وعلى العموم ترى أليغارشيات الديموقراطية تحت الاختبار، وهي تحمل مع مساوئ السلطة الشخصية أيضا مساوئ الغفلية غير المسئولة بألفاظ المسئولية.
1
إذا لم تكن ممكنات التطور من السرعة ما تلائم الحياة الاجتماعية به ضرورات الوقت، عقبت ذلك اضطرابات عميقة، ويعد عدم الملاءمة هذا من علل فوضى العالم الحاضرة، فالإنسانية تحت ضغط سلسلة من الاكتشافات العجيبة: كتحول العمل الميكاني وتواصل الأمم الاقتصادي والتجاري نتيجة لإزالة المسافات، إلخ، تبدو في أيامنا متنازعة تنازعا زائدا مع إنسانية متأخرة تعد بقية موروثة من أجيال سابقة، وتؤلف كتيبة عظيمة من عديمي الالتئام، ويقوم خيال هذا الجمع على تقويض الحضارات الرفيعة بالعنف في سبيل ذوي الأمزجة النفسية المنحطة.
ويقع بسرعة متصاعدة في الوقت الحاضر ذلك التطور الذي كان يتم فيما مضى ببطء بالغ، فيجب مرور عدة قرون لتبصر نتائجه، وتقدم ملاءمة أحوال العيش الجديدة السهلة على الأدمغة النامية بما فيه الكفاية مصاعب شديدة على أكثرية الناس الساحقة، التي لم تنل مستوى نفسيا بعد، فينشأ عن هذا اختلاف كبير بين العدد الحائز للقوة والخواص المتصفين بالذكاء.
ففي كتب التاريخ القادمة وحدها يمكن ذرارينا أن يدركوا نتائج مثل هذا الصراع. •••
ولا يقوم سلطان العدد على ما يعزى إليه من قدرة مادية فقط، بل يقوم أيضا على ما كان يفرض له من قابليات، إلى أن أثبتت الأبحاث الحديثة في روح الجماعات انحطاط الجماهير النفسي. وكان نظريو الثورة الفرنسية يقولون: «إن الشعب لا يخطئ مطلقا.» ويبقى هذا الاعتقاد ركنا من أركان المذاهب الديموقراطية، والزمن وحده هو القادر على إزالته، وفي أيامنا يترك للجماعات أن تعتقد إمكان قيام العدد مقام المزايا الفنية التي ارتقت الحضارات بها حتى الآن، فبتأثير هذا الوهم زعم كثير من بلاد أوربة الكبيرة: كإيطالية، وإسبانية، واليونان، وبولونية، إلخ، إعادته تنظيم حياته الاجتماعية، فأدى ذلك إلى الفوضى بسرعة، فوجب ظهور دكتاتوريات لإعادة النظام إلى نصابه.
أجل، يظهر أن النظريات القائلة بحق العدد في الحكم قد فازت في روسية، ولكن الحقيقة تقول بأن الحال لا يستقيم في روسية إلا لأن العدد فيها غير ذي سلطان حقيقي، ولأن ضروب السلطة فيها قبضة دكتاتورية شرطية أشد وطأ من دكتاتورية القياصرة السابقين.
وقد انتشر الإيمان بقدرة العدد على التوجيه بين الأمم، واليوم يطالب الصينيون والهندوس والمصريون، إلخ، بالخلاص من حكومة الأمم الراقية. ومن المؤسف أن ظهرت هذه الحاجة إلى الخلاص في دور من أدوار تاريخ العالم لم يضطر إلى المعارف الفنية كما اضطر فيه، فسيكون خسر المصريين والأناميين والهندوس كبيرا بتواري الإدارة الأوربية (!).
ومن الواضح مثلا كون الحكومة الإنكليزية قد حولت الهند ومصر تحويلا تاما فيه نفع لأهليهما، وكون الحكومة الفرنسية قد مارست ذات النفوذ الملائم في الهند الصينية ومراكش (!).
ومن ذلك مثلا قول جريدة ألمانية كبيرة عن مصر: «إن إنكلترة جعلت في خمسين سنة من هذا البلد الشرقي، الفقير، المدين، الخالي من وسائل النقل، والفريسة للفتن الداخلية، دولة منظمة عجيبة الري ذات خصب منقطع النظير، مع مالية متينة وإدارة رائعة وطرق عصرية.»
Page inconnue