إهداء الكتاب
مقدمة المترجم
المقدمة
الباب الأول: فلسفة الكون الحاضرة
1 - القوى المبدعة
2 - حوادث الحياة وأشكال الذكاء المجهولة
3 - أصل نشاط الموجودات
4 - تقلب الذاتيات الفردية والجماعية
الباب الثاني: تفاسير التاريخ المختلفة
1 - مبادئ التاريخ الروائية واللاهوتية والفلسفية
2 - التعميمات في التاريخ
3 - مصادر الخطأ في التاريخ
4 - روح النقد في التاريخ
الباب الثالث: إصلاحات التاريخ العلمية
1 - أشكال التطور الاجتماعي العامة
2 - تعيين الحوادث بالشهادة
3 - تعيين حوادث التاريخ بدراسة المباني والكتابات والأوسمة
4 - تعيين بعض الحوادث الاجتماعية بالإحصاء
5 - تعيين مزاج الأمة النفسي بدراسة إنتاجها الأدبي
6 - تعيين معنى الكلمات في دراسة التاريخ
الباب الرابع: العناصر الموجدة للتاريخ
1 - قوى الأجداد
2 - الخلق والذكاء
3 - المعتقدات الوجدية ذات الشكل الديني
4 - المعتقدات الوجدية ذات الشكل السياسي
5 - العادات والأخلاق والتربية
6 - النظم السياسية
الباب الخامس: العناصر التي تنحل بها حياة الأمم
1 - زوال المعتقدات
2 - الأوهام السياسية
3 - اصطراع المبادئ الحديثة في المساواة وزيادة التفاوت في الذكاء
4 - شأن الجماعات الحاضر
الباب السادس: عوامل التاريخ الجديدة
1 - تطور العالم الاقتصادي وعناصر اليسر الحديثة
2 - الوضع الحاضر لأهم دول العالم
3 - سادة العالم الجدد
4 - تطور الحضارات
تعليقات ختامية
مختارات من رسائل تبادلها المؤلف وبعض أقطاب السياسة
مختارات من كتب المؤلف السابقة حول بعض المسائل التي جاءت في هذا الكتاب
خلاصة عامة
إهداء الكتاب
مقدمة المترجم
المقدمة
الباب الأول: فلسفة الكون الحاضرة
1 - القوى المبدعة
2 - حوادث الحياة وأشكال الذكاء المجهولة
3 - أصل نشاط الموجودات
4 - تقلب الذاتيات الفردية والجماعية
الباب الثاني: تفاسير التاريخ المختلفة
1 - مبادئ التاريخ الروائية واللاهوتية والفلسفية
2 - التعميمات في التاريخ
3 - مصادر الخطأ في التاريخ
4 - روح النقد في التاريخ
الباب الثالث: إصلاحات التاريخ العلمية
1 - أشكال التطور الاجتماعي العامة
2 - تعيين الحوادث بالشهادة
3 - تعيين حوادث التاريخ بدراسة المباني والكتابات والأوسمة
4 - تعيين بعض الحوادث الاجتماعية بالإحصاء
5 - تعيين مزاج الأمة النفسي بدراسة إنتاجها الأدبي
6 - تعيين معنى الكلمات في دراسة التاريخ
الباب الرابع: العناصر الموجدة للتاريخ
1 - قوى الأجداد
2 - الخلق والذكاء
3 - المعتقدات الوجدية ذات الشكل الديني
4 - المعتقدات الوجدية ذات الشكل السياسي
5 - العادات والأخلاق والتربية
6 - النظم السياسية
الباب الخامس: العناصر التي تنحل بها حياة الأمم
1 - زوال المعتقدات
2 - الأوهام السياسية
3 - اصطراع المبادئ الحديثة في المساواة وزيادة التفاوت في الذكاء
4 - شأن الجماعات الحاضر
الباب السادس: عوامل التاريخ الجديدة
1 - تطور العالم الاقتصادي وعناصر اليسر الحديثة
2 - الوضع الحاضر لأهم دول العالم
3 - سادة العالم الجدد
4 - تطور الحضارات
تعليقات ختامية
مختارات من رسائل تبادلها المؤلف وبعض أقطاب السياسة
مختارات من كتب المؤلف السابقة حول بعض المسائل التي جاءت في هذا الكتاب
خلاصة عامة
فلسفة التاريخ
فلسفة التاريخ
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
إهداء الكتاب
إلى
صديقي المفضال
ألبردلاتور
العضو في المجمع العلمي
والقاضي السابق في مجلس الدولة.
مع الاحترام الودي
غوستاف لوبون
مقدمة المترجم
هذه ترجمة آخر كتاب للفيلسوف العلامة الفرنسي «غوستاف لوبون.» فقد أخرج للناس في سنة 1931 ومات مؤلفه في سنة 1932. وبهذا الكتاب أكون - مع ما قدمت من ترجمة كثير من كتب لوبون الاجتماعية والتاريخية والفلسفية - قد أدخلت كتب لوبون المهمة الآخذ بعضها برقاب بعض إلى العربية، إدخالا يخيل إلى الباحث معه أن هذا الحكيم الجليل من العرب، ولا عجب، فلوبون واضع سفر «حضارة العرب».
وهذا الكتاب - على ما يرى من انسجامه مع ما ترجمنا من كتب لوبون - يشتمل على موضوعات جديدة زاخرة، لم تعالج في مؤلفات لوبون الأخرى.
وكتاب «الأسس العلمية لفلسفة التاريخ» هذا ينطوي على مباحث علمية مؤدية إلى تغيير الأفكار القديمة حول حوادث الحياة وأصل الإنسان وتطور العناصر التي تكون منها، تغييرا تاما، كما ينطوي على مناهج تصلح لتمثل حوادث الماضي وعالمها.
وهذا الكتاب يساعد على وضع فلسفة للطبيعة - ومن ثم للتاريخ - تختلف عن الفلسفات التي سبقتها اختلافا تاما.
فلعلني أكون قد ملأت به فراغا في حقلنا العلمي الأدبي الذي لا يزال كثير الثغرات.
عادل زعيتر
نابلس
شكل 1: مسكوكات قديمة دالة على مشاعر زمنها، وهي أوسمة ضربها غريغوار الثامن وشارل التاسع تذكارا لمذبحة السان بارتلمي.
المقدمة
الأسس الجديدة لفلسفة التاريخ
تتألف فلسفة كل علم من مبادئه العامة، وإذا تحول هذا العلم تحولت فلسفته أيضا.
ويعاني التاريخ هذه السنة العامة، وإذ تزول المبادئ التي كانت سندا له مناوبة فإنه يبحث عما يعتاض به من أسسه السابقة في التفسير.
وإذ يقتصر التاريخ على عرض بسيط للوقائع التي كان العالم مسرحا لها يلوح كدسا من الملتبسات الصادرة عن مصادفات مفاجئة، وتبسط أهم الحوادث فيه من غير صلة بينة، ويؤدي أدق العلل وأصغرها إلى نتائج عظيمة جدا.
ويعد عدم وجود صلة منظورة بين تفه العلل وعظم النتائج من أكثر حوادث حياة الأمم وقفا للنظر، ومن ذلك أن ظهر في صميم بلاد العرب سائق إبل اعتقد اتصاله بالرب فأبدع بأخيلته دينا، فأقيمت بفعل الإيمان الجديد إمبراطورية عظيمة في سنين قليلة، وتمضي بضعة قرون فيؤدي ما صدر عن ملهم جديد من كلام ناري إلى انقضاض الغرب على الشرق، فتقلب بذلك حياة الأمم. وفي أيامنا تصطرع دولة بلقانية حقيرة وإحدى الدول العظمى، فتخرب أوربة بأدمى الحروب التي سجلها التاريخ.
ويواصل هذه السلسلة للحوادث غير المنتظرة نفر من المتهوسين الذين أعمتهم أوهام سياسية مجردة، كذلك، من الأسس العقلية تجرد المعتقدات الدينية القديمة، ويقبضون على زمام روسية، ولم تلبث هذه الإمبراطورية العظيمة أن غرقت في بؤس عميق.
ووقائع مثل هذه مما يبلبل العقل، ولا ريب في أن لها عللها (ولعدم السياق علله)، ولكن تعيين هذه العلل هو من البعد والتعقيد أحيانا ما يوضع معه فوق وسائل التحليل. •••
تنشأ الحوادث التي يتألف منها التاريخ عن عوامل مختلفة، ومن هذه العوامل ما هو ثابت كالأرض والإقليم والعرق، ومنها ما هو عارض كالأديان والغزوات، إلخ ...
ومبدأ العلة هذا هو من أكثر ما يشغل بال الفلاسفة، ويجد أرسطو أربعة معان مختلفة لكلمة: «العلة». وإذا ما نظر إليها من الناحية العملية وجد أنها تدل على حادثة تؤدي إلى أخرى، بيد أن المعلول لا يعتم أن يصبح علة بدوره، ويرى العالم قد تألف من شبكة ضرورات يمثل كل واحدة منها معلولا وعلة معا.
وفي التاريخ تبلغ الحوادث من الانتظام ما يجب أن يرجع معه إلى مدى بعيد جدا أحيانا، وذلك لتعيين تعاقب العوامل التي أدت إليها.
ومن أعظم ما في معرفة التاريخ من مصاعب كون الحاضر الذي يكتنفنا، ونراه جيدا، صادرا عن ماض بعيد لا نراه، فيقتضي حسن إدراك الحوادث أن يرجع إلى سلسلة طويلة من العلل السابقة.
وقليل من الوقائع ما يمكن إفراده في التاريخ، فمن الحوادث التاريخية وما تشتق منه تتألف سلسلة متصلة يتعذر فصل حلقاتها عنها، فلولا الحروب الأهلية في رومة لاستحال ظهور القياصرة.
وكان سبب حرب سنة 1871 المباشر برقية دبلمية، وكانت مصادرها البعيدة معركة ينا التي هي نتيجة الثورة الفرنسية، هذه الثورة التي هي نتيجة سلسلة طويلة من الحوادث السابقة، ولولا ينا ما كنا لنعرف الوحدة السياسية الألمانية على ما يحتمل، هذه الوحدة التي أوجبت سدان. وهكذا نجد أن نابليون الأول أعد الصراع إذا ما رجعنا إلى سلسلة العلل، وكان إنذار النمسة إلى صربية - الذي هو حادث أولي للحرب العظمى - نتيجة سلسلة طويلة من الوقائع لا يمكن إدراكه بغيرها، وكانت عللها المباشرة، وهي ما حدث من جدل بين صربية والنمسة، وما تبع ذلك من إعلان النفير العام في روسية، إلخ، من قلة الأهمية ما كان الدبلميون يأملون معه منع وقوع الصراع، ولم تك جهودهم مجدية؛ وذلك لأنه كان ينتصب خلف العلل الحاضرة الضعيفة عامل القوى المتراكمة نحو غرض واحد منذ زمن طويل والتي كانت من شدة الوطء ما لا تذلله جهود التسكين.
وإذا ما اقتصر المؤرخ في البحث عن مصادر الحرب الأوربية على المفاوضات الدبلمية التي أسفرت عن انقضاض بعض الأمم الأوروبية الكبرى على بعض، لم يدرك شيئا من تكوين هذه الكارثة الهائلة، وهو يقول في نفسه سائلا بلا ريب: إذا كان جميع هؤلاء الأقطاب قد انتهوا إلى الحرب على الرغم من جهودهم الواضحة التي تهدف إلى حفظ السلم، أفلا يكونون قد أصيبوا بجنون؟ لقد نشأ عن سلسلة من العلل البعيدة وجود قوى أشد من إرادتهم، ومن العبث أن تحركوا لإبقاء سلم كانت تفر منهم سريعا، ومن العبث أن أبدوا يأسا عميقا عندما ظهرت هوة مقدرة مفتوحة أمامهم، فما كانوا ليسيطروا على الحال ما داموا غير مؤثرين في الماضي.
ويغدو التاريخ أمرا مستحيلا إذا ما وجبت دراسة تعاقب العلل البعيدة التي تعين كل حادثة؛ ولذلك يجب أن يسلم بدراسة العلل مباشرة، ثم ببحث موجز في العوامل العامة التي كانت ذا أثر في تكوينها زمنا طويلا، أجل، تتألف حوادث التاريخ من الوقائع غير المنتظرة، كقيام أديان عظيمة قادرة على تغيير الحضارة، وخضوع أوربة لضابط بسيط صار إمبراطورا. ولكنه يشاهد بجانب هذه الانقلابات العارضة تسلسل على شيء من الانتظام في تطور الأمم وتتبع العناصر الأساسية للحياة الاجتماعية، كالنظم السياسية والتملك والأسرة، إلخ، سيرا وثيقا كالذي تتحول به الخلية الدنيا إلى بلوطة خضراء، فحال الأمة الحاضر يعين بتعاقب أحوالها السابقة، ويخرج الحاضر من الماضي كما يخرج الزهر من البذر. •••
وفي دور بعيد قليلا حين لخص بوسويه مبادئ زمنه في الكون والإنسان في رسالة مشهورة، كان يمكن فلسفة التاريخ أن تصاغ في بضعة أسطر فيقال: إن قدرة صمدانية قاهرة كانت توجه مجرى الأمور وتنظم مصير المعارك، فلا تقع أية حادثة خارج إرادتها.
وقد عدل العلماء عن هذا المبدأ على العموم ومع ذلك لا يزال منتشرا؛ ومن ذلك أن صرح أحد رؤساء الوزارة البريطانية، منذ سنين قليلة من فوق المنبر، بأن الحكمة الربانية قضت علانية بأن تحكم إنكلترة في العالم، وقبل ذلك بقليل كانت هذه الحكمة الربانية قد فوضت إلى ألمانيا تمثيل هذا الدور كما قال إمبراطورها.
ومع أن تأثير العزائم الربانية الموجهة لسير العالم لا يزال حيا في حياة الأمم، يزول بالتدريج أمام الجبرية التي تبصر في الضرورة ما يسير الأمور من روح.
وبما أن التاريخ ليس علما، بل مركب من علوم مختلفة، فإن مبدأه يختلف بين جيل وجيل بحكم الضرورة، وتتضمن فلسفته الحاضرة بفضل مبتكرات العلوم بعض المبادئ الجوهرية في تطور العالم وطبيعة الإنسان، وهكذا حملنا على درس موضوعات لا ترى في كتب التاريخ عادة، وإن كانت أسسه الحقيقية. •••
وإلى دور حديث نسبيا - ما دام لا يفصلنا عنه غير قرن ونصف قرن تقريبا - كانت معارفنا فيما خلا منطقة الرياضيات والفلك لا تجاوز على الإطلاق ما يعلمه أرسطو تلميذه الملكي الإسكندر منذ ألفي عام، فكان يعد الهواء والنار والتراب والماء دائما عناصر مكونة للعالم، وكان لا يخطر ببال أمر الكهربا والبخار وجميع القوى التي تسيطر على النشاط الحديث، وكان يظل مجهولا عالم الكمية الصغرى، وكان يبقى غير معروف أمر الموجودات التي ظهرت على الكرة الأرضية قبل الإنسان، وألوف ما قبل التاريخ من السنين التي مضت قبل فجر الحضارات. وكانت الكتب الدينية تبسط تاريخ كرتنا تبسيطا عظيما، فتقول مؤكدة إن إلها قادرا أخرج الأرض منذ ستة آلاف سنة فقط من العدم بغتة مع جميع الموجودات التي تسكنها، وكان الفلاسفة يجهلون وحشية جيل الكهوف، فيعجبون بكمال المجتمعات الفطرية الخيالي، وكان نظريو الثورة الفرنسية يزعمون إعادتهم العالم بعنف إلى دور السعادة الوهمية ذلك.
