والرجل الحكيم هو الذي يعرف كيف يستغني دون أن تنقص حاجاته الضرورية، ومن هنا قيمة الدعوة إلى الحياة البسيطة؛ أي إلى بساطة العيش. وهذه الدعوة هي نداء قديم يتردد صداه عبر التاريخ منذ آلاف السنين. وكلنا نذكر «ديوجينيس» الإغريقي الذي لقيه الإسكندر المقدوني وسأله عما يستطيع أن يؤديه له من مساعدة، فأجاب بأن كل ما يطلبه إنما هو أن يتنحى عنه حتى لا يمنع أشعة الشمس عن جسمه!
ونحن نقرأ هذه النادرة كأنها نكتة، ولكن لماذا؟ أليس أمامنا البرهان على أن ديوجينيس كان على حق، وكان سعيدا ببرميله الذي كان ينام فيه، في حين كان الإسكندر شقيا بما جلب إلى نفسه من هموم وأعباء؟! ألم يعمد الإسكندر إلى الانتحار وهو في الثلاثين؟!
كان الإسكندر يندفع بروح الاقتناء إلى الفتح والحرب، وكان ديوجينيس يندفع بروح الاستغناء إلى العيش في برميل. وكلاهما مسرف، ولكن إسراف ديوجينيس أقرب إلى الحكمة من إسراف الإسكندر.
وغاندي في عصرنا يجري على مذهب الفيلسوف الإغريقي، ويجحد مذهب الفاتح المقدوني، وهو حكيم في هذا السلوك.
وقد كان جان جاك روسو أول من بصر بعبء التكاليف المرهقة التي تفرضها علينا الحضارة، رغم أن حضارة العصر الذي كان يعيش فيه هي البساطة والسذاجة بالمقارنة إلى ما نعيش نحن فيه؛ فقد دعا هو دعوة الريف وتجنب المدينة، ولكن مدينته، حوالي سنة 1770، كانت قرية هادئة بالمقارنة إلى المدن التي نعيش فيها الآن؛ فلم يكن في مدينته ترام أو سيارة أو راديو، ولم تكن مضار المباراة وما تجلب من حسد وهزيمة وقلق جزءا من مائة مما يكابد أبناء المدن في هذه الأيام، وقد ترك بعده «ثوور» الأمريكي المدينة الأمريكية وعاش في الغابة، وترك إدوارد كاربنتر المدينة الإنجليزية وعاش في الريف، وفعل كذلك تولستوي وغاندي.
وليس هؤلاء شاذين؛ لأننا حين نقارن بين حياتنا وحياتهم من حيث القيم البشرية، وسلام النفس، والفراغ للتأمل والراحة، نجد أن الحكمة في جانبهم، والجنون في جانبنا؛ فقد عاشوا بالاستغناء، في حين نعيش بالاقتناء، وامتازوا بأنهم نفضوا عن نفوسهم وأجسامهم وضمائرهم جبالا من الواجبات والأثقال التي ننوء بها ونزعم أننا بفضلها سعداء، مع أن الحقيقة أننا مسخرون في الجمع والاقتناء، ثم في زيادة الجمع والاقتناء، وسنظل على هذا المنوال حتى نموت بالنقطة أو السكتة مجهودين مرهقين.
وأسوأ ما في الحياة التي نعيشها ونحن نعدو وراء المطامع وكأننا نجري في سباق أننا لا نعرف ماذا نقتني ولمن نقتني، ثم هذا العدو في هذا السباق لا يتيح لنا فرصة الوقوف كي نتأمل ونفكر. والواقع أن غريزة الاقتناء تدفعنا مسخرين؛ فلا يلتمع لنا ذكاء، ولا يتردد في رءوسنا خاطر، ولا نتساءل: لماذا كل هذا؟!
نعيش لنحسب أم نعيش لنحيا؟
غاية الحياة هي الحياة. وليست غايتها أن نكون أثرياء أو أصحاء أو علماء أو سعداء؛ لأننا إذا كنا نطلب الثراء أو الصحة أو العلم أو السعادة؛ فإنما لأن كل واحد من هذه الأشياء يؤدي في النهاية إلى الحياة المثلى التي نتمناها.
فيجب لهذا السبب ألا نخطئ الهدف، وهو أن نحيا لأجل الحياة، وإذا نحن جعلنا هذا الهدف نصب عقولنا؛ فإننا لن ننحرف؛ إذ نجد أنه على الدوام يصحح ويقوم انحرافاتنا.
Page inconnue