العوامل النفسية «تتحول جميع العوامل الخارجية التي تؤثر في الناس كالعوامل الاقتصادية والتاريخية والجغرافية، إلى عوامل نفسية في آخر الأمر.» «ويسيطر على هذه العوامل أنواع للمنطق مختلفة.
وما حدث من عدم قدرة على حل ما بين هذه الأنواع من تأثير متقابل أساء كثير من المؤرخين به إيضاح بعض الأدوار، ولا سيما دور الثورة.» «والواقع أن العنصر العقلي الذي يذكر على العموم كوسيلة للإيضاح كان أضعف عملا، فهو وإن أعد الثورة الفرنسية لم يبد في غير أوائلها.» «ولسرعان ما توارى العامل العقلي أمام عامل العنصرين: العاطفي والديني.» «وهنالك أصبح شأن العوامل الدينية عظيما، فقد ألقت بذور التعصب في الجيوش ونشرت المعتقد الجديد في العالم.» «ولا تجد في حياة البشر دورا قدم سلسة تجارب كهذه جمعت في وقت بالغ ذلك القصر.» «وتسوغ المجالس الثورية جميع ما تعرفه روح الجماعات من سنن، فالجماعات إذ تندفع وتخاف فإنه يسيطر عليها عدد قليل من الزعماء، وتسير غالبا على ما يخالف عزائم كل واحد من أعضائها على انفراد.» «وكان المجلس التأسيسي ملكيا، فقضى على الملكية القديمة، وكان المجلس الاشتراعي إنسانيا، فأغضى عن وقوع مذابح سبتمبر، وكان مسالما فألقى فرنسة في حروب هائلة. ووقع مثل هذه المتناقضات في زمن مجلس العهد، فقد كانت أكثريته الساحقة ترفض العنف، وكانت مؤلفة من فلاسفة عاطفيين يمجدون المساواة والإخاء والحرية، ومع ذلك فقد أدى هؤلاء إلى استبداد هائل.» «ومن النادر - كما قال بوسويه - ألا يعمل الفكر البشري لغايات تباين مقصده فضلا عن سبقها إياه.» «وعلى الرغم من تناقض الظواهر لا تكون منازعات المستقبل صراعا بين المصالح الاقتصادية فقط، بل مصادمة بين الأوهام النفسية أيضا» (روح الثورات).
أنواع المنطق المسيطرة على التاريخ «يوجد - خلافا لما يشتمل عليه علم النفس الكلاسي من معارف - أنواع للمنطق تختلف عن المنطق العقلي اختلافا كبيرا، ومنها المنطق الديني والمنطق العاطفي على الخصوص.»
و«وتبلغ هذه الأنواع من الاختلاف ما لا يمكن معه الانتقال من أحدهما إلى الأخرى.» «وعلى المنطق العقلي تبنى جميع أشكال المعرفة، ولا سيما العلوم الصحيحة.» «وعلى المنطق العاطفي والمنطق الديني تبنى معتقداتنا، أي: أهم العوامل في سير الأفراد والأمم.» «ويهيمن المنطق العقلي على منطقة الشعور، حيث يؤتى بتفسير أفعالنا.» «وفي منطقة اللاشعور التي تسيطر عليها المؤثرات العاطفية والدينية تنضج عللها الحقيقية.» «وتدل المشاهدة على أن المجتمعات تقاد بالمنطق العاطفي والمنطق الديني على الخصوص، وأن المنطق العقلي لا يؤثر فيها ولا يحولها مطلقا» (روح السياسة).
الإرادة الشاعرة والإرادة غير الشاعرة «إن الحوادث التي تدرك بالشعور هي انعكاس لكيان نفسي باطني لا نعرفه، وفي هذا الكيان تنضج أهم بواعث السير.
وتنشأ الإرادة عن نضج البواعث هذا، وهي تبدو على شكلين: الإرادة الشاعرة، وهي التي قال بها علماء النفس، والإرادة غير الشاعرة.» «وتنطوي الإرادة الشاعرة على التفكير الحر وعلى النقاش في الدوافع الخارجية، واللاشعور في الإرادة اللاشاعرة هو الذي يفكر من أجلنا، وهنالك ينتهي الحكم تام التكوين إلى ميدان الشعور الذي يتقبله على العموم وإن كان يستطيع رفضه.» «وتتجلى الإرادة الشاعرة على شكل شهوات واندفاعات تعد أدلاء اعتيادية للسير، وبما أنه ليس لدى معظم الناس دليل غير إرادتهم اللاشاعرة، فإن هذه الإرادة هي التي يجب أن يؤثر فيها لتسييرهم.» «وإذا ما استقرت الإرادة غير الشاعرة لدى الشعب بما فيه الكفاية منحته قوة عظيمة. ومما أحسنت ملاحظته كون جميع الأمم يقاد بالقوى الغريزية التي تشتق من عرقها.» «فبإحداث عزائم غير شاعرة في روح الجماعات يوجه قادة الناس الجموع كما يشاءون» (معارف نفسية عن الحرب).