بدد العلم جميع هذه الأوهام، وجدد تجديدا تاما أفكارنا حول أصل الأرض والبشر، وحول حوادث الحياة وتطورها، وحول قرابة الإنسان من الحيوان وأصلهما المشترك. •••
وسرعة تحول الأفكار العجيبة من خصائص الجيل الحاضر؛ فتولد هذه الأفكار وتنمو وتدور وتموت بسرعة خارقة للعادة، وتلاحظ هذه الدورة في جميع حقول المعرفة.
وفي علم الحياة تترك مبادئ تحول الموجودات بتطور مستمر بعد أن كانت تؤثر في عالم العلم تأثيرا عميقا منذ نصف قرن تقريبا، ويحل محلها مبدأ التحولات المفاجئة.
وظهرت التحولات في الفيزياء أبعد مدى، فقد أصبحت ذرة قدماء الفزيويين الجامدة نظاما شمسيا مصغرا، ويخسر الأثير، الذي عد عنصرا جوهريا لنقل النور، وجوده، وتستبدل به مؤقتا معادلات لا تظهر شيئا من الجوهر الذي يصلح سندا لها.
وتحول علم الفلك الثابت تحولا عظيما، فبعد أن كان يعتقد بلوغه حدود الأشياء يظهر اليوم خلف هذا الكون المحدود ألوف العوالم البالغة الاتساع. •••
ومن أهم اكتشافات العلم الحديث إقامة مبدأ التقلب مقام مبدأ الثبات، وقد خسرت الأرض والموجودات التي تسكنها ثباتهما الموهوم، وهما يمثلان مباني تخرب وتتجدد، وأبدي تقلب العالم الدائم هذا من سنن وجوده الأساسية.
ولم تكن التحولات في التاريخ بالغة ذلك العمق، ولكنه إذا ما نفذ في منطقة الأسباب المظلمة ظهر أن أسباب الحوادث الحقيقية تختلف كثيرا عن التفاسير الوهمية التي عدت عقائد قرونا طويلة.
ومع ذلك لا يمكن أن يطالب التاريخ بضبط كالذي أخذت العلوم تحققه. وإذا ما نظر إلى طبيعة ذكائنا وجد أننا لا نبصر هذا العلم إلا على شكل حوادث منفردة، ولا يمكنه أن يدرك على وجه يختلف عن ذلك إلا من قبل ذكاء يكون من السمو ما يبصر معه كل حادث تاريخي، محاطا بسلسلة من العلل التي أوجدته، ومن النتائج التي عقبته، وبما أن دماغنا لم يكون لإدراك مثل هذا المجموع فإنه لا بد من التسليم بإدراك نبذ من الأمور. •••
وجد التاريخ بترجيعات من الروح البشرية متأثرة بعوامل شتى، غير أن طبيعة هذه الروح لا تكاد تكون معروفة حتى الآن، ولم يوفق علم النفس - الذي هو أساس جوهري لمعرفة التاريخ - لغير إيضاح داراتها حتى الآن.
ومن بين النتائج التي أوجبت تحويل إدراكنا للتاريخ يجب أن يذكر على الخصوص إدراك الحياة الباطنية التي بحث فيها علم النفس الحديث.
ومع أن هذا العلم لا يزال ابتدائيا إلى الغاية فإنه يساعد بالتدريج على تغيير الآراء التي عدت حقائق فيما مضى.
ومما كشفه هذ العلم كون اللاشعوري الموروث أو المكتسب يعين عوامل السير غالبا، وكون القوى الدينية والعاطفية، التي هي أعلى من القوى العقلية، تهيمن على هذه المنطقة المظلمة، وكون الوحدة الذاتية ليست غير أمر ظاهر، فهي تنشأ عن تراكيب موقتة تجهزنا بذاتيات متعاقبة يسيطر كل واحد منها تبعا للحوادث، وهكذا يكون ثبات الذاتيات مرتبطا في ثبات البيئة.
ويدل علم النفس أيضا على أن خطأ الحكم في الحوادث التاريخية ينشأ على العموم عن كونه يعزى إليها تكوين عقلي، مع أنها تنشأ عن عوامل عاطفية ودينية خاصة بكل أمة، عن هذه العوامل التي يظل العقل غير مؤثر فيها، وعلى أن المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية ذات الصبغة الدينية لا تقوم على العقول، وعلى أن النفسية الجمعية تختلف عن الذاتيات التي تتألف منها اختلافا تاما، فلا يكون للعوامل المؤثرة في الكائن المنفرد أي تأثير في عين الفرد عندما يكون جزءا من زمرة لوقت ما، وعلى أن الأغاليط التي عدت حقائق مثلت في حياة الشعوب دورا يجاوز أحيانا دور الحقائق الأكثر استقرارا.
وإذا عدوت قصة الحقائق التي تؤلف ناحية الحضارات المادية وجدت التاريخ يشتمل كذلك على دراسة الأوهام الدينية والسياسية التي وجهتها، وما فتئ تأثير هذه الأشباح العظيمة يكون وطيدا في العالم الحديث كما في العالم القديم، وقد قلبت إمبراطوريات قوية، وستقلب أخرى لا ريب، إيجادا لها أو قضاء عليها.
ولا ينبغي لتقدم العقل أن يحمل على نسيان شأن الأوهام البالغ في حياة الأمم، فالأوهام قد أوجدت آمالا معزية ومنحت الإنسان قوة سير لم يؤد إليها أي عامل عقلي، وهكذا ظهر غير الحقيقي موجبا كبيرا للحقيقي. •••
وإذا لم تكن فلسفة التاريخ غير آخر فصل لفلسفة الكون العامة فإننا انتهينا إلى عرض سريع لبعض المبادئ الجديدة التي يسمح تقدم العلوم بصوغها.
وإننا، بدلا من عزل الإنسان عن الماضي العظيم الذي هو إزهار له، ربطناه بمجموع الموجودات التي سبقته في سيارتنا، فأظهرنا أن العالم المعدني والعالم النباتي والعالم الحيواني مراحل متعاقبة لمجموع واسع، فمادة الأزمنة الأولى الجامدة، التي هي تكاثف بسيط للطاقة، تحولت تحولا بطيئا، وبانتقالات غير محسوسة، إلى مادة حية، وإلى مادة مفكرة في آخر الأمر.
وبيان مثل هذا كان ضروريا لعرض التحولات العميقة التي تتم في الفكر البشري حول مبادئ عدت خالدة فيما مضى، فكانت تصلح أسسا لتفسير التاريخ.
وربما أنني لا أستطيع أن أبين في هذا الكتاب جميع عناصر فلسفة التاريخ فإنني أرد دراسته إلى الأقسام الأربعة الآتية، وهي: (1)
مباحث علمية مؤدية إلى تغيير الأفكار القديمة، حول حوادث الحياة وأصل الإنسان وتطور العناصر التي تكون منها، تغييرا تاما. (2)
مبادئ متعاقبة للمؤرخين حول مختلف وقائع التاريخ. (3)
مناهج تصلح لتمثل حوادث الماضي وعللها. (4)
مباحث في شأن عوامل التاريخ العظيمة، كالمعتقدات الدينية والسياسية والمؤثرات الاقتصادية، إلخ، وحول تقلبات الذاتية.
وإنا إذ ندرس الفرضيات التي يسوغ العلم صوغها حول القوى المبدعة للكون وحول أصل العالم وعدم ثباته، وطبيعة الإنسان وحوادث الحياة، وأصل نشاط الموجودات والحياة الغريزية، إلخ، نبصر المذاهب القديمة التي عاشت الروح بها حتى الآن فازدهرت مناوبة، ثم استبدلت بها مبادئ جديدة تماما.
والتاريخ إذ يقوم على هذه الأسس العلمية ينطوي على فائدة غير منتظرة، فهو يعرض مركبا لجميع المعارف حول الكون والإنسان، وهكذا نساعد على وضع فلسفة للطبيعة، ومن ثم للتاريخ، تختلف عن الفلسفات التي سبقتها اختلافا تاما.
الباب الأول
فلسفة الكون الحاضرة
تقلب العالم وتطوره
الفصل الأول
القوى المبدعة
طبيعة الإنسان وحدود معارفنا الحاضرة
تعاني المبادئ الأساسية التي تغذى بها الفكر البشري زمنا طويلا، وذلك حول أصل العالم وطبيعة الإنسان وقوى الكون المبدعة، تحولات تامة، وإذ كان اكتساب معارف علمية جديدة حول هذه الموضوعات يؤدي - على وجه غير مباشر - إلى تحولات مهمة في مبادئنا التاريخية، فإننا نلخص بعض هذه المبادئ في بضع كلمات، فنقول:
إن أول هذه المبادئ القديمة التي قضى عليها العلم هو ما كان خاصا بخلق العالم، والعالم هو ما أخرجه مختلف الأديان من العدم طوعا بإرادة خالق.
وعنعنات متماثلة لدى جميع الأمم كانت تقول كذلك بأن الإنسان خلق خلقا خاصا فصل به عن الموجودات الأخرى فصلا صريحا، وذلك أن خالقا قادرا أنعم عليه بالعقل مع روح خالدة، وأن الموجودات الأخرى لم تحز غير غرائز آلية لتسير في الحياة.
والعلم بعد أن أقصى الأرض إلى المرتبة الوضيعة التي تشغلها في العالم لم يعتم أن ربط الإنسان بسلسلة الموجودات الطويلة التي سبقته.
وقد عقبت نظرية التطور بالتحولات المتعاقبة قديم الأفكار حول التكوين، ذاهبة من مكروب الأجيال الأولى حتى الإنسان، وهكذا حل مبدأ التقلب محل مبدأ الثبات القديم بالتدريج.
وكانت الموجودات الأولى قد كونت من خليات بسيطة صغيرة إلى الغاية مشابهة للمكروبات الحاضرة، وهي لم تلبث أن أدت إلى نباتات أكثر تعقيدا، ثم إلى حيوانات مختلفة كالزحافات والأسماك التي كان بعضها من الضخامة والقوة ما يبيد معه الأخرى، وكان لملوك الخلق المؤقتين هؤلاء وجود ذو ديمومة بالغة الطول أحيانا، ولكن من غير أن تمتد امتدادا مطلقا، وإذا نظر إلى الأرقام التي قدمها مدير المتحف مسيو إ. بيير وجد: «أن العقارب وكلاب البحر تثبت نحو اثني عشر مليون سنة، وأن الخنافس البحرية الكبيرة ترتقي في خمسة عشر مليون سنة ثم تضمحل، وأن خنافس الدقيق أبيدت في آخر الأمر من قبل أصداف أخرى تعرف بالبلمنيت.»
وتلوح آلاف سني الحضارة الثمانية قصيرة الأمد بجانب مثل تلك الأرقام.
وظهر من المباحث الأخرى أنه يجب أن يضاف ما بين خمسين ألف سنة ومائة ألف سنة على الأقل تعرف بما قبل التاريخ، إلى ما بين ثمانية آلاف سنة وعشرة آلاف سنة تعرف بسني التاريخ.
وكان لا بد للإنسان من جميع ذلك الزمن حتى يتخلص ببطء من العالم الحيواني الذي خرج منه، وبما أنه كان يجهل الزراعة والمعادن في ذلك الدور، وبما أنه كان لا يملك من الأسلحة غير قطع من الصوان منحوتة نحتا غليظا، وبما أنه لم يكن له من المساكن غير المغاور، فقد رسم مبادئ عظمته القادمة رسما خفيفا. •••
شكل 1-1: آلات المؤلف التي يقاس بها تقلب الذاتيات البيولوجية المطابقة لتحول الذاتيات النفسية.
شكل 1-2: مزيج من فن البناء يدل على تأثير العروق الأجنبية، ميدان بهات غاؤن، التقط المؤلف صورته في أثناء رياده نيبال، تدل هذه المباني على المؤثرات الصينية أول وهلة.
وعلى الرغم من جميع الاكتشافات لا تزال توجد - كما يلوح - هوة لا تملأ بين الحيوان والإنسان، ولا بد من أن تقطع مسافة جديدة من الفكر ليعرف هل يختلفان ذكاء، ويقوم هذا التفاوت على مقدار هذا الذكاء لا على طبيعته.
وفي العلم الحديث أن الإنسان عاد لا يكون غير آخر حد لسلسلة طويلة من الموجودات التي ظهرت قبله، وهو إذا كان يفوقها في منطقة الحياة العقلية بقي مساويا لها في منطقة الحياة العضوية، وهو لا يمتاز منها إلا قليلا في منطقة الحياة العاطفية كما نذكر ذلك في فصل آت.
وتلوح الفروق العقلية التي تفصل الإنسان عن الحيوان واسعة عند مقابلتنا بين المتمدن والحيوانات التي بقيت ضمن دوائر التطور الأدنى، وتزول الفروق أو تخف على الأقل إذا لم يقابل بين الحيوانات والإنسان الحاضر، بل بينها وبين أجداده الذين عاشوا في الكهوف قرونا طويلة، وذلك في وسط ذوات الثدي التي كانوا لا يمتازون منها إلا قليلا.
ويلوح أن المجتمعات الابتدائية التي تألفت من أجدادنا الفطريين لم تكن حائزة لبنية أرقى كثيرا من البنية التي أظهرتها المباحث الحديثة في مختلف مجتمعات الحيوان.
والعلم، بعد أن أهمل دراستها زمنا طويلا، انتهى إلى اكتشافه فيها بنيات محكمة جدا وسننا خلقية وثيقة إلى الغاية، وبعض القابليات التي تنم على أوجه من الذكاء كان الإنسان يجهلها فيدعوها بالغريزة عن عدم إيضاح للأمر، ولا يبدو كثير من مجتمعات الحيوان أدنى من بعض العشائر الابتدائية، كعشائر إفريقية الوسطى مثلا.
وكانت الهوة التي افترضت بين مجتمعات الإنسان ومجتمعات الحيوان تنشأ، إذن، عن نقص الملاحظة فقط. •••
كانت المبادئ القديمة عن خلق العالم وطبيعة الإنسان تشتق من المعتقد العام لدى جميع الأمم وفي جميع أدوار تاريخها، القائل إن الأرض والبشرية كانتا تسيران من قبل موجودات علوية مسيطرة على الكون.
وفي أيامنا انتهى الفكر الديني والفكر العلمي إلى اتباع اتجاهين مختلفين اختلافا بينا، ففي المبادئ التقليدية يوجه العالم دائما آلهة مهيمنون مجيرون، وفي المبادئ العلمية استبدل بهؤلاء الآلهة الشخصيين قوى غير شخصية يمكن تذليلها.
وكثير من المشاهدات يثبت أن التقلب والتحول كانا شرطين ضروريين لجميع عناصر الكون، بدءا من الصخرة التي كان يلوح تحديها لسير الأزمان حتى النجوم الساطعة التي تتلألأ ليلا، فالطبيعة لا تعرف السكون، وما كان الموت نفسه ليضع حدا لما يعانيه جميع الموجودات من تحولات مستمرة تعد شروطا أساسية لتطورها، وكان الموت إذا ما نظر إليه علميا، أي إذا ما قطع النظر عن المعتقدات الدينية، يلوح فيما مضى فناء نهائيا، ويصبح الموت شكلا جديدا للحياة إذا ما نظر إلى النظريات الجديدة التي تعد الشخصية مجموعة من الذاتيات الموروثة عن الأجداد. •••
والكون - كما يتمثله العلم في الوقت الحاضر - يلوح مؤلفا من سلسلة ضرورات تعين تطور الموجودات والحوادث.
