حفل موسيقي، يكون إدراكي للموسيقى على قلته وتواضعه إدراكا خالصا؛ أي أنني في بعض الأحيان تكون لي رغم ضعف الفهم ذائقة نقية ؛ ومن ثم فعندما أشعر أني متيقظ وصاف ومنتبه، في بداية الحفل على سبيل المثال؛ إذ يكون ما يجري عزفه بمنال فهمي، فإنني أستمد من الموسيقى ذلك الانفعال الإستطيقي الخالص الذي أستمده من الفن البصري. إن الانفعال أقل شدة والنشوة أسرع زوالا؛ لأن فهمي للموسيقى أضعف من أن تحملني بعيدا في عالم النشوة الإستطيقية المحضة، إلا أنني لا أعدم لحظات أدرك فيها الموسيقى كشكل خالص؛ كأصوات متضامة وفقا لقوانين ضرورية خفية؛ كفن بحت له دلالته الهائلة الخاصة به ولا علاقة له من قريب أو بعيد بدلالة الحياة، وإنني في تلك اللحظات لأتبدد في نفس الحالة النفسية اللامتناهية الجلال التي ينقلني إليها الشكل البصري الخالص.
يا لرداءة حالتي الذهنية المعتادة حين أكون في حفل موسيقي، ضجرا كنت أو محيرا فإنني أدع إحساسي بالشكل يفلت مني، وأفشل في فهم التآلفات الهارمونية فأظل أنسج بها أفكار الحياة، وأعجز عن الشعور بالانفعالات الصارمة للفن فأظل أقرأ في الأشكال الموسيقية عواطف بشرية من رعب وغموض وحب وكراهية، وأنفق اللحظات - مستمتعا إلى حد مرض - في عالم من المشاعر الآسنة المتدنية، فلو أن نتفا من أبشع ضروب التمثيل الأونوماتوبي
10
قد أقحمت داخل السيمفونية في هذه اللحظات، لما تأذيت، بل الأرجح جدا أنني سأبتهج لها وأسر؛ فهي حرية أن تقدم لي منطلقات جديدة لتيارات المشاعر الرومانسية والتفكير البطولي. إنني أدري تماما ما الذي حدث، لقد كنت أتخذ الفن سبيلا إلى انفعالات الحياة وأقرأ فيه أفكار الحياة، لقد كنت أقطع جلاميد صخر بموسى حلاقة، لقد ترديت من الذرى العالية للنشوة الإستطيقية إلى السفوح الحميمة للحياة البشرية الدافئة، إنها وطن بهيج، ولا يخلجن أحد من إمتاع نفسه هناك، كل ما في الأمر أن من عرف يوما عز الأعالي فعسير عليه ألا يستشعر في الأودية الدافئة شيئا من الهوان، ولا يتصورن أحد، لمجرد أنه قد جعل يمرح حينا في أرض الرومانسية الذلول الدافئة وأركانها الطريفة، أن بإمكانه حتى أن يحرز بما تكونه المواجيد الصارمة والمثيرة لأولئك الذين ارتقوا القمم البيضاء الباردة للفن .
ومثلي يؤثر معظم الناس التواضع في تقدير ذائقتهم الموسيقية، فإذا ما عجزوا عن أن يفهموا الشكل الموسيقي ويستمدوا منه انفعالا إستطيقيا محضا، اعترفوا بأنهم لا يفهمون الموسيقى فهما كاملا أو لا يفهمونها على الإطلاق، وهم يتبينون بوضوح تام أن هناك فرقا بين شعور الموسيقي تجاه الموسيقى البحتة وشعور المستمع الممراح الذي يرتاد الحفلات الموسيقية تجاه ما توحي به الموسيقى. إن هذا الأخير ليستمتع بانفعالاته الخاصة، كما يحق له تماما، وهو على بينة من قصورها ودونيتها، ومن المؤسف أن الناس تميل إلى أن تكون أقل تواضعا حين يتعلق الأمر بقدراتهم على تذوق الفن البصري؛ فالكل يميل إلى الاعتقاد بأن بإمكانه أن يستخلص من اللوحات على أية حال كل ما يمكن استخلاصه، والكل على استعداد لأن يصيح «دجال» أو «أفاك» في وجه من يقول بأن اللوحة يمكن أن يكون لديها أكثر من ذلك. إن نوايا أصحاب الانفعالات الإستطيقية الخالصة ليظن بها الظنون من جانب الذين لم يعرفوا في حياتهم أي شيء من ذلك، ولعل تفشي عنصر التمثيل هو ما يجعل رجل الشارع على كل هذه الثقة بأنه يعرف اللوحة الجيدة