هذا ما يقوله صاحب اليتيمة، والذي لا شك فيه أن له فضل ملاحظة الظاهرة ثم فضل تعليلها، وفي الأمثلة التي يوردها ما يقطع بصحة ما يقول، وأما التعليل فواضح النقص؛ وذلك لأنه لا يكفي أن نرى في تجديده مهارة فنية ورغبة في رفع نفسه إلى مرتبة ممدوحه فتلك ظاهرة أعمق في تاريخ الشاعر وطبيعته النفسية مما ظن الثعالبي.
وأول ما نلفت إليه النظر هو ما لاحظه صاحب اليتيمة نفسه من أن استخدام لغة الحب في المدح والحرب مذهب انفرد به المتنبي وهذا حق، فإننا لم نشهد ذلك من شعراء العرب، جاهليين كانوا أو إسلاميين، وإذن فتفسيره لا يمكن أن نجده إلا في حياة الشاعر وطبيعته النفسية (تراجع هذه المسألة بالتفصيل في كتاب «النقد المنهجي عند العرب» للمؤلف).
وقد كان حب المتنبي لسيف الدولة حبا مخلصا فاضت به نفسه، وإنما تكلف وساقته الدوافع الخفية عند مدحه لغير هذا الأمير العظيم، وهنا أيضا تصح ملاحظة الثعالبي الأخرى عن مقدرة الشاعر الفنية في تصريف المعاني وإجادة النقل والتلاعب بالكلام.
ثم إن صدور المتنبي عن هذا المذهب في المدح وانفراده به يدل على أن الرجل لم يكن شاعرا مرتزقا كما يزعم البعض، والناظر في مدائحه ذاتها يرى أن شخصية الشاعر لم تخل منها قط، وأن مدحه الجيد هو ما قاله في سيف الدولة وهو مدح أشبه بالحب منه بالتملق، وأما مدائحه الأخرى وبخاصة كافورياته فخير ما فيها ليس مدح كافور وإنما هو شعر المتنبي الشخصي أو إشاراته إلى سيف الدولة. •••
وبعد هذه الوقفة عند المتنبي الذي نعتبره أكبر شعراء العرب القدماء وأقواهم طبعا وأكثرهم أصالة، نستطيع أن نتخطى عصور الانحطاط التي تتابعت على الشعر العربي بعد القرن الخامس للهجرة حتى نصل إلى عصر البعث والنهضة الأدبية المعاصرة التي ابتدأها شاعر البعث الكبير محمود سامي البارودي في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر، فهو الشاعر الذي أعاد للشعر العربي ديباجته الأولى، وخلصه من المحسنات البديعية العقيمة والزخارف اللفظية الخاوية التي كان قد انحدر إليها، وذلك بفضل عودته إلى الشعر العربي القديم في عصور ازدهاره، وقد وضعت الطباعة الحديثة دواوين الشعر القديمة وموضوعات الأدب العربي القديم بين يديه ويدي جيله كله فأفاد منها في رد الديباجة القديمة الناصعة لشعرنا الغنائي، وذلك مع قوة في الطبع وانفعال بأحداث عصره وظروف حياته الثورية الشجاعة، فجاء شعره إيذانا بنهضة شعرية رائعة، هي التي وضعت الأساس للنهضة الأدبية المعاصرة، وأسفرت عن المدارس الأدبية المتباينة التي ظهرت إما بوحي من قديمنا وإما بتأثر بالثقافة والآداب الغربية التي أخذنا نزداد بها اتصالا يوما بعد يوم.
حركة البعث
والذي لا شك فيه أن الشيخ حسين المرصفي أستاذ البارودي قد حدد في كتابه «الوسيلة» المنهج السليم لكل بعث منتج عندما نصح شداة البعث بأن يستوعبوا من أصيل الشعر القديم أكثر ما يستطيعون استيعابه، على أن ينسوا بعد ذلك كل ما استوعبوه حتى لا يظل حملا تنوء به ملكاتهم الخلاقة، وحتى لا يأتي شعرهم شعر ذاكرة وقوالب محفوظة بدلا من شعر طبع وحياة، وما من شك في أن البارودي قد استفاد بهذه النصيحة وعمل بها، فاكتسب من الشعر القديم قوة العبارة وجهارة النغم وحاول ما استطاع أن يكون تعبيره أصيلا، وأن يكون مضمونه منتزعا من ذات نفسه وأحداث عصره، ووفق في ذلك أحيانا كثيرة حتى ليذكرنا شعره أحيانا بشعر المتنبي وما فيه من أصالة قوية يمكن أن نحس بها.
وعلى الرغم من وضوح المنهج العربي التقليدي في شعر البارودي من حيث صورته وديباجته ونغماته، إلا أننا مع ذلك نستطيع أن نعثر على هذا الشاعر في شعره على نحو ما قلنا عن ابن الرومي والمتنبي وأبي العلاء المعري، ولعله يبرز في ذلك شاعرنا التقليدي المعاصر أمير الشعراء أحمد شوقي الذي لا نستطيع أن نجد في شعره ما يعيننا على تخطيط صورته النفسية على نحو ما نستطيع أن نفعل مع البارودي في مثل قوله:
سواي بتحنان الأغاريد يطرب
وغيري باللذات يلهو ويعجب
Page inconnue