وشأن الوجوب كعنصر مبدع يبدو في جميع حوادث الطبيعة.
ومع ذلك فإن هذا المبدأ الحديث لا يطابق مبدأ القدر القديم مطلقا، وإنما يعني أن كل حادثة معينة ببعض العلل تعيينا وثيقا فقط.
ويتحول الفحم الأسود إلى ألماس ساطع بحكم الضرورة إذا ما ظهر بعض شروط البيئة، ويصبح الماء مائعا أو جامدا أو بخارا بفعل بعض العوامل الثابتة.
ومع ذلك فإن مبدأ الوجوب هذا لا يتضمن تبسيطا للحوادث، وفي الحقيقة أن تفسيرها أكثر تعقيدا مما في الزمن الذي كانت الحكمة الربانية تقدم فيه إيضاحا شاملا للأشياء.
والعلم، إذ يعجز عن الإبداع، يستطيع فقط أن ينظم الضرورات التي تعين حدوث الموجودات أو الأشياء، وهكذا يعالج أمر الحرارة والكهربا والحياة من غير أن يعرف شيئا عن طبيعتها، وأما عن الإيضاحات فيقتصر العلم على القول:
إن الحرارة قوة مجهولة في جوهرها قادرة على تمديد الأجسام، فتقاس بدرجة هذا التمدد، وإن الثقل قوة مجهولة في جوهرها قادرة على جذب الأجسام، فيقاس بطاقة هذا الجذب، وإن الكهربا قوة مجهولة في جوهرها، قادرة على إحداث بعض النتائج الضيائية الحارة، إلخ، فتقاس أيضا بشدة هذه النتائج، فهذه المشاهدات تدل على حد معارفنا، ولا يزال حقل العلل مغلقا. •••
وكان علم الهيئة لا يحصي غير بضعة آلاف من الكواكب في الفلك، فاكتشف الملايين منها، ويزيد هذا العدد كل يوم بزيادة إتقان مناهج الرصد، وتدفع حدود الكون إلى الوراء دائما، والآن يجب أن يفترض الكون بلا حدود، أي بلا أول ولا آخر.
وهل العالم مسير بجبرية مطلقة ملخصة بفرضية لبلاس القائلة: يستطيع ذكاء كاف أن يقرأ في السديم جميع الحوادث المتعاقبة في التاريخ؟ لا مناص من السير كما لو كانت هذه الفرضية غير موجودة وإن أثبتت.
والنجوم إذ تعاني سنة التطور التي تقضي على كل شيء بالتحول، تواجه أطوارا من النشوء بحكم الضرورة متفاوتة إلى الغاية، ومنذ الآن يلوح على ما يحتمل كون الموجودات التي تسكن سطحها، قد جاوزت أيضا أدوار نشوء متفاوتة، ولا ريب في أنه يوجد بينها من ذكاؤه بالنسبة إلى ذكاء الإنسان كذكاء الإنسان بالنسبة إلى ذكاء الحشرة.
وبما أن السلطان المطلق من خصائص العلم المطلق فإنه يجب أن تكون قدرة تلك الموجودات غير محدودة، وبما أنها تستطيع أن تطلع على الماضي بسهولة كالتي تطلع بها على المستقبل، فإنها تحوز معارف لا نكاد نبصر مداها.
ففي سر تلك المناطق البعيدة، الذي لا يدرك، يمكن الإيمان الديني في أيامنا أن يضع الآلهة الذين لم تستغن الروح البشرية عنهم قط.
الفصل الثاني
حوادث الحياة وأشكال الذكاء المجهولة
ليس للتاريخ أن يعنى ببنية الموجودات التي يسجل أعمالها، ومع ذلك فإن من المفيد أن تبين باختصار طبيعة معارفنا عن حوادث الحياة والفكر التي يشتق منها جميع الأفعال البشرية وتفسيرها.
ومن العادة ألا تدرس ظواهر الحياة إلا في الحيوانات والنباتات، كأن المولد المعدني يبقى خارج دائرة الحياة.
وما كان هذا التمييز ليستمر بفضل تقدم العلم.
ألفت الحياة من جملة ترديدات يعد بعضها - كالحاسية - مشتركا بين جميع الموجودات من الحجر حتى البشر، على حين لا يشاهد بعض آخر منها - كالفكر - في غير الموجودات العليا.
والحاسية هي أبسط حوادث الحياة وأعمها، فهي موجودة في كل مادة، وقد أثبتت الملاحظات الدقيقة أن الأجسام البالغة الصلابة الفاقدة الحس ظاهرا، كقضيب الفولاذ مثلا، تردد بفعل ارتفاع الحر جزءا من مليون درجة، أي الحرارة التي تحدثها شمعة موضوعة على مسافة عشرة آلاف متر.
وحاسية المادة هي نتيجة ملاءمة سريعة لتقلبات البيئة التي تحيط بها، فعين الجسم يكتسب تحت مختلف تقلبات البيئة شكلا مائعا أو غازيا أو بلوريا أو غرويا ليلائم العوامل الخارجية.
وكذلك يمكن أن تعد مظهرا حيويا للمادة حركة الجزيئات المركبة منها الذرات التي تؤلفها، فكل ذرة تتألف مع صغرها الذي لا حد له من جزيئات تدور حول مركز كما تدور السيارات حول الشمس، وتلوح القطعة المؤلفة من صخرة غير متغيرة، وهي كذلك في مجموعها لوقت معين في الحقيقة، ولكن لا من حيث الأجزاء التي تتركب منها ما دامت تتأثر بأدنى تقلبات الجو.
1 •••
ويعرض العالم النباتي في الحال الابتدائية - وهو أعلى من العالم المعدني ببعض الترددات - حوادث يتجلى تركيبها في العالم الحيواني فقط، وهذا الاختلاف في الدرجة هو أصل الفرق بين العالم المعدني والعالم الحي.
ويبدو عاملا الحركة العظيمان في الحيوانات، وهما اللذة والألم، رسما ابتدائيا في العالم النباتي.
فالنبات يبتعد عن الألم ويبحث عن اللذة عندما يضايقه الظلام، فيتغلب على عوائق كثيرة ليجد شعاع الشمس الذي يحتاج إليه والذي تقوم عليه هناءته.
وتقترن حوادث الحاسية هذه بحوادث أخرى من ذات المرتبة كتلك المنازعات الابتدائية في سبيل البقاء التي تشاهد حول جذور بعض الأشجار، كالكستناء مثلا حين تسير بعيدا لتنازع النباتات الأخرى في التراب ما هو ضروري لها من المواد الغذائية.
وقد ابتدعت كلمة «التروبية»
2
للدلالة على تحويل هذه الظواهر إلى أفعال آلية في زمن كان العلم يقيم فيه حواجز بين المادة والحياة، غير أن تلك الكلمة تدل على معلول لا على علة.
وبين هذه الحواجز التي أقامها العلم في أوائله كانت تظهر الفروق التي أوجبها الخيال في البداءة بين الحيوان والإنسان، واليوم تزول شيئا فشيئا.
والمساواة بين الإنسان والحيوان تامة من حيث الحياة العضوية، وتتم جميع وظائف الحياة الفزيولوجية كالدورة الدموية والهضم والتنفس، إلخ، لدى أحقر ذوات الثدي كما تتم لدى الإنسان.
أجل، إن الفرق بين الإنسان والحيوان كبير في منطقة المشاعر والأهواء، غير أنه ليس بعيد المدى، وما يسير الإنسان من غيرة وحقد وحب وأهواء أخرى يوجه الحيوان أيضا.
والحياة العقلية وحدها هي الفارق بين الحيوان والإنسان، والمسافة بينهما في منطقة الحياة العليا هذه هي من الاتساع ما يفسر به اعتقاد الإنسان أنه موضع خلق خاص. •••
وتتخذ المادة شكلا خلويا دائما لتكون حية، ففي باطن هذه الخلايا تتحول الحرارة والكهربا ومختلف القوى التي يميرها الهواء والأغذية إلى طاقات لا بد منها لنشر الحياة.
ويسير بعض القوى التي تتألف الحياة العضوية منها مثل عوامل عمي كالجاذبية، وعلى العكس تبدو قوى أخرى مدبرة ببصيرة عجيبة أعمالا أعلى بما لا حد له من التي يمكن أن يدركها - لا أن يحققها - أرقى العقول، وهذ إذا ما قيست بمستوى مداركنا البشرية دلت على ذكاء مدبر خارق للعادة.
ويظهر أن ذكاء عاليا يدير العمل الخلوي، وما كان لعالم ضمن نطاق العلم الحاضر أن يفك معضلات الفيزياء والكيمياء الهائلة التي يوجد لها حل بالخلايا الوضيعة في كل ثانية.
ويمكن أن يقاس أي من ذوات الثدي بمصنع واسع مشتمل على مليارات كثيرة من الخلايا المكرسكوبية، يمثل كل زمرة منها جمعية من العمال النشطاء،
3
وقد وضعت هذه الزمر تحت إدارة مراكز عصبية يمكن أن تسمى مراكز الإدراك الحيوي.
وتقوم كل واحدة من هذه الزمر الخلوية بوظائف مختلفة معينة تماما، وتصنع جموع من صغار الكيماويين بينها بلا انقطاع مركبات معقدة، فتوزعها أخرى حفظا للأعضاء.
والعمل داخل المصنع العادي سهل؛ وذلك لأن كل عامل يقوم بذات الأعمال دائما، وأما في المصنع الحي فعلى العامل أن يغير عمله باستمرار تبعا للأحوال، ومن ذلك أن حيوانا إذا ما حقن بسم ما أمرت مراكز عصبية مجهولة بعض الخلايا بصنع مركب يسمى أنتيكور، ويختلف باختلاف طبيعة السموم التي يجب أن تدفع.
وهكذا نفترض في الخلايا الحية وجوه معرفة أسمى من ذكائنا بمراحل، ولكن مع الاقتصار على أغراض معينة.
ولا يزال نظام هذه القوى مجهولا لدينا جهلنا لطبيعة القوى التي تفجر من الخلايا الدماغية مباني من الفكر خارقة للعادة. •••
ويدل علم الأجنة وعلم المستحاثات على أن الأشكال الحاضرة عينت بحالاتها السابقة، فوجود كل فرد يبدأ بخلية مماثلة للتي كانت نقطة بدء الحياة في الماضي البعيد، ولكن مع الفارق القائل إن الطريق التي وجب مرور أكداس من القرون لمجاوزتها تقطع في أسابيع قليلة في رحم الأم، ولا يفعل الموجود في حاله الجنينية غير رسم أشكال متوسطة ثبت أمره بها في أثناء حياته الموروثة عن الأجداد.
وليست هذه العوامل الخفية المسيطرة، التي تحكم على العالم بأن يتحول دائما، غير مظاهر لضرورات غير منظورة لطبقة مجهولة من الأمور تجمعها كلمة الطبيعة.
ومع أن جميع الملاحظات التي يشتمل عليها هذا الفصل تبتعد عن فلسفة التاريخ ظاهرا فإنها ترتبط فيه ارتباطا وثيقا، وهي تدلنا على مقدار ما وجب تراكمه من الأزمان حتى انتقلت ذرات السديم الابتدائي الذي يشتق منه عالمنا، من الحياة المعدنية إلى الحياة المفكرة مقدارا فمقدارا.
الفصل الثالث
أصل نشاط الموجودات
حياة الحيوان والإنسان غير الشاعرة
يمكن أن ترد علل نشاط الموجودات إلى واحدة: وهي الرغبة في بلوغ اللذة واجتناب الألم، وليس من العبث إذن أن يدرس تأثير العناصر النفسية المحركة لأفعالنا في كتاب خاص بالتاريخ.
قد يبدو هذا الزعم حول المبدأ الأولي لكل نشاط ثقيلا أول وهلة؛ وذلك لمختلف المعاني التي تعزى إلى كلمتي: اللذة والألم.
حقا يمكن أن يعارض ذلك بأن الإنسان لا يعنى بالمرض المعدي، وبأنه لا يلقي نفسه في الماء أو النار إنقاذا لصنوه، عن لذة، غير أن كلمة اللذة تدل في هذه الحال - كما في سواها مما يماثلها - على راحة يشعر بها في الحقيقة عند تلبية أحد الواجبات، وعلى العكس يكون الألم عند الامتناع عن القيام بذلك.
وكذلك لا يرى أول وهلة أي دور يمكن أن تمثله اللذة في عمل احتضان البيض الذي يكلف الطير نفسه به، ولا يرى أكثر من ذلك فيما تحتمله الحشرة من مشقة لإعداد غذاء الدودة التي تخرج من بيضة لا تراها تنقف.
1
والحق أن الغريزة التي تدفع إلى مثل هذه الأفعال هي رغبة ثبت أمرها بالوراثة، فيقوم الألم على عدم الخضوع لها.
فاللذة والألم إذن أصل جميع التلقينات التي تشتق منها أفعال العالم الحي، ويتوقف طبع هذه التلقينات الحتمي على درجة تطور الموجودات، وهي ما يخضع لها الفطري من فوره، أي من غير تفكير، وذلك كما صنع عيسو حين باع حق البكرية بطبق مجهز من العدس، وتعلم الحضارة ترويض الاندفاعات الضارة معارضة قضاء رغبة حاضرة بصورة نتيجة بعيدة.
وإذا قضى إله قادر على اللذة والألم زالت الحياة عن وجه الأرض بسرعة، فلا يقدر أي داع - ولو كان عقليا - على إخراج الموجود الحي من جمود خلي يكون الموت نتيجته المقدرة إذا عاد لا يعرف الجوع ولا العطش ولا الحب ولا أي دافع إلى العمل. •••
ومع أن القياسات بين حياة الموجودات العضوية وحياة المادة على شيء من التباعد، فإنه يمكن أن يقال عند النظر إلى أن الرغبة جذب والألم دفع، أن هذين الحادثين يشاهدان في العالم المادي، والواقع أن القوى الفزيوية كالثقل والحرارة والكهربا تتجلى بالجذب والدفع في باطن المادة، وبالجذب والدفع يمكن أن يعبر كذلك عن قوامي العالم، وهما: الحركة، أي القوة، ومقاومة الحركة، أي السكون.
ومع ذلك لا ينبغي أن تدفع هذه القياسات إلى مدى بعيد.
ومع ذلك فإن من قلة المعرفة بحياة الموجودات أن يقتصر على دراسة عناصر نشاطها الأساسية، فاللذة والألم يمكن أن يصدرا عن طائفة من العلل، وهذه هي العلل المختلفة: الاحتياجات والأهواء والمشاعر التي يجدر أن تعرف إذا ما أريد تعيين أصول الحوادث التي تتألف منها لحمة التاريخ. •••
كان علم النفس القديم يقتصر على دراسة العقل الواعي، فلم يبال بالعوامل غير الشاعرة التي هي بالحقيقة مصدر جميع أفعال الحيوان حتى الإنسان، وكان ذلك العلم يفصل الغريزة عن العقل فصلا تاما، وكانت قد ابتدعت إحدى النظريات الدينية التي لا يزال العلم مملوءا بها تفسيرا لسير الحيوانات، وذلك أن الطبيعة العطوف أنعمت عليها بقابلية خاصة؛ أي بالغريزة التي تسير بها من غير عقل، وكان يفرق بين الغريزة والعقل مع القول بأن الغريزة تنطوي على نظام يحمل الحيوانات دائما على القيام بالأمور نفسها على وجه ثابت لا يتغير، وكان كثير من العلماء - ولا سيما ديكارت - يعدون الحيوان آلة بسيطة تكرر الأفعال نفسها بلا بصيرة ومن غير أن تستطيع تبديلها.
