وهنا يثب علينا المتشائم: لكأنك ترى الدنيا مشرقة في ألوان الورد، وقد غمرت السعادة جميع البشر بما سوف يدبرون من تعاليم أو أنظمة، ولكن أين هذا التفاؤل من حقائق الدنيا؟ من الأمراض والرزايا؟ من الرجل يفقد نور عينيه ويرى الدنيا ظلاما؟ من الأم تفقد طفلها، وتضم لحمه الطري ووجهه الحلو في تراب القبر؟ من الشاب يسمع حكم الإعدام من طبيبه الذي ينبئه بمرض لا يعالج؟!
ولكن هذا التشاؤم قد بولغ فيه؛ لأن الكوارث نفسها من فن الحياة وحكمتها، وذلك الإنسان الذي لم تكرثه كارثة تصل إلى مخ عظامه، ذلك الذي لم يحس اللوعة يغص بألمها، ويجمد من هولها، ذلك الإنسان لم يعش الحياة الفنية، ولم يعرف حكمتها، وأقل ما يقال عنه أنه لم يعش الحياة الكاملة. ومع ذلك نحن نبالغ؛ فإن كلا منا يعرف أن أعظم المصائب التي كان قد توقعها لم تقع له، وأن بعض هذه المصائب كان مفيدا قد انتفع به. انظر إلى قول داروين: «لو لم أكن متمرضا إلى حد عظيم لما أتممت كل هذه القدر الكبير من الأعمال»!
وكثيرا ما نعيش سادرين ذاهلين حتى إذا كرثتنا الكارثة تنبهنا، كأننا قد استيقظنا من نوم، فينبلج لنا نور، وتنكشف لنا حقائق ما كنا لنراها لولا هذه الكارثة. وأيام المرض في السرير كثيرا ما تكون أيام التنبيه والتجديد.
ونحن في حاجة دائمة إلى استعمال ذكائنا؛ كي نميز بين لذة العاطفة ولذة الوجدان، وبين السرور الزائل والسعادة الباقية، وبين الامتياز الذاتي في النفس وبين الامتياز المادي في العقار؛ أي بين ما نكونه وما نملكه.
والحياة الفنية هى الحياة الجميلة، ومع جميع التعاريف للفن والجمال لا نزال عاجزين عن تعريفهما الصحيح، ولكن من منا لا يعرف الفن والجمال؟!
إن هناك أشياء نعرفها بالإحساس النفسي، وأشياء أخرى نعرفها بالاختبارات الذهنية، وليست الأولى دون الثانية وإن تكن في مرتبة أخرى. وإذا كنا ننشد الفن والجمال في الأثاث والبناء والرسم؛ فإننا يجب أيضا - بل بأكثر عناية وهمة - أن ننشد الجمال في الحياة، في الشخصية الرشيقة، والذهن اللبق، والجسم الأنيق، كما في الأخلاق السامية، والأهداف الروحية، والعلاقات الاجتماعية.
نحن غريزة وعقل
كي نعيش العيشة الفنية، ونحيا حياة الحكمة والتعقل يجب أن نعرف أن كلا منا مركب من غريزة وعقل؛ الغريزة هي قديمنا الموروث، هي التقاليد البيولوجية، هي ذاكرة النوع الجامدة، والعقل هو جديدنا الذي يتعلم وينمو ويميزنا بالفهم عن الحيوان.
ذلك أن الحيوان يعيش بالغرائز، أو أن 99 في المائة من حياته كذلك، وفهمه للدنيا ذاتي على مستوى منخفض ليس له وجدان موضوعي، ولكن الإنسان بعقله ووجدانه يستطيع أن يجعل فهمه موضوعيا، وأن يصل إلى حقائق الدنيا كما هي في حقيقتها أو ما يقرب من ذلك. وعلومنا وآدابنا وثقافتنا وحضارتنا إنما هي ثمرات العقل وليست ثمرات الغرائز.
الحيوان في ذهول بغرائزه؛ يحيا وكأنه في حلم، والإنسان بالمقارنة به في تنبه ويقظة بعقله ووجدانه، هذا الوجدان الذي يجعله يتصرف وهو يدري أنه يتصرف، ولكن الحيوان لا يدري.
Page inconnue