ذات القيمة السيكولوجية والتاريخية، وتدخل الأعمال الطوبوغرافية واللوحات التي تروي حكايات وتوحي بمواقف، وتدخل وسائل الإيضاح بجميع أنواعها، إن الفرق واضح لنا جميعا؛ فمن منا لم يتفق له يوما أن يقول إن هذه أو تلك من اللوحات هي رسم ممتاز كوسيلة إيضاح، ولكنه لا قيمة له كعمل فني ؟ هناك بالطبع كثير من اللوحات الوصفية التي تتحلى، فيما تتحلى به، بالشكل الدال، غير أن هناك عددا أكبر لا يتحلى بذلك، إنها تروقنا وتطرفنا وقد تحركنا بمائة طريقة متنوعة، عدا أن تحركنا إستطيقيا، إنها وفقا لفرضيتي ليست أعمالا فنية، فهي لا تمس انفعالاتنا الإستطيقية؛ ذلك لأن ما ينالنا منها ليس الشكل بل الأفكار التي يقترحها الشكل أو المعلومات التي ينقلها.
قلما حظيت لوحة بالشهرة أو النجاح الذي حظيت به لوحة فريث
Frith «محطة بدنجتون»
،
5
ومن المؤكد أنني آخر من ينفس عليها شهرتها ورواجها، ولكم تريثت إزاءها وأطلت تأملها لأحلل تفصيلاتها الفاتنة وأصوغ لكل منها ماضيا متوهما ومستقبلا مستحيلا، ولكن رغم أنه من المؤكد أن رائعة فريث أو طبعات منها قد غمرت الآلات بآماد من المتعة المدهشة والعجيبة، فليس أقل توكيدا أنها لم تبث في خبرة أي مشاهد آنة واحدة من النشوة الإستطيقية؛ ذلك وإن اللوحة لتتضمن العديد من الانتقالات اللونية البارعة، وإنها أبعد ما تكون عن أخطاء الرسم. إن لوحة «محطة بدنجتون» ليست عملا فنيا بل وثيقة طريفة ومسلية؛ فالخطوط والألوان فيها تستخدم لكي تردد حكايات وتوعز بأفكار وتشير إلى طرائق وعادات عصر من العصور؛ إنها لا تستخدم لتبث انفعالا إستطيقيا؛ فالأشكال وعلاقات الأشكال لم تكن بالنسبة لفريث موضوعات انفعال، بل وسائل لاقتراح انفعالات وتوصيل أفكار.
إنها أفكار ومعلومات طريفة وجيدة العرض تلك التي تنقلها لوحة «محطة بدنجتون»، وهي من الطرافة والجودة بحيث تمنح اللوحة قيمة كبيرة وتجعلها جديرة بالحفظ كل الجدارة. إلا أنه مع تقدم التقنيات الفوتوغرافية والسينمائية نحو مزيد من الدقة والإتقان، فإن هذا الصنف من اللوحات صائر من التبطل والبوار، وهل ثمة من شك في أن بإمكان أحد مصوري ال «ديلي ميرور» بالتعاون مع أحد مراسلي ال «ديلي ميل» أن ينبآنا عن «لندن يوما بيوم» بما لا يحلم به أي عضو من أعضاء «الأكاديمية الملكية»؟ فإذا أردنا في المستقبل أن نتحرى خبرا عن السلوكيات والأنماط السائدة فسوف نلجأ إلى الصور الفوتوغرافية يدعمها قليل من الكتابة الصحفية الذكية، بدلا من أن نلجأ إلى الرسم الوصفي. ولو أن الأكاديميين في إمبراطورية نيرون كانوا قد عمدوا إلى تسجيل عادات عصرهم وأنماطه في لوحات جصية جدارية وفسيفسائية، بدلا مما لفقوه من تقليدات بشعة الغثاثة لفن العصور القديمة، لكانت أعمالهم الآن، على رداءتها الفنية، منجم ذهب تاريخيا، فيا ليتهم كانوا كلهم فريث بدلا من ألماتاديما! غير أن التصوير الفوتوغرافي قد سد الطريق على أي تحويل كهذا بالنسبة للغثاء العصري، فلا مناص إذن من الاعتراف بأن اللوحات على طريقة فريث لم تعد إليها حاجة، إن هي إلا إهدار لساعات رجال ذوي براعة، من الأجدى أن يستخدموا في أعمال أوسع نفعا.
على أن هذه اللوحات، بعد كل شيء، لا بأس بها، وهو نعت لا يرقى إليه ذلك الصنف من التصوير الوصفي الذي تعد لوحة «الطبيب» مثاله الصارخ. بديه أن لوحة «الطبيب» ليست عملا فنيا؛ فالشكل هنا لا يستخدم كموضوع للانفعال، بل كوسيلة لاقتراح انفعالات والإيعاز بعواطف، وهذا يكفي وحده لجعلها تافهة، بل إنها أكثر من تافهة؛ لأن العاطفة التي توعز بها هي عاطفة كاذبة، فما توعز به ليس الشفقة والإعجاب بل إحساس بالرضا الذاتي عن شفقتنا نحن وكرمنا، إنها إسفاف عاطفي. إن الفن فوق الأخلاق، أو بالأحرى كل فن هو أخلاقي؛ ذلك أن الأعمال الفنية، كما أود أن أبين الآن، هي وسائل مباشرة للخير، فما إن نحكم على شيء بأنه عمل فني حتى نكون قد حكمنا بأنه ذو أهمية قصوى أخلاقيا وجعلناه دون منال الداعية الأخلاقي. غير أن اللوحات الوصفية التي ليست أعمالا فنية، وبالتالي ليست بالضرورة سبلا إلى حالات ذهنية خيرة، هي جديرة بأن تقع تحت طائلة الفيلسوف الأخلاقي. وما دامت «الطبيب» ليست عملا فنيا، فهي تفتقر إلى القيمة الأخلاقية الهائلة التي تتحلى بها جميع الموضوعات التي تبعث النشوة الإستطيقية، وإن الحالة الذهنية التي تفضي إليها بوصفها صورة إيضاحية تبدو لي غير مرغوب فيها.
6
وأعمال أولئك الشبان المغامرين - المستقبليين الإيطاليين
Page inconnue