ونظرية مثل تلك مما لا يمكن الدفاع عنه في الوقت الحاضر، فإذا ما نظر جيدا إلى الحيوانات المترجحة بين أرقى ذوات الثدي وأحقر الحشرات وجد أنها تغير أفعالها وفق ما تهدف إليه من غرض، وهذه هي صفة العقل البارزة التي تناقض الغريزة الآلية.
واعتقد كثير من علماء الطبيعة أن من الممكن عد الغرائز متراكمات بسيطة وراثية، ومن الأحوال كثير لا يستطيع هذا التفسير أن ينيره، ومنها تلك البصيرة البارعة التي تصيب بها بعض الزنابير حشرات أخرى بالفالج فلا تبدي حراكا، وتظل هكذا حتى تبلغ دود الزنابير من النمو ما تغتذي معه بها.
أجل، يمكن أن توصف أفعال هذه الطبيعة بالغريزية تماما، بيد أنه يوجد من هذه الأفعال ما يختلف سيره وفق الأحوال، فيبدي من الصفات الأساسية ما هو خاص بالعقل من حيث النتيجة، وهذا ما جعل بعض علماء الطبيعة - ولا سيما الأستاذ بوفيه - يقول إن الحشرات تعقل كالإنسان، وأصح من ذلك أن يفترض بالحقيقة كون الحيوان لا يعقل كالإنسان، ولكنه يملك من طرز المعرفة ما يختلف عن طرزنا، وتلك هي التي تعين سلوك بعض البعوض، ولا سيما بعوض البلاد الشمالية، فأنثاه تحفظ بيضها أسابيع كثيرة عن توريص
2
إذا لم تتصرف بماء كاف تضمن به حياة صغارها؛ ولذا يكون وضع البيض لديها أمرا اختياريا، وهكذا ينظر إلى مصلحة النوع البعيدة فقط. وكذلك طبائع النحل لا تدخل ضمن نطاق التعاريف القديمة؛ وذلك لأن النحل لا يغير مناهج بنائه وادخار غذائه على حسب الإقليم فقط، بل يتصف أيضا باستعداد عجيب لتغيير جنس دوده كما يريد بتغييره تركيب غذائه كيماويا، وإذا حدث ما تحرم به خلية النحل ملكتها قدم النحل من الغذاء ما يحول به دودة إلى ملكة جديدة.
والملاحظات التي هي من هذا القبيل كثيرة، ومنها يعلم أن الغريزة عادت لا تعد ضربا من الخصائص الثابتة التي تنعم الطبيعة بها على الحيوانات عند خلقها، فهي قسم من تلك القوى غير الشاعرة التي يمكن أن تشاهد عند الحيوان وعند الإنسان، قسم من تلك الخصائص التي أخذ العلم يتمثل أهميتها فقط. •••
ويظهر أنه يمكن تقسيم الحياة غير الشاعرة إلى: لا شعور عضوي، ولا شعور فزيوي.
ويبدي اللاشعور العضوي نشاطا فائقا ذا طبيعة مجهولة تماما، ويقوم بوظائف حيوية كالدورة الدموية والتنفس والهضم ونشوء الأعضاء، إلخ، وما يؤدي إليه من أفعال هو من التعقيد - كما ذكرنا - ما لم ير العالم معه بعد ظهور عفريت قادر على إدراكه.
ويبدو اللاشعور الفزيوي، المجهول في جوهره كالسابق أيضا، أساسا للوظائف الذهنية ويدخر عملها، وتشتق كل تربية من الانتفاع به، وهو لما يتصف به من جمع الانطباعات وحفظها يزاول به كثير من الأمور بلا جهد بعد تعلمها بجهد؛ ولذلك تكون التربية فن إدخال الشعوري إلى اللاشعوري كما حاولت بيان ذلك في كتاب آخر.
ومع أن العلم لم يتقدم كثيرا في دراسة اللاشعور فإنه يقرر بالتدريج أنه ينضج في هذا الحقل عوامل كثير من الأفعال التي كانت تعزى إلى العقل وحده، وفي كتاب آخر شبهت الحياة العقلية الخالصة بتلك الجزيرات البارزة على سطح البحار المحيطة، فلا تكون في الغالب غير ذرى لجبال عظيمة مغمورة بالبحار، فالجبال العالية غير المنظورة تمثل اللاشعور، وتمثل الذرى الصغيرة التي لا تكاد ترى تلك الحياة الشاعرة.
وتتجلى أفضلية الإنسان البالغة على الحيوان في كونه استطاع أن يخرج قليلا من الحياة الغريزية اللاشاعرة التي ظل هذا الأخير غارقا فيها، وهو إذا ما خرج منها كان ذلك ناقصا، وليس لزمن طويل مطلقا.
والحضارة تنفع في زجر التلقينات اللاشعورية التي تضر الفرد والمجتمع، والدساتير - ولا سيما الديني منها - تجهز برسوم باطنية رادعة، أي بتلقينات ثابتة قادرة على زجر التلقينات المتقلبة التي تحركها الشهوات. •••
ويسيطر على تاريخ الأمم ما بين اندفاعات الحياة العاطفية اللاشعورية ومؤثرات الحياة العقلية الشعورية من صراع، فمن الحياة العقلية تتفجر عجائب العلم التي تعين تقدم الحضارة، ومن الحياة الغريزية تولد الشهوات وجميع المنازعات التي تزعج حياة الأمم، وسيبقى الأمر، لا ريب، هكذا حتى اليوم الذي تتخلص الإنسانية فيه من الحياة اللاشاعرة الوراثية، فتبلغ من التطور الكافي ما يكون العقل معه مسيطرا، ولم تبلغ هذه المرحلة بعد؛ ولذلك يشتمل التاريخ على قليل من الحوادث التي أوحى بها العقل المحض، أجل إن الإنسان أقام مباني وعين سير النجوم، غير أن تأثير المنطق العقلي ظل ضعيفا دائما في الأعمال التي تتألف منها حياة الأمم.
وها نحن أولاء بعيدون جدا من المبدأ القائل إن الحياة اللاشاعرة وقف على الحيوانات، ويكفي أن ينعم النظر ليرى أنه يتألف منها أساس حياتنا الفردية والاجتماعية، فمن العادات اللاشعورية تشتق أخلاق حقيقية ، ويقوم ثبات الحضارة على عادات أصبحت لاشعورية.
وتمثل هذه العادات دورا عظيما في حياة المجتمعات، وهي توجد وحدة الفكر والعمل اللذين لا يمكن أن تدوم بغيرهما حضارة، فمتى خسرت أمة ما يوجه نشاطها من عادات ارتجت وفق المصادفة وسقطت في الفوضى، ولولا العادات اللاشعورية التي وجهت حياة البشرية ما كان لها تاريخ.
الفصل الرابع
تقلب الذاتيات الفردية والجماعية
يعد ثبات الذاتية من المبادئ النفسية التي توشك أن تزول.
وكانت تفترض هذه الذاتية وحيدة، فأخذت تبدو بالتدريج منوعة مركبة من عناصر يمنحها ثبات البيئة وحدة ظاهرة.
وكان يبدو مبدأ ثبات الذاتية القديم سائغا بإظهار كل فرد عددا من الترديدات التي تكرر في الحياة العامة من غير كبير تغيير. ومما لا ريب فيه أنه كان يلاحظ ما يطرأ على طبع الفرد عينه من تقلب، ولكن جهل طبيعة هذا التقلب، وما يصدر عنه هذا التقلب من عوامل حقيقية، كان يوجب وصفه بكلمة «الأهواء» الغامضة.
وكان الوهم حول الذاتية الثابتة يقوم أيضا على الوهم حول ثبات الجسم ظاهرا. والواقع أن الذاتية الفزيوية التي تصلح أن تكون إطارا للذاتية الخلقية تتحول بشيء من البطء لتوحي بطابع الثبات.
وفي الحقيقة أن الذاتية البدنية تتحول دائما، وينشأ ثباتها الوهمي عن نقص في وسائل ملاحظتنا فقط، فلا بد من انقضاء سنين على العين البشرية لتحقيق ما تدل عليه آلة دقيقة في بضع دقائق.
وسواء علينا أنظرنا إلى الذاتية الفزيوية أم إلى الذاتية الخلقية لا نبصر الموجود عينه مرتين، وما نعرفه عن الناس الذين يحيطون بنا وما يعرفه هؤلاء الناس أنفسهم ينم على ذاتياتهم الممكنة فقط.
ومع ذلك فإن من المحقق كون هذه التقلبات لا تزيل تأثير الوراثة الثابت، فكل خلية جديدة وارثة لخلية سابقة، وهي تحتفظ بعدد من خصائصها كرها، وهذه العناصر الموروثة تمنح الفرد خصائص جبلية يكون بعضها مشتركا بين جميع الموجودات في الفصيلة عينها أو العرق عينه.
وتكون تقلبات الذات محدودة لدى الأمم التي ثبت أمرها منذ زمن طويل بمصالح ومعتقدات مشتركة، ومن ثم يحوز الإنكليز أو الألمان أو الفرنسيون، إلخ، في بعض المسائل مجموعة من المشاعر والأفكار المشابهة لما عند مواطنيهم، ولكن مع اختلافها اختلافا بينا بين أمة وأخرى، وتتحول الذاتية باستمرار لدى الأمم التي لم يثبت أمرها، كالصقالبة مثلا.
وإذا عدوت هذا الثبات العميق في بعض عناصر العرق وجدت كثيرا من تحولات الذاتية يقع بلا انقطاع في أثناء الحياة اليومية، حتى إنه يمكن أن يقال إن الفردية اليومية تختلف باختلاف الحوادث وعلى حسب الموجودات التي نعاشرها، وتعين نفسية هذه الموجودات نفسيتنا، كما تؤدي تقلبات الجو إلى تقلبات مقياس الحرارة.
وتعين هذه الملاحظات على إيضاح حوادث تظل مبهمة بغيرها، ومن ذلك أننا إذا ما أبصرنا في ذات النهار ذات الشخص يأتي باقتراحات متفاوتة القيمة أيقنا - على الرغم من الظواهر - بأننا كنا بالتتابع أمام موجودين مختلفين لا يشتركان في غير الصورة. •••
وتتوقف علة تقلباتنا الرئيسية على تحول صورنا النفسية، فعنها تصدر آراؤنا ومسراتنا وآلامنا، ويكون أعظم محسني الإنسانية ملائكة قادرين على منح الناس قوة يبتدعون بها كما يشتهون صور سعادة نفسية بالغة التأثير، كالتي توجبها الحقائق، وإذا ما أقنعت الموجودات بذلك على هذا الوجه غدت تامة السعادة لما يلوح من تحقيق أحلامها، فهي تصير مساوية لأقوى الملوك من فورها وتسكن أزهى القصور كما تشاء.
ولم يحول جميع مؤسسي الأديان، كبدهه (بوذا)، وعيسى، ومحمد، إلخ، العالم إلا لأنهم أنعموا على الناس بقدرة يبتدعون بها صورا نفسية قريبة من التي تصدر عن الحقيقة، غير أن هذه الصور كانت موصوفة، ومن ثم حتمية، ما جعلت النفس مذبذبة بين شقاء دائم ونعيم جازم، وكثير من الناس لبوا صورا نفسية فضحوا بحياتهم نصرا لأوهام كانت تسيطر عليهم.
يمكن أن يستنتج مما تقدم كون الصورة النفسية لها من التأثير ما للحقيقة، وأنها تستطيع إبداع ذاتية جديدة فجأة. •••
يوجد لذاتياتنا المنوعة مصادر مختلفة، وهي: (1) عناصر الأجداد المنتقلة بالوراثة. (2) العناصر المكتسبة أو المفروضة من البيئة والتربية، إلخ.
وتشتق من العوامل الإرثية المقدرة صفات الخلق البالغة الثبات كرها، والتي توجب قوة الأفراد أو ضعفهم، كما توجب قوة الأمم أو ضعفها، وتبقى ذاتية الأجداد مجهولة من قبل الذاتية المكتسبة وإن أمكنها أن تنازعها، ويعد كل موجود حي مقبرة يرقد فيها أجداد كثير ليفيقوا أحيانا ويبدوا عزائم متجبرة.
وبما أن نفسيتنا المكتسبة التي ثبت أمرها بالتربية والبيئة والمعتقدات الدينية، إلخ، ما استطاعت، لم تحز صلابة الروح الموروثة عن الأجداد، فإنها تكون عرضة لتقلبات عظيمة. والواقع أن الذاتية الخلقية وهي تمثل ترديدا لمركبات من ذاتيتنا، وذاتية الأشخاص الذين تقع معهم علاقات، تبدو متحولة، على الخصوص، من الحين الذي تضطر فيه إلى ملاءمة حوادث مفاجئة.
ويكون التاريخ، في أثناء الأزمات الاجتماعية الشديدة، مملوءا بتلك التحولات المفاجئة، ومن ذلك أن أبطال الثورة الفرنسية السفاحين الذين سلبوا ضرائح الملوك وقطعوا رءوس المئات، كانوا في الأوقات العادية من البرجوازية المسالمين، كانوا من القضاة والموثقين والمحامين، إلخ، فلما سكنت الزوبعة لم يفقهوا شيئا من الأعمال التي اقترفوها، وكيف كان يمكنهم أن يدركوا أمرها بعد أن عادت الذاتية المؤقتة التي حملتهم على إتيان تلك المنكرات غير موجودة؟
وتحولات نفسية عظيمة كتلك لا تلاحظ في أثناء الانقلابات التاريخية كالحروب أو الثورات فقط، بل يمكن أن تظهر أيضا بفعل معتقد ديني قوي جدا أو بفعل أهواء شديدة كالحب مثلا، وليست الأقوال بل الأفعال هي التي تكشف إذ ذاك عن ذاتية الساعة.
وتنشأ عن معظم الأديان تحولات مفاجئة في الذاتية بالغة من الشدة ما يكفي لحمل المؤمنين على التضحية بحياتهم نصرا لمثلهم الديني الأعلى.
وتملأ الذاتيات المفاجئة التي تظهر بفعل الحب حياة مجتمعاتنا أيضا، فينتفع بها من قبل واضعي المآسي في جميع الأزمنة، ويصدر عن كثير من المؤلفين أمثلة بارزة عن نظرية تعدد الذاتيات مع جهلهم إياها، ومن ذلك على الخصوص قصة سيدة أفسوس المخلفة عن العالم اليوناني الروماني القديم والمفسرة في الغالب من قبل بترون حتى لافونتن. ومن ذلك أيضا رواية ريتشارد الثالث لشكسبير التي ترى فيها سيدة شريفة تنسى في بضع دقائق مشاعر حقدها على قاتل زوجها المعبود الذي لم يزل تابوته قائما حواليها. •••
وتقلبات الذاتية تلازمها تقلبات فزيولوجية دائما.
وكنت منذ حين قد صنعت عدة آلات أنشر صورة بعضها هنا لقياس هذه الأخيرة، والمناهج التي تستعمل هي من التفصيل ما لا نرى معه بيانها هنا، فبها يتضح تحول الذاتية البالغ.