عندما يشاهدها، فلقد لاحظت أن الناس في مجال العمارة والخزف والنسيج ... إلخ تؤثر الاعتراف في نفسها بالجهل والخرق وتذعن لآراء أولئك الذين أنعم الله عليهم برهافة حسية خاصة. إنه لأمر مؤسف أن يتعذر إقناع المثقفين والأذكياء من الرجال والنساء بأن توافر ملكة كبيرة للإدراك الإستطيقي في مجال الفن البصري هو أمر مماثل في ندرته على أقل تقدير لنظيرتها في مجال الفن الموسيقي، ولقد أمكنني إذ قارنت بين خبرتي الخاصة في كلا المجالين أن أميز بوضوح شديد بين الإدراك النقي والإدراك المشوب، فهل كثير أن أناشد الآخرين أن يكونوا صادقين تجاه إحساسهم باللوحات قدر صدقي تجاه إحساسي بالموسيقى؟ فأنا على يقين من أن معظم الذين يرتادون معارض الصور يجدون شعورا جد قريب مما أجده في حفلات الموسيقى. إنهم ليظفرون بلحظات من النشوة الخالصة، غير أنها لحظات قصيرة وغير مضمونة، سرعان ما يرتدون بعدها إلى عالم الاهتمامات البشرية ويحسون بانفعالات طيبة ولا شك، ولكنها دون المستوى. وما عنيت قط أن ما يحظون به من الفن هو شيء رديء أو تافه، وإنما أعني أنهم لا يأخذون من الفن أطيب ما يمكن أن يعطيه، ولا قلت إنهم لا يمكنهم أن يفهموا الفن، وإنما أقول إنهم لا يمكنهم أن يفهموا الحالة الذهنية التي يجدها من يفهمون الفن على أفضل وجه، ولا أقول إن الفن لا يعني شيئا بالنسبة لهم أو يعني أقل القليل، بل أقول إن هؤلاء تفوتهم الدلالة الكاملة للفن، ولا يخطر لي لحظة أن أعرض بذائقتهم الفنية. إن غالبية الشخصيات الجذابة والذكية التي أعرفها يدركون الفن البصري إدراكا غير نقي، وعلى ذكر ذلك أقول إن إدراك جميع كبار الكتاب تقريبا كان إدراكا غير نقي، غير أنه لو تحقق وجود نسبة ضئيلة من الانفعال الإستطيقي الخالص؛ فإنني على ثقة من أنه حتى الإدراك الفني المشوب والضئيل هو واحد من أعلى الأشياء قيمة في الدنيا، إنه شيء ثمين حقا بحيث أجد نفسي في لحظات الوجد البالغ منجرفا إلى الاعتقاد بأن الفن قد يثبت يوما أن فيه خلاص العالم.
ولكن رغم أن أصداء الفن وظلاله تثري حياة السهول فإن روحه تسكن أعالي الجبال. إن من يتودد إلى الفن ودا مشوبا فحسب، فإن الفن يرد له صنيعه مضاعفا؛ فالفن كالشمس تدفئ البذرة الصالحة في تربة صالحة وتتيح لها أن تؤتي ثمارا صالحة، ولكن وحده العاشق الكامل من يذخر له الفن هدية عجيبة جديدة، هدية فوق كل ثمن. إن أصحاب الود الممذوق يجلبون إلى الفن ويغنمون منه أفكار عصرهم الخاص وعواطف حضارتهم، فلعل امرءا في أوروبا القرن الثاني عشر قد تأثر غاية التأثر بكنيسة رومانسكية بينا لم يجد شيئا في إحدى لوحات أسرة تانج. ولعل النحت الإغريقي كان يعني الكثير لامرئ من عصر لاحق في حين لا يحرك النحت المكسيكي فيه ساكنا؛ إذ كان بمقدوره أن يجلب للأول حشدا من الأفكار المتداعية لتكون موضوعات لانفعالات مألوفة، أما العاشق الكامل، ذلك الذي يملك الشعور بالدلالة العميقة للشكل، فإنه يبرأ فوق عوارض الزمان والمكان. إن مشكلات الأركيولوجيا والتاريخ وسير القديسين هي بالنسبة إليه أمر خارج عن الموضوع، فمتى كان شكل العمل دالا أصبح مصدره غير ذي صلة، إنه محمول أمام جلال تلك الصور السومرية في اللوفر على نفس التيار الانفعالي وإلى نفس النشوة الإستطيقية التي كانت تمل العاشق الكلداني منذ أربعة آلاف عام خلت، إن آية الفن العظيم أن جاذبيته عالمية خالدة؛
11
Page inconnue