شأن اللاشعور في حياة الأمم «يعد اللاشعور في معظمه بقية موروثة عن الأجداد، وتقوم قوته على كونه يمثل تراثا لسلسلة طويلة من الأجيال، يضيف كل واحد منها شيئا إليه.» «ويكون اللاشعور دليلا لنا في معظم أفعال حياتنا اليومية، وتقوم التربية على ترويض اللاشعور خاصة، ومنه يتألف رأس مال نفسي حقيقي.» «وعن اللاشعور تصدر المعاينة التي هي أصل الإلهامات العبقرية» (الآراء والمعتقدات).
صفات الجماعات الأساسية «يجب أن يذكر بين صفات الجماعات سرعة تصديقها الذي لا حد له، وحساسيتها البالغة وعدم تبصرها وعجزها عن التأثر بالبرهان، ويتألف من التوكيد والعدوى والتكرار والنفوذ وسائل وحيدة لإقناعها تقريبا، ويمكن أن تحمل الجماعة على تصديق كل شيء، فليس لديها شيء مستحيل.» «والإنسان في الجماعة يهبط كثيرا في سلم الحضارة، فهو يصير من البرابرة، ويظهر ما يتصفون به من عيوب ومحاسن، أي يبدي عنفا خاطفا كما يبدي حماسة وبطولة.» «والجماعة في الحقل العقلي تكون دون الإنسان وهو منفرد دائما، والجماعة في الحقل الأدبي والعاطفي قد تكون أعلى منه.» «والجماعة تأتي عملا إجراميا بعين السهولة التي تأتي بها عملا زهديا.» «وتأثير الجماعات عظيم في الأفراد الذين تتألف منهم، ففيها يصبح البخيل مبذرا والملحد مؤمنا والصالح مجرما والجبان بطلا.» «والأمثلة على مثل هذه التحولات كثيرة في التاريخ، ولا سيما في دور الثورات.» «وتؤدي الروح الفردية والروح الجماعية إلى أعمال شديدة الاختلاف، فالأثري يصبح إيثاريا باندماجه في جماعه، فيضحي بحياته في سبيل قضية اعتنقتها الجماعة التي يكون جزءا منها.» «والجماعات لا تتمثل الحكومات إلا على شكل استبدادي، وفي هذا سر هتافها للطغاة دائما.» «ثم إن الحكومة الشعبية لا تعني حكومة يقوم بها الشعب، بل حكومة يقوم بها زعماؤه.» «وتبعد الحكومات الحاضرة في معظم البلدان من أن تكون شعبية حقا، فهي تمثل حكومة من الزعماء فقط.» «والدولة العصرية مهما يكن رئيسها ورثت في نظر الجماعات وزعمائها ما كان يعزى إلى قدماء الملوك من سلطان ديني، وذلك عندما كانت الإرادة الإلهية متجسدة فيهم.» «وليس الشعب وحده هو المشبع من الاعتماد على قدرة الحكومة، فجميع مشترعينا مشبعون منه أيضا.» «ولم ينته سياسيونا إلى إدراكهم أن النظم إذ كانت معلولات لا عللا لا تنطوي على فضيلة في ذاتها» (روح الثورات).
استعمال الأسلحة النفسية «تشتمل الأسلحة النفسية على قدرة أرفع من المدفع في الغالب، غير أن استعمالها صعب.» «ولا يمكن استعمال مفتاح العوامل النفسية إلا بكثير من المهارة.» «وما كان من عجز الألمان في الحرب الأخيرة عن استعمال الأسلحة النفسية أدى إلى قيام أعظم الأمم ضدهم، وفي مقدمتها إنكلترة التي كان من السهل ضمان حيادها، ثم إيطالية والولايات المتحدة.» «ومن أفظع الأغاليط النفسية التي اقترفها الألمان هو اعتقادهم أن جميع الناس يخضعون لعوامل واحدة، ولم يكن لما تتألف منه أسلحتهم النفسية المهمة من تهديد وهول ورشوة نتيجة غير تدفق ثلاثة ملايين متطوع من الأرض الإنكليزية، وغير نسف حياد الولايات المتحدة الذي كان على ألمانية أن تعمل على حفظه بأي ثمن كان» (روح الأزمنة الحديثة).
تأثير الماضي في حياة الأمم «لتغيير النظم السياسية تأثير ضعيف إلى الغاية في حياة الأمم، فمزاج الناس النفسي، لا نظمهم، هو الذي يعين تاريخهم.» «وبما أن الحال الحاضرة لأي موجود كان معينة بتراث أحواله الماضية، فإن ما يمكن تحقيقه من تحول في كل جيل ضئيل في كل وقت.» «وليست التغيرات المطلقة التي تحلم بها الأحزاب السياسية أمرا يمكن تحقيقه» (تقلبات الساعة الحاضرة).
Page inconnue