1
والذاتية - فضلا عن هذه التقلبات العادية - تتحول في جميع الأحوال المرضية نتيجة لبعض الانحرافات في العناصر العصبية، فهذه الحادثات الناشئة عن أصل مرضي تشاهد في أدوار التاريخ المضطربة على الخصوص، وذلك لدى التبعة المجاورين لحدود الحماقة، فهم يضربون الرصاد الذين يبالغون في تأثيرها غالبا.
ويجب أن ينتفع بنتائج هذا النهج - ولكن بتحفظ - في تفسير الحوادث وفي دراسة رجال التاريخ دراسة نفسية.
ومن المؤرخين مثل: ميشله من أسهبوا كثيرا في بيان هذا النهج، وقد بالغ بسكال بعض الشيء حينما قال مؤكدا إن العالم كان يتغير لو كان أنف كليوباترة أقصر مما هو عليه، وإن النصرانية كانت تخرب لولا حب الرمل في مثانة كرومويل. ومع ذلك فإن مما لا ينكر كون تغيرات الذاتية تغيرا مرضيا قد مثلت دورا عظيما في سلوك كثير من الملوك، فاذهب من قياصرة الرومان إلى شارلكن، فإلى فليب الثاني الإسباني، تجد أمثلة كثيرة على ذلك، وذلك إلى أن من الممكن جدا أن يكون مثل هذه الانحطاطات قد أدى إلى مشاريع زينت تلك العهود، وفي أيامنا اتفق لبعض الحركات الشعبية كالبلشفية في روسية والشيوعية في فرنسة على الخصوص، دعاة ممن تغيرت ذاتيتهم تغيرا عميقا بعوامل مرضية.
وتكون تقلبات الذات التي تلاحظ لدى الأفراد وهم منعزلون أبرز من ذلك كثيرا في الجموع، كالاجتماعات الشعبية والبرلمانات ومجالس الحرب، إلخ، فهنالك تتكون في كل مرة روح عابرة كنت قد بينت أوصافها عندما درست روح الجماعات.
وبين أظهر ما تتصف به هذه الذاتيات الجمعية الموقتة نعد سرعة التصديق وعدم التسامح والعنف وتعذر السير بلا نفوذ زعيم، وما للجماعة من حال نفسية يعبد ذاتية كل عضو في هذه الجماعة تعبيدا تتحول به تماما، فيمكن المسالم حينئذ أن يصبح مفترسا، والبخيل مبذرا، إلخ.
وتمثل الذاتية القومية ذاتية جمعية ثبت أمرها بعوامل شتى، وهي: المعتقدات الدينية والأخلاق والعادات، إلخ. ومن بين مختلف العناصر التي تعين تاريخ إحدى الأمم تجد ذاتيتها القومية، التي تنطوي على ذاتية قادتها وذاتية مقوديها، تعين مجرى مصيرها تعيينا وثيقا.
الباب الثاني
تفاسير التاريخ المختلفة
الفصل الأول
مبادئ التاريخ الروائية واللاهوتية والفلسفية
كان قدماء المؤرخين كهيرودوتس قليلي الاكتراث لصحة الحوادث، وكان شأنهم مقتصرا على استنساخ ما يسمعون من أقاصيص، وكانت هذه الأقاصيص تتألف حصرا من ذكريات باقية في ذاكرة الناس والتاريخ إلى وقت حديث، تألف من شهادة المعاصرين فقط.
ولم تبد أولى الكتب عن تاريخ رومة وأثينة - ولا سيما تآليف بلوتارك وتيطس ليفيوس - أكثر دقة، وإن وضعت بعد يسوع، فمن هذه المؤلفات يعلم على الخصوص أن إينه بن أنشيز وفينوس الفار من خرائب تروادة زار لسيوم وتزوج ابنة ملك لاتينوس، وأن هركول هجم على أفنتن ليقتل اللص كاكوس، وأن رومولوس وريموس أرضعا ذئبة، وأن أراسيوس كوكلس دافع وحده عن جسر سبلسيوس تجاه جيش كامل من الإتروسك، فجميع هذه الأقاصيص لها من القيمة كما لقصة مفاسد الغول المعروف بالمينوتور، والمولود من اقتران بازيفايه بثور، فقتله تيزه بالسيف السحري المأخوذ من أريانه بنت مينوس.
وليست الأحاديث عن الأزمنة التي عقبت تلك أكثر صحة في الغالب، وإذا كنا لا نجادل فيها فذلك لأنها تلوح أقل بعدا من الصواب. ويعد أصلح مؤرخي الرومان مثل تاسيت، التاريخ فنا يجب أن يزين الكاتب، والتاريخ خاصة هو عند هذا الأخير «عمل الخطيب». وهؤلاء المؤرخون كانوا يعالجونه كخطباء إذن، فيرتبون الوقائع ترتيبا يسوغون به رأيهم أو يزودون الأعقاب بأمثلة حسنة، وكذلك لم يترددوا قط أن ينسبوا إلى المحاربين والأبطال والأباطرة أقوالا، وأن يضعوا في فمهم خطبا رائعة، ومناجيات نفسية أيضا، كالتي جعلت على لسان أوتون وفسبازيان، إلخ. وكانت هذه الأقاصيص الوهمية تؤلف استنادا إلى بضع قطع من الحقيقة تجمع مصادفة وإلى كثير من الخيال، فتعدها الأجيال صحيحة بقوة التكرار.
ولم ينقض مبدأ التاريخ الروائي بانقضاء قدماء المؤرخين، فقد عاش بعد جميع الانتقادات، وقد ظل باقيا قويا حتى في أيامنا، ومن السهل إيراد أمثلة مشهورة على ذلك، فإذا عدوت وصف المنظر لم تجد سطورا كثيرة صحيحة في «حياة يسوع» لرينان على ما يحتمل، ولكن يا لها من قصة مقبولة!
ومع ذلك فإن نجاح مثل هذه الكتب لا يقوم إلا على روائيتها، وفي التاريخ يبحث القارئ العادي على الخصوص عن المغامرات العجيبة المروية بشاعرية الدعاء والغضب والتفاؤل، أي: بموسيقا الكلمات المسكرة. ولرينان الباع الطويل في هذا المضمار، فليس لهيامه حد في «دعاء الأكروبول». حتى إنه يهذي فيه بعض الهذيان: «فيا كورا: أنت وحدك فتاة، أيتها العذراء: أنت وحدك طاهرة، أي إيجي: أنت وحدك قديسة، أيا نصرة: أنت وحدك قوة!» ومن الواضح أنه لا يوجد لهذه الكلمات غير معنى مبهم، ولكن القارئ يجد هذا الجمع من الأوصاف الرفيعة، وتساعد هذه الغنائية على بيان قدرة الخيال المبدعة. ولم تكن أثينة حينما زارها رينان غير قرية عفراء قذرة، وقد رآها من خلال ذكرياته الكلاسية مع ذلك، فكتب يقول: «إن ما ألقته أثينة من أثر في يفوق جميع ما أحسسته في حياتي بدرجات، فمكان واحد، لا مكانان، هو ما يتجلى فيه الكمال، ذلك هو المكان، ولم يحدث قط أن تمثلت نظيرا له.» فيا له من شاعر! سيقرأ زمنا طويلا، ولكن كما تواصل قراءة «ألف ليلة وليلة». أي من غير أن يصدق كثيرا، وذلك مع الاحتراز إلى الغاية من تصويراته وتصنيفاته. والواقع أنه ليس من تصوير الأمور تصويرا صحيحا أن يوصف نيرون بالمشعوذ، وأن يقال مع التوكيد إن مرك أوريل رمز لنهاية العالم القديم الذي ظل باقيا قرونا كثيرة بعده في الحقيقة، ومن الممتع على وجه آخر - ولكن مع الصعوبة - أن يبين كيف تحول هذا العالم بدلا من بيان نهايته.
وبالتشويهات الحماسية والمسرحية ننال وهم حقيقة يعرف المؤرخ الفيلسوف جيدا أنه لا يستطيع بلوغها.
ثم إن من الواضح أن المؤرخ كلما كان متفننا قل تدقيقه، فالواقع أن عيانه الشخصي البالغ الشدة يقوم مقام الحقائق، ويكفي عدد قليل من المبادئ غير الثابتة لتزويد خياله.
ويدل هذا الدور الخصيب الذي يمارسه الخيال في الأقاصيص التاريخية على السبب في كون إدراك الحادث عينه يختلف باختلاف المؤرخين تبعا لمبادئ كل زمن. •••
كان الأغارقة في عصور البطولة على الأقل يجعلون الآلهة تتدخل في الأعمال البشرية بلا انقطاع، ففي كل صفحة من قصص أوميرس تبصر عمل أهل الألنب، وليس أقل من هذا ظهور الرب في الكتب اليهودية، وكان الرومان يخلطون الآلهة بحوادث البشر.
ويسفر انتصار النصرانية عن مبدأ لاهوتي خالص في التاريخ، ويتحرك هذا المبدأ قرنا بعد قرن.
قال غيزو: «تصفحوا تاريخ ما بين القرن الخامس والقرن الثامن عشر، تجدوا أن علم اللاهوت هو الذي يسيطر على الروح البشرية ويوجهها، فتطبع جميع الآراء بطابع علم اللاهوت، وينظر إلى المسائل الفلسفية والسياسية والتاريخية من الوجهة اللاهوتية دائما ... والروح اللاهوتية من بعض الوجوه هي الدم الذي جرى في عروق العالم الأوروبي حتى بيكن وديكارت.»
وتدل الكتب التاريخية التي ألفت في ذلك الزمن الطويل على درجة ما يمكن العوامل الدينية أن تؤثر به في أفكار الناس، وعلى مقدار بساطة المبدأ العام عن الكون في ذلك الحين.
وكانت تسيطر على مجرى التاريخ قدرة ربانية عاطفية أو ساخطة، فكان لا بد من خشيتها أو التضرع إليها بلا انقطاع، وكان أقوى الملوك يرتجفون أمامها، ومن ذلك أن كان لويس الحادي عشر ينفق لب ماله محاولا أن ينال، بأثمن التقدمات، حماية العذراء وأبرار الفردوس، قانعا - على رواية مؤرخ له - بأنهم يتدخلون في أعمال الإنسان دائما، قادرين وحدهم على ضمان الانتصارات الحربية أو الدبلمية.
وإلى وقت قريب نسبيا كان على هذا الاعتقاد الصبياني فلاسفة فضلاء. وقد ساق هذا الاعتقاد لبنتز إلى أفكار كثيرة التفاؤل، فكان يقول إن العالم بالغ الصلاح بحكم الضرورة؛ وذلك لأنه لا حد لحكمة الرب وكرمه.
ولم تأخذ مبادئ التاريخ اللاهوتية في الزوال إلا بعد أن أثبت تقدم العلم كون جميع حوادث العالم خاضعة لسنن وثيقة لا تعرف الهوى. •••
وبما أن المبادئ الروائية واللاهوتية تركت وجب اكتشاف مبادئ أخرى لإيضاح مجرى الحوادث، وقد نشأ عن هذا الواجب ما يمكن تسميته: مبدأ التاريخ الفلسفي.
ويقول لنا هذا المبدأ: إن الحوادث تابعة لضرورات غريبة عن المصادفة أو عن عزائم علوية، ويجد العلم في تعيين هذه الضرورات، ولكنها من التعقيد ما لا يرجى معه تعيينها في كل وقت.
وكل حادثة تاريخية عقلية ضمن المعنى القائل بصدورها عن علة، ولكن هذا لا يعني أنها ملائمة لخطة ما، وإنما يدل على وجود بعض العلل العامة دلالة واضحة تأثير العوامل الكبرى المتجبرة، كوجوب القيصرية في الحياة الرومانية حينا من الزمن، وكسير بلدان أوربة المختلفة نحو الوحدة في زمن معين، وكالإصلاحات التي تعقب الثورات، إلخ، ومع ذلك فالتاريخ مملوء بالحوادث التي أمكن أن تكون بالغة الاختلاف عن التي وقعت، وذلك لأنه لم يوجب ضرورتها أي سنة ثابتة.
ومن المحتمل أن كان تطور إنكلترة يقع على وجه آخر لو خسر النورمان معركة هستنغس، والواقع أنهم كادوا يخسرونها لولا أن تصور الدوك وليم في الدقيقة الأخيرة فقط خدعة حربية حال بها دون نكبة كانت تؤدي، لا ريب، إلى القضاء على فكرة النورمان في تجديد غزوهم، ولو وفق أنيبال في تجربته حين حاول الاستيلاء على رومة تحويلا لها إلى مستعمرة قرطاجية لتغير جميع مجرى التاريخ القديم وشكل الحضارة تغيرا عميقا.
وفي زماننا كان مصير أوربة تم على خلاف ما وقع لو لم يكره الإمبراطور غليوم بسفرائه أمريكة على الاشتراك في الصراع العالمي. •••
ويظهر أمرا حقيقيا إذن كون التاريخ ينطوي على علل عامة، ثم على ما لا يحصيه عد من العلل الصغيرة الاستثنائية التي يمكن أن تشتق من الأولى، ولكن من غير أن تنشأ عنها في كل وقت.
ومن العلل العامة - ولا سيما ثقل الماضي البالغ - ما أدى بعد انقلابات الثورة الفرنسية بحكم الضرورة إلى عود ملكي سبقته دكتاتورية، ولو لم يكن ذلك الطاغية بونابارت لكان مورو أو غيره، ولكنه إذ يكون وقتئذ أقل عبقرية، ومن ثم أقل نفوذا، فإنه يكون أقل دواما ويرجع إلى الملكية بما هو أسرع من ذلك.
ومن المحتمل أيضا ألا يفكر القائد العادي الذي يكون قد ظهر في تأسيس آل، فلا يظهر في فرنسة نابليون الثالث ولا تقع معركة سدان ولا الغزو ولا الكومون ولا الوحدة الألمانية، فهذه الحوادث قد نشأت قسما إذن عن تلك العلة الاستثنائية المستقلة عن كل سنة منظمة، أي عن تفوق قائد ظافر كان قد مات منذ نصف قرن، وفرضيات مثل هذه تدل دلالة واضحة على شأن العرضي في التاريخ.
الفصل الثاني
التعميمات في التاريخ
يصعب جدا أن تعرف العلل الحقيقية لحوادث التاريخ حتى أكثرها وقفا للنظر، وسنبين في فصل آخر أن الشهادة، التي هي أكثر مناهج الماضي استعمالا، أقل هذه المناهج صدقا، والواقع أن قيمتها ضعيفة إلى الغاية، لا لمصاعب حسن المشاهدة فقط، بل لأن المشاهدات التي تقع تؤدي إلى تعميمات خادعة أيضا.
وقد أدى التعميم كنهج تاريخي إلى أحكام متناقضة تناقضا يجعل الحقيقة أمرا يصعب تمييزه، وذلك في موضوعات أساسية كحال فرنسة قبل الثورة.
وكيف يكون رأي صحيح حول حال الفلاحين استنادا إلى شهادات بالغة التناقض كالشهادات الآتية التي قيدها مسيو شومه، وهي: «إن لابروير يشبه الفلاحين الفرنسيين بالحيوان الوحشي المنتشر في الحقل ذكرا كان أو أنثى.»
