وهناك من يقول: إن الحب يعمي، ولكن الحقيقة أن الحب يبصر ويفتق الذهن للفهم والمعرفة، ولكن الكراهة والحقد والبغض والنفور، كل هذه تعمي وتغشي على عيوننا وعقولنا، فلا نبصر ولا نفهم.
والرجل الذي يحب الحياة الفنية، ويحب الإنسان والطبيعة، ويحب الثقافة، يجد أنه بقدر السعة في حبه يزداد فهمه وتعمقه ورغبته التي لا تنقطع في الاستزادة من الفهم والدرس والاستطلاع، ثم هو بهذا الحب يجد الرؤيا التي يهدف إليها في إصلاح منشود، أو ظلم يرفع، أو اختراع يحقق، فيعيش سعيدا بهذه الأفكار، ويشع ضياء على كل ما يمسه؛ كأن ذهنه مفسفر يضيء على ما حوله.
ومثل هذا الرجل يدين بدين مقدس، ولا عبرة بأنه يخالف التقاليد؛ لأن الدين هو نقطة التبلور في اختباراتنا وثقافتنا، والرجل الذي يختبر كثيرا، ويدرس كثيرا، ويتجه وجهة الحب، لا بد أن يصل إلى هذه النقطة، وأن يرى رؤيا الدين. ومن هنا كفاحه وإنسانيته؛ لأنه في جميع كفاحه الماضي إنما كان يحاول أن يكون إنسانا إنسانيا، وأن يحمل البشر على أن يكونوا إنسانيين.
وإذا كان رجل التقاليد ينبذه بأنه ملحد أو كافر لأنه يضل في اشتباكاته الثقافية، فإن غيره من المتعمقين يعرف إيمانه. هذا الإيمان الذي وصف به فولتير في كفاحه للمتعصبين والمستبدين إزاء رجال التقاليد من كهنة رجال الدين المسيحي في فرنسا. ونحن الآن نعرف أن الدين، بل القداسة كانت في قلب فولتير، وأن الكفر كان في قلوب أولئك الكهنة.
وخلاصة القول: إن فن الحياة يقتضينا أن تكون لنا اتجاهات وميول تنتهي إلى رؤيا، فنكسب منها المذهب البشري، بل الدين، ونجهد ونخدم في تفاؤل وحب؛ نحب الإنسان والشرف والمجد والصحة والخير، ونحب الحيوان والنبات والجبال والأنهار والرسوم الفنية والمدن التاريخية، وبذلك لا نركد، بل نبقى على نشاط دائم مكافحين محبين للخير، كارهين للشر.
الحياة مغامرة
عندما نتأمل القصص السامية التي ألفها كتاب خالدون، نجد أننا إنما نقيس هذا السمو بشيئين: إما بشخصية فذة تغمر القصة، وتجعل من العيش اقتحاما، وتجد مرح الحياة في المغامرة والدخول في الغمر العباب دون القناعة بالشواطئ والمخاضات، وإما نجد، بدلا من هذه الشخصية، مشكلة حيوية عظمى، نصل فيها إلى الأعماق، فنفهم أكثر ونعرف أكثر في الحياة.
ومع أننا نقرأ كثيرا؛ فإنه قلما يخطر ببال أحدنا أن يعيش في هذه الدنيا كما لو كان بطلا في قصة سامية؛ وذلك بأن يكون هو نفسه شخصية فذة، أو يكون قد اعتنق مشكلة من مشكلات البشر الحيوية فيطابق بينها وبين نفسه ويعيش لها؛ فهي هو وهو هي.
ولكن الواقع أن كثيرين منا - على الرغم مما قلنا - يطابقون بين حيواتهم وبين القصص التي يقرءون؛ فالشاب الذي ينكب على قراءة قصة ما إنما يطابق بين نفسه وبين هذه الغراميات المتأججة في القصة، والفتاة التي تدمن الذهاب إلى الدور السينمائية إنما تطابق بين نفسها وبين فتيات الدراما التي تشاهدها؛ وهي تعيش بجميع إحساساتها فيما ترى من اقتحامات هؤلاء الفتيات، ولكن، وهذا هو المهم، هذه القصص والدرامات ليست سامية؛ ولذلك فإن المطابقة بين قارئها أو مشاهدها وبين أبطالها أو حوادثها ليست مما يرفع؛ أي ليست مما يساعدنا على أن نجعل حياتنا سامية نعيشها في فن وحذق وتأنق ومجد.
ويجب أن نجعل حياتنا مغامرة، بل هي كذلك من أول ساعة نخرج فيها من الرحم إلى هذا العالم؛ فإن الموتى الذين لا يطيقون هذا الخروج كثيرون جدا. فإذا كانت بداية حياتنا مغامرة فيجب ألا يغيب عنا هذا الرمز، ويجب أن نستبقي هذا الشعار سائر عمرنا، ويجب ألا ننسى أبدا أن الطمأنينة التي نتوخاها هي على الدوام جزئية ونسبية وظرفية؛ لأن الطمأنينة التامة هي الموت.
Page inconnue