ويؤيد سان سيمون هذا التقدير فيقول: «يقتات بعشب الحقول في نورماندية في أثناء تبذيرات شانتي.» ومثل هذا حكم ماسيون القائل: «يعيش أهل أريافنا بائسين أشد البؤس.» ويقول دارجنسون من ناحيته: «حدثني سنيورات تورين أنهم يريدون إلهاء الأهلين بأعمال في الأرياف مياومة، فيجدونهم من الهزال وقلة العدد ما لا يستطيعون معه العمل بذرعانهم.»
وفي الوقت نفسه كان يوجد من الشهود من يصوغون أحكاما في ذلك مختلفة اختلافا تاما، ومن ذلك ما قاله رحالة في سنة 1728: «لا يمكن أن يتصور مقدار سعادة الفلاحين، فالقرى زاخرة بفلاحين أقوياء سمان لابسين ثيابا حسنة وبياضات نظيفة ...» وقالت الليدي منتاغيو: «لا يمكن أن يتصور مقدار ما هو منتشر في المملكة من رخاء وسرور.» ومثل هذا قول ولبول: «أجد هذا البلد غنيا غنى عجيبا، ويبدو على أحقر القرى طابع البركة.» وقال فولتير: «وكيف يمكن أن يقال إن ولايات فرنسة الجميلة بور؟ يحسب الإنسان نفسه في الفردوس!» وأما أرثور يانغ الذي استشهد تين به كثيرا فمن يكلف نفسه بقراءته يعلم - بعد أن يستخرج من «سياحاته» ما يمكن من النصوص عن بؤس الأرياف الفرنسية عشية الثورة - إمكان استنباطه رخاءها أيضا من النصوص البالغة مثل هذا المقدار على الأقل.
ويمكن أن يزاد عدد هذه الاختلافات في الرأي إلى ما لا حد له، وتجد مثل هذه الاختلافات أيضا لدى المؤلفين الذين عرضوا نتائج الإدارة النابليونية في إيطالية.
فإليك كيف يعبر شاتوبريان عما في نفسه: «إن نابليون عظيم لما كان من سمو بعثه وتنويره إيطالية.»
ويختلف عن هذا حكم فاغيه، حيث قال: «مني حكم الإمبراطورية الأولى في إيطالية بحبوط ذريع، فقد أصيبت في ست سنين بالإفلاس والفوضى والبؤس والجوع والإقفار، وبلغ ما اعترى جميع الثروات الكبرى من إفلاس ثمانين في المائة، وأصبح عدد السائلين ثلاثة أضعاف، وزاد عدد قطاع الطرق في الأرياف عشرة أضعاف، ومات السوقة جوعا، ونقص عدد سكان رومة بمعدل الخمس في خمس سنين.»
ومع ذلك فإن هذه التقديرات المتناقضة تفسر بشيء من السهولة لدى النظر إلى أن ذينك المؤلفين التزما زمنين مختلفين، فلما درس شاتوبريان حال إيطالية كانت الإدارة الإمبراطورية صالحة تقريبا على الرغم من قسوتها، ومن ثم كانت أفضل من عصابة النهب التي أرسلتها حكومة الديركتوار.
والأمر كما قال فاغيه: «كانت إيطالية تقاسي في عهد الديركتوار فجورا مستمرا، وكانت رومه تشاهد باسم الجمهورية الرومانية قناصل ومحامين عن الشعب وأعضاء سنات يسرقون ويغتنون، ويقصفون ويكيدون، ويرتكبون المنكر، ويسفكون دما كثيرا في الريف الروماني، ويسلبون القصور والمتاحف والمكتبات، ويفرطون في فرض الضرائب، فيأخذون نصف أموال الأغنياء ورقيقي الحال على السواء. والخلاصة أنهم كانوا مزبلة كريهة من اللصوص والقراصين والأشرار.» •••
وإذا عدوت علل الأغاليط الناشئة عن تعميمات خاطئة فاذكر الأغاليط الناشئة عن تكرارها من قبل كتاب ذوي نفوذ، كما هي حال الآراء العامة التي صيغت زمنا طويلا حول ما افترض من قضاء البرابرة على الإمبراطورية الرومانية.
ولم يحتج المؤرخ العالم فوستل دو كولنج إلى غير قليل من البحث في أسس هذا الاعتقاد حتى يعرف مقدار ما كان يشوبه من خطأ، فقد بين أن الغارات التي قرعت خيال المؤرخين كثيرا لم تكن غير أعمال منفردة من قطع السابلة لا غد لها، وأنه لم يحدث قط أن حدثت البرابرة نفسهم بهدم الإمبراطورية الرومانية التي كانوا يبدون مبجلين إياها تبجيل إعجاب، ومحاولين انتحال لغتها ونظمها وفنونها، فإذا وقع في نهاية قرون كثيرة أن قضوا ببطء على الحضارة الرومانية، لم يكن هذا قط نتيجة غارات عنيفة دفع معظمها بسهولة من قبل برابرة مرتزقين لدى الرومان، بل كان بوسائل سلمية، وبما أن هؤلاء الأهلين المتأخرين الذين أدخلوا إلى العالم الروماني كانوا عاجزين عن ملاءمة حضارة تعلوهم علوا كبيرا، فإنهم خفضوها إلى مستواهم بحكم الضرورة؛ ولذلك لم يقض على الحضارة الرومانية بغتة، بل أخذ مكانها شيئا فشيئا.
ثم إن الرومان أنفسهم هم الذين أوجبوا هذه الغزوات السلمية حينما أصبحوا بالغي الغنى متمردين على الزواج، فأدخلوا أجانب إلى جيوشهم وإداراتهم بالتدريج، ولما صار المرتزقة جنود رومة حصرا، وصارت رومة تدير ولاياتها من قبل رؤساء من البرابرة، أصبح هؤلاء الرؤساء مستقلين شيئا فشيئا، ومع ذلك كان نفوذ عظمة الرومان من القوة ما عد هؤلاء الرؤساء أنفسهم معه من موظفي رومة دائما وإن غدوا أصحاب سيادة؛ ومن ذلك أن بدا كلوفيس فخورا بلقب القنصل الروماني، الذي أنعم به عليه الإمبراطور المقيم بالقسطنطينية في ذلك الحين، وتمضي ثلاثون سنة على موت كلوفيس، فيتلقى خلفاؤه ما يمليه الأباطرة من قوانين ويراعونها، وكان لا بد من حلول القرن السابع حتى يجرؤ رؤساء الغول من البرابرة على إحلال صورهم على النقود محل صور أباطرة الرومان.
ولم يشعر المعاصرون بزوال سلطان الرومان لوقوعه بطيئا تدريجيا إلى الغاية؛ ولذلك يكون المؤرخون قد بدءوا تاريخ فرنسة قبل الزمن الحقيقي بقرنين واختلقوا لنا اثني عشر ملكا. •••
ولم تكن غزوات البرابرة السلمية وحدها كافية لتحويل الحضارة الرومانية لو لم تنحل هذه الحضارة بفعل الروح الجديدة التي جاءت النصرانية بها، فقد تحولت هذه الحضارة من عسكرية إلى لاهوتية بالتدريج، وقد تقدم الفن في بزنطة التي نقلت إليها، ولكن مع انقباض آفاق الفكر الإنساني، ويستفيد الترك من المناقشات اللاهوتية التي كانت تستغرق جميع نشاط البزنطيين فيستولون على تلك المدينة العظيمة.
ومما يلاحظ مع ذلك كون التاريخ يعوزه ما يكفي من الوثائق عن أعظم الحوادث.
ومن ذلك كون التاريخ يضطرب في بيان السبب في اعتناق العالم الروماني للنصرانية في قرنين أو ثلاثة قرون. ومن الواضح أن كان هذا الدين يستهوي العبيد لجعله إياهم مساوين لسادتهم، ولكن ألم يكن من الضروري أن يبدو بغيضا بغضا مطلقا لدى هؤلاء السادة الذين يقلب أحوال حياتهم الاجتماعية رأسا على عقب؟ إن جميع الإيضاحات حول حادث عظيم كهذا ظلت فاقدة القيمة حتى الآن، فوجب أن يلجأ إلى مبادئ علم النفس الحديث ليدرك أمرها. •••
يرى مقدار عدم الصحة في الأفكار التي استقرت وفق تعميمات تقليدية عن بعض أدوار التاريخ، ويلاحظ هذا أيضا في مسائل أكثر جدة من تلك بمراحل، ومن ذلك أن عد لويس الثالث عشر لزمن طويل صاحب نفس ضعيفة يسيطر عليها ريشليو سيطرة تامة.
وعلى العكس يظهره نشر رسائله مشتملا على نفس صافية حازمة مشيرة على ريشليو أكثر من أن توجه بهذا الأخير، مدبر بها مملكته تدبيرا صحيحا بين حروب كثيرة ودسائس ومؤامرات يومية كان يشترك فيها أخوه والأم الملكة والبرلمان. وأخيرا ترك هذا الملك لوارثه لويس الرابع عشر فرنسة قوية موحدة بفضل صرامته، وكان قد تلقاها غارقة في الفوضى.
ومن السهل أن يطلع على أمثلة أخرى عن التعميمات التاريخية غير الصحيحة، حتى إنه يمكن أن يسأل عما يبقى من التاريخ الكلاسي إذا ما وضع على محك النقد بأسره، فمن المحتمل حينئذ أن يتحول تحولا تاما ما يدور من مبادئ حول الأزمنة - حتى الحديثة - التي يلوح أنها درست درسا خيرا من غيرها كدور الثورة الفرنسية.
ولا يكتسب التاريخ صحة ظاهرة إلا بارتداده إلى الماضي مقدارا فمقدارا، وبما أن مفسري الوقائع القديمة قليلو العدد فيه إلى الغاية، فإنه لا مناص من قبول ما يقصون، ولا يمكن أن يجادل في بعض الأحاديث، كالتي دارت حول البلوبونيز مثلا، ما كان لهذا الدور مؤرخ واحد فقط: توسيديد.
ويجب لتفسير الحوادث التي يتألف منها التاريخ، ولا سيما تكوين الأحوال التي تنشأ عنها، أن يستعان بمناهج الاستقصاء التي تختلف اختلافا كبيرا عن المناهج التي اقتصر عليها المؤرخون زمنا طويلا، وقد خصصنا فصولا كثيرة من هذا الكتاب للبحث في هذه المناهج.
الفصل الثالث
مصادر الخطأ في التاريخ
ما يمكن تبصره وما لا يمكن
اليوم يعترف المؤرخون - على العموم - بما لمناهج البحث القديمة من قيمة ضعيفة، ومن ذلك ما قاله مسو سنيوبوس في كتاب لخص فيه دروسه التي ألقاها في السربون: «تقوم مبادئ التاريخ على ما لم نشاهد من وقائع موصوفة بعبارات لا تدع لنا عرضها عرضا دقيقا.»
وما كان الأمر ليظهر غير هذا، فبما أن الملاحظات التي انتفع بها في الماضي مجردة من قواعد قويمة فإنها لا تدل على غير آراء مؤلفيها.
ويجب أن تنمو روح النقد في التاريخ قبل أن تقوم الأغاليط القديمة، ولا سيما تعيين ما يكون عاما في الأحوال الخاصة.
والأمر كما لاحظ فستل دوكولنج القائل: «ولكن روح النقد منذ 150 سنة كانت تقوم في الغالب على عادة الحكم في الأمور القديمة من حيث احتمال وقوعها، أي من حيث مطابقتها لما نراه ممكنا أو قريبا من الصدق، وإذا أدركت روح النقد على هذا الوجه لم تكن أمرا غير الرأي الشخصي أو العصري القائم مقام رأي الماضي الحقيقي، فحكم وفق الشعور ومنطق الأشياء اللذين لم يوضعا قط وفق المنطق المطلق، ولا وفق عادات الشعور العصري.»
ولا يوجد غير عدد قليل جدا من ذوي النفوس النفاذة بعض الشيء من يستطيع أن يفسر الوقائع، أي: أن يميز الأفكار تحت الكلمات والمشاعر تحت النصوص، وأن يفرق بين العوامل الحقيقية للحوادث التي يقصها كثير من المؤلفين من غير أن يدركوها، وقد جدد فستل دوكولنج الذي استشهدت به جميع تاريخ العصر الميروفنجي مع بعض الخلاصات القصيرة التي لم يبصر أسلافه شيئا منها على الإطلاق. •••
وبدأ المؤرخون المعاصرون يدركون ضعف قيمة الوثائق التي كتب التاريخ استنادا إليها.
أجل، ظلت سذاجتهم عظيمة، ولكن من غير أن تساوي سذاجة أسلافهم في القرون الوسطى حين كانوا يعدون من الحقائق جميع الأوهام التي يروونها، وقد كان عندهم من الاستعداد العجيب ما يستخرجون به من أي نص أبعد التفاسير من الحقيقة وما يبينون به أدعى المستحيلات إلى الدهش.
وقد كان حتى القرن السادس عشر يعلم كحقيقة لا جدال فيها كون الفرنسيين من نسل فرنكوس بن هكتور، الذي فر من حصار تروادة، وكون اسم عاصمة فرنسة من اسم باريس بن بريام، وكون الترواديين بنوا المدينة الفرنسية تروا، وأن محمدا كان كردينالا فغضب لعدم انتخابه بابا؛ فصار ملحدا وأقام دينا جديدا، وأن يهوذا كان قد قتل أباه ليتزوج أمه، إلخ.
ومن الواضح أننا أقل سذاجة في الوقت الحاضر، ولكن مع بقاء العلم التاريخي سلبيا على الخصوص، ويدرك هذا العلم تقريبا أن من المتعذر حدوث بعض الأمور كما كان يقص خبرها، وذلك من غير أن يحسن معرفة الوجه الذي وقعت به. •••
ومهما تكن درجة المؤرخ من اللقانة فإنه يصعب عليه أن يتخلص من العوامل الناشئة عن عقائده السياسية والدينية، ولا سيما المشاعر الصادرة عن البيئة التي يعيش فيها، فالمؤرخ يختار من الوقائع غالبا ما يلوح أنه يسوغ به أفكاره وأهواءه وعقائده حاذفا غيره.
قال سنيوبوس أيضا: «والواقع أنه يقوم بين النص والنفس الميالة التي تقرؤه صراع فظيع، وتأبى النفس إدراك ما يناقض رأيها، والنتيجة العادية لهذا الصراع أن تخضع النفس لصراحة النص، ولكن الذي يقع هو أن النص يذعن وينثني ويرضى بالرأي المبتسر الذي يساور النفس ...»
حتى إن الوقائع المودعة في الوثائق لو كانت صحيحة جدا لم يتألف منها غير مواد لبناء يجب أن يقام فيما بعد، وتكون الاستعلامات الكثيرة عن الحوادث التاريخية الحديثة نسبيا متناقضة، ومن المحتمل أن يكتشف فيها دائما تسويغا لرأي ما، ولا شيء في التاريخ أسهل من تأييد رأي مخالف لذلك، وهذا ما يكاد يتعذر في العلوم، حيث لا قيمة لقضية إلا عند تسويغها بالملاحظة أو التجربة.
قال مسيو بواسيه: «لا يرغب علماؤنا الشبان أن يزعجوا أنفسهم كثيرا بتكرار ما قيل قبلهم بعد أن يقضوا أياما كثيرة في المكتبات ومخازن المستندات مطالعين الأوراق القديمة، وهم يرون أن طرفة الآراء شاهدة على عمق الأبحاث، فيحاولون إعادة الاعتبار إلى من حكم عليهم من الأعيان، جاعلين فخرهم في تبديل الآراء الدارجة.»
وهكذا أمكن أن يقرر كون نيرون خير الأبناء وأكثر الأباطرة إنسانية، وكون روبسبير رجلا كثير الحلم نزوعا إلى جعل الناس يعتنقون أفكاره بالإقناع، وهكذا يحاول أساتذة شبان أيضا أن يثبتوا لنا كون جان درك ولويس الرابع عشر لم يتصفا بأية مزية كانت، وأن دبلكس لم يكن غير دسيس خسيس، إلخ، ويسعى آخرون أن يثبتوا لنا كون شكسبير وكرني ولارشفوكلد قد اقتبسوا أفكار كتاب سابقين فقط. •••
واليوم نرى ببطء - ولكن مع اطمئنان - كون دراسة التاريخ تصبح من عمل العلماء، مع أنها كانت من عمل الأدباء فقط، ويقوم التدقيق التاريخي مقام أهواء الخيال.
والعلم هو الذي يسوغ على الخصوص ترك الأفكار الغريبة المنتشرة في زمن روسو عن صلاح الإنسان صلاحا أصليا، وعن كمال المجتمعات الفطرية، أي ترك هذه الأفكار التي وجهت محركي الثورة الفرنسية.
وقد استطاع علم المستحاثات وعلم وصف الإنسان برسمهما تطور الإنسان جسما وذهنا أن يستبدلا بالمباحث الأدبية وثائق صادقة يتلاشى أمامها جميع تفصيلات رجال البيان.
وعاد لا يبقى للمؤرخين حصرا غير حل النصوص والمخطوطات، وليس هذا عملا غير نافع تماما لا ريب، ولكن ما أشد شحوبه بجانب النتائج التي تسفر عنها استقصاءات العلم الحديث!
وفي التاريخ حل مبدأ التطور التدريجي محل التحولات المتقطعة والمفاجئة، والأمر كما لاحظه مسيو سنيوبوس حول الزمن المعروف بعصر النهضة، فقد قال: «إذا كانت قد وجدت نهضة في الفنون لم يمكن وقوعها في غير عهد شارلمان في القرن التاسع، لا في القرن السادس عشر، فقد جدد المأثور في القرن التاسع وعاد غير منقطع، ولا تبعث الفنون والآداب، ولكنها تواصل تطورها، حتى إن فن البناء بلغ أعلى مراتب إبداعه وقوته في فرنسة في أوائل القرن الثالث عشر مع الفن القوطي.» •••
وتسيطر على الحادثات العلمية سنن وثيقة تجعل إدراك الأمور قبل وقوعها أمرا سهلا، وهكذا يمكن أن تعين حركة السيارات ومحلها في زمن ما، وأن يعين تاريخ الكسوف الصحيح، إلخ.
ولا يعرف التاريخ مثل هذا الإحكام، فالعلل التي توجب الحوادث هي من الكثرة - ومن البعد أحيانا - ما يحظر عليها معه مثل تلك البصائر حول علم الفلك.
ومعرفة المستقبل، وإن كانت تتعذر في الأحوال الخاصة التي تتكرر على وجه واحد نادرا، تصبح سهلة نسبيا حول الأحوال الجمعية، ومن ذلك أن علم الإحصار ولد من تطبيق هذا المبدأ، وتبدو نبوءاته من الصحة كنبوءات علم الفلك، أجل، لا يمكن تعيين الوقت الذي يموت فيه فرد من جيل ما، غير أن وضع جداول عن الوفيات يؤدي إلى تحديد عدد من يموتون من أفراد ذلك الجيل في كل سنة، وفي الغالب يسمح انتظام بعض الحوادث الاجتماعية بأن ينبأ بها منذ إحلال البصائر عن الجمع محل البصائر عن الفرد.
وإذا عدوت تلك البصائر عن الجمع وجدت من البصائر ما يمكن وصفه بالبصائر النفسية، فلم تكن هنالك ضرورة مثلا إلى أن يكون الإنسان ذا نظر ثاقب ليرى نمو شبح بونابارت وراء الاضطرابات الثورية، ولا ليحس أن وعيد الاشتراكيين في سنة 1848 أدى إلى ظهور دكتاتور جديد استقبل مثل منقذ.
وهذه التقديرات النفسية سهلة نسبيا، ومنها ما صغته بنفسي قبل الحرب عندما قلت مؤكدا في كتابي «روح السياسة»: إن حربنا القادمة مع ألمانية هي - خلافا لجميع ما ينادي به دعاة الإنسانية - «ستكون صراعا فاقد الرحمة، فتخرب به ولايات بأسرها، فلا يبقى قائما فيها شجر ولا حجر ولا بشر.» وفي كتاب آخر أبديت الأسباب التي استندت إليها في هذه النبوءة. •••
وفي بعض الأحيان يمكن أن تبصر الحوادث الخاصة قبل وقوعها إذا ما كانت نتيجة محتملة لحوادث سابقة، فلو كان لدى قتلة قيصر حس تاريخي أدق مما عندهم لأدركوا أن القيصرية لم تكن من صنع قيصر، بل نتيجة منازعات اجتماعية وحروب أهلية ومقاتل أمر بها سيلا وماريوس، وسلسلة من الاضطرابات كانت تحمل كل مواطن أن يرجو ضمان حياة هادئة له.
وإذ أعمت رجال السياسة أوهامهم السياسية فإنهم يبدون على العموم مجردين كثيرا من مزية البصر في الأمور، ولو كان ذلك حول أقرب الحوادث، وإذ لم يدرك المعتقد العالم إلا من خلال روح معتقده السياسي أو الديني المشوه فإنه يعيش ضمن دائرة خيالية ويظل غريبا عن الحقائق.
وأربعة من خمسة ملوك حكموا في فرنسة في غضون القرن التاسع عشر ذهبوا ضحية عدم التبصر الناشئ عن أغاليط نفسية.
ويتألف من معظم الحوادث العظيمة في غضون الحرب الأخيرة، كمعركة المارن، والتدخل الأمريكي، والخيانة الروسية، والانكسار الألماني، وزعامة الولايات المتحدة، سلسلة أمور لم تخطر ببال إنسان، فغير المنتظر في هذا الدور هو الذي سيطر على التاريخ.
الفصل الرابع
روح النقد في التاريخ
رأينا في الفصول السابقة مقدار الارتياب في تفسير الوقائع التاريخية القديم، حتى التي تعد أكثرها شهرة.
وكان يجب للحكم فيها في بدء الأمر أن تحذف العوامل القومية والدينية والسياسية التي تعين معظم الأحكام حذفا تاما، وما كتب في مختلف البلدان من مؤلفات حول الحوادث نفسها يشتمل - بفعل سلطان تلك العوامل - على تقديرات مختلفة أشد الاختلاف.
وفي المؤلفين تؤثر المبتسرات
1
الدينية على الخصوص وإن اعتقدوا تخلصهم منها، وهكذا انتهى كثير من المؤرخين مثلا إلى آراء شديدة الخطأ حول قيمة الحضارة الإسلامية، ويظل التحامل على العالم الإسلامي السابق مستعصيا حتى الوقت الحاضر، فيحتاج تاريخ القرون الوسطى إلى تجديد في جميع أجزائه الخاصة بانتقال الحضارة القديمة إلى الأزمنة الحديثة.
ويهدف مؤرخون كثير إلى التخلص من التفاسير الشخصية، فيريدون تأليف حوادث زمن ما تأليفا مجددا بسلسلة من البطاقات مشتملة على مقتطفات من الوثائق، أي الشهادات، وسنبين في فصل آت نقص هذه الوسيلة في الاستقصاء. •••
وكلما كملت مناهج دراسة التاريخ شوهد تعيين معظم الحوادث بسلسلة من العلل الخفية، ولا يحدث التاريخ عنها مطلقا، مع أنها هي التي توجد التاريخ.
وينشأ أحد مصادر الخطأ الكبرى في تفسير الحوادث الماضية عن محاولة المؤلفين إيضاح الوقائع بأفكار الحاضر بدلا من تقديرها وفق أهواء كل زمن ومشاعره المتقابلة.
وليس العمل سهلا، فيجب مثلا أن يوصل إلى إدراك روح المؤمن المسيطر عليه اعتقاده، وإدراك كون روح البارون الإقطاعي المهددة حياته دائما غير مشابهة لروحنا، وإدراك روح الثوري المنوم بأحلامه، إلخ. وكيف يكون تأثر الرجل في أيامنا بالمناقشات حول العناية الربانية التي هزت الفرنسيين المثقفين هزا عنيفا في زمن الينسنيوسية؟ وكيف تنتحل حال رجال القرون الوسطى ورجال الهول النفسية؟ لا ريب في كون العالم المحقق يشعر في مكتبه بكثير من المشقة حتى يبصر الضرورات التي حملت سيلا وماريوس على إهلاك ألوف المواطنين من الرومان، وحملت قيصر على عبور نهر الروبيكون، وشارل التاسع على معاناة إرادة الشعب التي تعد سببا حقيقيا لمذبحة السان برتلمي.
ويجب لحسن إدراك معنى هذا الحادث التاريخي أو ذاك أن يوصل إلى إحياء ما يمكن أن يدعى «روح الزمن»، هذه الحساسية المتقلبة إلى الغاية والمؤثرة حينا ثم الدارسة المخلوعة حينا آخر.
وتتحول فرنسا في الدور القصير الممتد بين آخر عهد لويس السادس عشر وإعادة الملكية تحولا أعظم مما في عهدي لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر. •••
واليوم يمكن أن تبين، على الرغم من كل تقدم علمي حديث، درجة تجرد المناهج المتخذة لتعيين الحقائق التاريخية من روح النقد، وذلك بالاستقصاء الطويل الغالي الذي أمر به الريشتاغ، وصولا إلى معرفة علل هزيمة الألمان، وكانت اللجنة التي فوض إليها هذا الاستقصاء مؤلفة من رجال فضلاء، وقد عمل هؤلاء ثمانية أعوام وأنفقوا مبالغ طائلة، فكانت النتيجة التي وصل إليها هي: «أنه يجب أن تعزى علل الهزيمة إلى تفوق الحلفاء الحربي والاقتصادي، وأنه لا يمكن أن ينسب أي خطأ إلى قادة الألمان.»
إن هذه النتيجة مختلف فيها؛ لأنه إذا كان من الصعوبة الشديدة أن يصاغ رأي قاطع عن علل هزيمة الألمان فإن من الممكن أن يلاحظ صدورها عن عامل نفسي أساسي - لا ريب - غفلت عنه اللجنة، وهو ضياع الثقة بالنصر النهائي. وكان ضياع الثقة هذا ينشأ عن نقص بصيرة إمبراطور ألمانية الذي أدت أغاليطه النفسية إلى تدخل جيش أمريكي يزيد كل يوم، وكان الشأن الحربي لهذا الجيش الذي ارتجل على عجل في حكم المعدوم، ولكنه كان بالغ النفوذ، فلم يلبث أن قطع أمل مدنيي الألمان والجيش الألماني من نيل نصر على مثل هذا الجمع، فغلبت ألمانية في آخر الأمر بعوامل نفسية أكثر تأثيرا من المدافع. •••
ومهما يبق من نقص في المناهج التاريخية التي تشتق منها أحكامنا فإنها حققت تقدما جديرا بالذكر مع ذلك، ويشاهد هذا التقدم عند المقابلة بين الآراء الحاضرة في بعض النظم كالإقطاع مثلا، وما كان يصاغ في موضوعه من آراء منذ نحو نصف قرن من قبل كتاب كثيرين، ولا سيما المؤرخ المشهور غيزو، فقد قال: «لم تشعر الشعوب بغير الحب والشكر حينما كانت تقام الحصون الإقطاعية، فهي لم تبن ضدها بل من أجلها. وكانت هذه الحصون مركزا عاليا يقوم بالحراسة فيه حماة يترقبون العدو، وكانت مستودعا أمينا لمحصولاتها وأموالها، وكانت إذا ما وقعت غارات ملجأ لنسائها وأولادها ولأنفسها. والحق أن كل حصن قوي كان ينطوي على سلامة كورة.
وعادت الأجيال الحديثة لا تدري ما الخطر ولا الحاجة إلى النجاة.»
إذن: كان النظام الإقطاعي ضرورة في زمن ظهوره، أي في زمن الغزوات، وكانت الخدم التي يقوم بها تسوغ التكاليف المفروضة مبادلة، ولم يمقت هذا النظام إلا بعد أن صار غير نافع، فزعم أنه يحافظ على امتيازات لم يبق ما يسوغها. وقد جاء زمن أنقذ الإقطاع فيه فرنسة التي تخلت عنها السلطة المركزية، ثم جاء زمن عاد الإقطاع لا ينفع فيه لغير البغي على البلد، وهذا الذي جعله ممقوتا. •••
والتاريخ، فيما عدا الحوادث الصغيرة التي يختلف تفسيرها بكل اتجاه جديد، يتألف من آراء عامة، لا تلبث أن تستقر حول كل دور، فهذه الآراء العامة هي التي تعرفنا الكتب بها.
وقد تنوعت هذه الآراء كثيرا لفقدان روح النقد، حتى إنه يرى عند عدم النظر إلى غير الحوادث التي وقعت منذ 150 سنة، أن هذه الحوادث أدت إلى أكثر التفاسير تناقضا حول تكوينها ونتائجها. ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما جاء في تاريخ الثورة الفرنسية التي عدت في ثلاثة أرباع قرن حادثا عجيبا لإصلاحها جميع شئون الحياة، فقد حررت فرنسة من نير الطغاة، وألغت الامتيازات، ووضعت من المبادئ الجديدة ما يكون به مختلف الشعوب سعيدا باعتناقها، وصارت المذاهب الثورية دستور العالم بفضل حرب دامت عشرين عاما في طول أوربة وعرضها.
وقد بقي هذا المبدأ، الديني حقا، عن دور من أكثر أدوار التاريخ شؤما، ثابتا لا يتزعزع، إلى أن أوجبت مناهج النقد الدقيق التي حمل لواءها مؤرخون كثير، ولا سيما تين، استبدال الحقيقة بالأوهام، وهنالك رئي أن الامتيازات التي ألغتها الثورة الفرنسية كانت سائرة نحو الزوال قبل حدوثها، وأن المساواة أمام القانون كانت توشك أن تفرض في كل مكان، وهناك رئي أيضا مقدار الوهم في الإكليل المجيد الذي كان المؤرخون الروائيون يتوجون به هذا الدور، فقد رد «غيلان العهد» إلى نسب عادلة وظهر المستوى وضيعا جدا، بعد أن ثبت أن أوهامهم كانت كبيرة وأن أحكامهم كانت حقيرة.
أجل إن الثورة الفرنسية أوجدت مساواة في حقوق المواطنين لا عهد للماضي بمثلها، غير أنها قضت على كل استقلال في الحياة الإقليمية البالغة النشاط فيما سلف، فصار لا يتصور اليوم وجود مجلس للمديرية أو وجود مجلس عام مثلا يقاوم الأوامر الصادرة عن وزارة الداخلية، وكانت مقاومة مختلف البرلمانات للأوامر الملكية - ولا سيما رفض الموافقة على ضرائب جديدة - من عادات العهد السابق اليومية، ويكفي للدلالة على ذلك أن يذكر من بين ألف مثال وضع برلمان غرينوبل الذي رفض الخضوع للمراسيم الملكية. وإليك العبارة التي ذكرت بها إحدى الصحف هذا الحادث منذ عهد قريب:
حدث في سنة 1760 أن حمل محافظ دوفينه الكونت مرسيو بالقوة على تسجيل مرسوم ملكي يفرض ضرائب جديدة، وحدث في سنة 1763 أن جرؤ برلمان دوفينه على إقامة تظاهرات تجاه السلطة الملكية، وحدث في سنة 1786 أن رفض مجددا تسجيل مرسوم، وحدث في سنة 1787 أن دعت الحكومة أعيان الولاية إلى اجتماع لإحباط عمل البرلمان، فأعلن هذا البرلمان للملك وللأمة خيانة من يشترك في ذلك الاجتماع، فأبعد القضاة في سنة 1788، وكان سفرهم سببا لعصيان الأهلين، ويجتمع الأعيان في دار بلدية غرينوبل، ويقررون الاحتجاج على تعدي البلاط، ويطالبون بحفظ امتيازات البرلمان الدوفيني.
ويذعر البلاط فيرسل كتائب، وهنالك يقيم ممثلو الطبقات الثلاث بقلعة فيزيل التي تدخل في التاريخ.
ثم إن استقلال القضاء كان في العهد السابق أوسع بمراحل مما في الوقت الحاضر، ويمكن أن يحكم في هذا بالأمر الآتي الذي جاء في إحدى الصحف الكبرى، والقائل - على حسب تقرير وزير العدل مسيو راوول بيره - إنه تلقى في بضعة أشهر 8000 رسالة من رجال البرلمان يلتمسون فيها أوسمة أو ترقيا للقضاة.
ويذكر تحرير الفلاحين كإحدى النتائج الكبرى التي أسفرت عنها الثورة الفرنسية، ولكن مثل هذا التحرير قد تم من قبل حكومات ملكية في البلدان الأخرى، ومن ذلك أن لوحظ بحق كون حكومة فينه الإمبراطورية قد حققت تحرير الفلاحين هذا، وكونها جعلت التجارة والمواصلات عصرية في هنغارية، وفي أيامنا أتت رومانية مثل هذا التطور من غير أن تقع أية حركة ثورية.
وهل يكون للأمة عوض في تعجيل إصلاح، كان يحقق مع الزمن تحقيقا غريزيا، مما تكون قد عانته من عنف وتخريب نتيجة لثورة تهدف إلى إنجاز ذلك الإصلاح بسرعة؟ يتوقف على الجواب عن هذا السؤال ما يمكننا أن نصدر من أحكام حول الثورة الفرنسية وحول عصر الانقلابات التي تعد أصلا لها.
أجل إن الحماسة العمياء السابقة حول ذلك الدور دامت زمنا طويلا، ولكنها ضعفت في أيامنا كما يلوح، وتسوغ روح النقد استنباط معارف كثيرة من هذه الأزمة الكبرى، ولا سيما ما يجب على الأمم الراغبة في اجتناب الثورات من أن تلائم بالتدريج مقتضيات الزمن الجديدة التي تنشأ عن تحولات العالم المتصلة. •••
وتساعد الملاحظات السابقة على بيان مقدار ما تتحول به مبادئ التاريخ القديمة بظهور روح النقد.
فبينا كان مؤرخو الماضي يفسرون الحوادث على حسب مشاعرهم الشخصية ومعتقدات زمانهم، يعتنق مؤرخو الوقت الحاضر بالتدريج مبدأ الضرورات التي تقيد العالم، وسواء أكانت هذه الضرورات حربية أم دينية أم اقتصادية فإنها تختلف باختلاف الزمن، فيقوم عمل المؤرخ على تعيين الضرورات التي تؤثر في الأمم في مختلف مراحل تطورها.
وتمهد مصاعب تلك التفسيرات بعض التمهيد بفضل الوثائق التي تلقي شيئا من اليقين على حوادث الماضي، فالكتب الحجرية كالمباني والتماثيل والخطوط، وكذلك المؤلفات التي يفترض أنها وليدة الخيال الخالص، كالأقاصيص والروايات والأحاديث زاخرة بالمعارف الدقيقة، فقد صدر التاريخ الصحيح عن وثائق لم يبحث عنه فيها.
الباب الثالث
إصلاحات التاريخ العلمية
الفصل الأول
أشكال التطور الاجتماعي العامة
تاريخ الأمم حافل بالأحوال العرضية التي لا يستطيع عقل أن يبصرها، ولكن نظمها وعاداتها تعاني تطورا منتظما انتظاما كافيا، وبما أنني كنت قد درسته في كتاب آخر
1
فإنني أكتفي بإحالة القارئ عليه، ففيه يرى كيف ظهر ونما التملك والأسرة والحق والأخلاق ومختلف عناصر الحياة الاجتماعية.
ومعرفة ماضي البشرية حديثة، وبلغ من جهله في زمن الثورة الفرنسية ما كان يقترح معه اتخاذ المجتمعات الابتدائية قدوة.
وقد صححت مراحل التطور الاجتماعي التي قطعت بالتتابع وفق مناهج متنوعة، ومن أكثر هذه المناهج فعلا دراسة الأمم الوحشية التي بلغت وجوها من التطور مختلفة.
ومع ذلك فإنه يمكن أن يبصر بعض أشكال ابتدائية للبشرية بدراسة الولد في السنين الأولى من حياته، فهذا المتمدن المقبل إذ يكرر متعاقب المراحل لحياة الأجداد الطويلة، لا يكون في البداءة سوى موجود مندفع يجهل الرحمة والحذر ومحبة الآخرين، ولا يعرف غير قانون الأقوى، ولا يعلم جميع الصفات المفروضة على الإنسان بتكديس من الجهود المكررة في قرون كثيرة، وهو يسير بقسوة الهمجي، وضعفه وحده هو الذي يحول دون ظهوره خطرا.
وإذا نظر إلى الولد من الناحية الذهنية جد أقرب إلى الأجداد في العصر الحجري منه إلى آبائه الأدنين، ويظل ذكاؤه ابتدائيا زمنا طويلا، ولا تقوم معارفه في بدء الأمر على غير تسلسل غليظ شأن معارف الفطري. •••
ولا يتم تقدم البشرية في غضون الأجيال إلا بتكديس بطيء من التحولات المختلفة باختلاف شروط الحياة، ومن ذلك أن الأهلين الذين يجهلون الزراعة ولا يعيشون بغير ما ينتجه صيدهم، كانوا يرون من الواجب الطبيعي أن يقتلوا وأن يأكلوا أحيانا من يهرم من أقربائهم، اتباعا لسير العشيرة غير المنقطع.
ومن بين مناهج تصحيح الماضي تبرز الأحاديث والأقاصيص أيضا، أي تبرز أولى رسوم التاريخ، فهي تكشف عن الضرورات التي عينت العادات والنظم، ولا سيما الأمومة وتعدد الأزواج من الذكور، وإذا ما قرأنا في إحدى الحماسيات الهندية كون دروبدي الحسناء قد تزوجت أبناء الملك باندو الخمسة، أمكننا أن نستخرج من هذا أن عدد النساء في البلد الذي تمت فيه هذه الاقترانات أصبح أقل من عدد الرجال، كما يلاحظ هذا حتى الآن في بقاع كثيرة منعزلة، ككشمير مثلا.
ومن الطبيعي أن يختلف الزمن اللازم لتحقيق أحد التحولات الاجتماعية بالتطور باختلاف نفسية كل أمة، فعند بعضها تجد دور الحجر المنحوت - الذي هو صفة أوائل ما قبل التاريخ - قد امتد إلى أيامنا، وقد لقيت بعض بقايا هذا الدور في أثناء رحلاتي في الهند على الخصوص، فالإنسان إذا طاف في شبه الجزيرة الكبرى هذه أمكنه أن يرى انتشار أدوار الإنسانية المتعاقبة المترجحة بين عصر الكهوف وعصر الهاتف.
وكانت مراحل التطور المدني الأولى بعيدة المدى إلى الغاية، فلم تجاوز إلا في زمن طويل جدا، وكان لا بد للإنسان الابتدائي أن يكدس جهودا قبل أن يحقق تقدما كثير البساطة ظاهرا، كصنع النار، وحرث الأرض وزرعها، وجمع بضع كلمات يتألف منها رسم لغة، إلخ، فلما تمت الخطوات الأولى سار التقدم سيرا ثابتا سريعا. ومع ذلك فإن الزمن الضروري لبلوغ الإنسان الابتدائي درجة أبسط الحضارات يقدر بمدة تترجح بين خمسين ألف سنة ومائة ألف سنة.
وصار التقدم بالغ السرعة في زمن بالغ الجدة فقط، فقد كان القرن الأخيرة شاهدا في مختلف فروع المعرفة على اكتشافات أعلى بمراحل من جميع الاكتشافات التي تمت في أثناء تعاقب الأجيال التي سبقته ببطء.
2
وما وقع من تحقيق عن تطور الأمم ظل مجهولا زمنا طويلا، فلم يزل مؤرخون من ذوي الفضل، كرينان، يتصورون إلى وقت قريب كون الأغارقة ظهروا في التاريخ حائزين بغتة حضارة رفيعة، واليوم نعلم أن أمم كلدة ومصر كانت قبل الأغارقة بزمن طويل، قد أنضجت على مهل كل تقدم ظهرت الحضارة الإغريقية إزهارا له. والحق أنه كان لا بد لإعداد هذه الحضارة من جهود أربعة آلاف سنة أو خمسة آلاف سنة موزعة بين سهول كلدة وضفاف النيل. وكانت الثقافة اليونانية في الأزمنة القريبة من بركلس تمثل حاصل حضارات كثيرة صهرت في واحدة، ففي آسية وشمال إفريقية - لا في بلاد اليونان - كان أصل الحضارة الإغريقية إذن.
ويصبح تطور إحدى الأمم رجعيا بعد أن كان تقدميا، فبهذا الرجوع تبصر جميع الحضارات ختام دورتها.
وتتجلى معلولات مثل ذلك الانحطاط لدى مختلف الأمم - ولا سيما المعاصرون - بالعود من الحياة الفردية إلى الحياة الجمعية، والواقع أن الانتقال من حال الهمج الفطريين إلى الحياة الفردية كان من تقدم البشرية، فالحضارة تميل إلى الزوال إذا ما عاد الإنسان إلى الحال الألبية، أي: إذا ما خضع لعوامل العدد مقدارا فمقدارا، وتعد الاشتراكية والشيوعية التي هي طورها الأخير مظهرين خالصين لهذا الميل الرجعي. •••
وعلى العموم تتطور الأمم تطورا يلائم الضرورات التي توجبها الأحوال، وعندما يصبح مزاجها شديد المحافظة فيحول دون تطورها بسرعة كافية لا تتم الملاءمة الضرورية إلا بثورة عنيفة، ومن ذلك حال الثورة الفرنسية التي ألغت آخر امتيازات الأشراف بعد أن عادت لا تسوغها أية خدمة خاصة.
أجل، إن الثورات تغير حال الشعب الحاضرة، ولكن بما أنها لا تستطيع مس الحال الماضية فإن هذا الماضي لا يلبث أن يسترد نفوذه، ويدل تاريخ الانقلابات المتنوعة التي وقعت في فرنسة في القرن الذي عقب الثورة الكبرى على سلطان هذا النفوذ، أي: وطأة القوى الموروثة اللاشعورية التي توجه المشاعر ومن ثم توجه السير.
وتدل الثورة الروسية مرة أخرى على أن المبادئ، التي يتم الانقلاب الاجتماعي باسمها، تعود غير مرعية من قبل الثوريين الظافرين، وهكذا انتهى الشيوعيون، الذين كانوا يريدون جعل الملك جمعيا، إلى إعادة الملك الفردي، وقد انتهوا أيضا إلى الحكم بأساليب الشرطة الإرهابية التي كان يطبقها القياصرة السابقون. •••
ومن الطبيعي أن تبدو شروط العيش المادية التي تخضع لها المجتمعات بين العوامل التي تعين تطور هذه المجتمعات، ومن الطبيعي أن تختلف أساليب العيش باختلاف الأمم الصائدة والزارعة والتاجرة، إلخ.
وكان يلوح عدم استحقاق هذا الأمر الجلي الذي لا جدال فيه لأي إثبات، ومع ذلك فقد انتفع به في وضع المذهب المنعوت بالمادية التاريخية لقيامه على تفسير التاريخ تفسيرا اقتصاديا حصرا، فبعد أن قرر واضعو هذا المذهب - كما صنع غير مرة - أن الحوادث الاقتصادية تفيد الوقائع كثيرا، قالوا مؤكدين إن جميع حوادث التاريخ المهمة تشتق من النظام الاقتصادي لحينه، فالحياة الاقتصادية تفسر الحياة السياسية، حتى الأفكار والمعتقدات.
وقد أدت هذه المبادئ المبسطة التي كان ماركس رسولها الأكبر إلى ديانة جديدة، إلى الشيوعية، وبما أن المذهب الشيوعي يقيم الإدارة الحكومية مقام الجهد الفردي فإنه يعطل كل تقدم، وما تتمتع به الولايات المتحدة التي يقوم الجهد الفردي فيها مقام الإدارة الحكومية خلافا لذلك من رخاء يدل على ما لتطبيق هذين المبدأين من نتائج مختلفة.
ومن الطبيعي أن تظهر الأحوال الاقتصادية التي يعلق مذهب المادية التاريخية أهمية كبيرة عليها بين علل تطور الأمم، ولكن من المستبعد أن تكون أهمها.
وكثير من العوامل الأخرى ما يمثل دورا أساسيا في بعض الأزمنة، كمبدأ القوميات الذي قام عليه إصلاح أوربة بعد الحرب الأخيرة، ومبدأ الوحدة الذي حفز كثيرا من الدول الصغيرة إلى إقامة إمبراطوريات كبيرة.
ولو وجب أن تعزى الحوادث التاريخية إلى علة واحدة كما يصنع أنصار الماركسية اليوم، لأمكن أن يقال إن بنيان الأمم الفزيولوجي - أي: العرق - أهم من العامل الاقتصادي، ويكفي لاعتقاد ذلك أن يرى أن العوامل الاقتصادية عينها تؤثر تأثيرا مختلفا في عروق متباينة، كالبيض والزنوج، إلخ.
وفي النظريات الشيوعية تطرح أوضح الوقائع عندما يلوح أنها مناقضة للمذهب، ومن ذلك أن كارل ماركس لا يؤمن بغير سلطان الجماعات، مع أن العالم لا يتقدم إلا بالأخيار، فالبخار والكهربا وجميع الاكتشافات التي حولت حياة الأمم أمور تمت بعمل أفراد أقوياء، لا بعمل الجماعات على الإطلاق.
وبما أنه لا يمكن أن يدرس في هذا الكتاب مختلف المناهج التي يصحح بها الماضي تصحيحا صادقا، فإننا نقتصر على درس المناهج التي تزود فلسفة التاريخ بأسس علمية حقيقية.
الفصل الثاني
تعيين الحوادث بالشهادة
يقوم التاريخ والعدل على ما تمنحه الشهادة من أهمية.
وإلى هذه السنوات الأخيرة، أي: إلى أن أتت المباحث النفسية الخاصة لتلقي نورا غير منتظر على هذا الموضوع، لم تكن قيمة الشهادات ليجادل فيها مطلقا عند افتراض صدورها عن حسن نية، وكان من القاعدة أن يعتقد كلام الشاهد السليم القلب الذي يقص أمورا رآها، أو يروي أمورا عن أناس كانوا قد رأوها، ولم لا يصدق الراوي إذا كان خاليا من الغرض ولم يستحوذ عليه هوى ديني أو سياسي؟ ولم لا يروي الرجل الأمين الذي يقص حادثة شاهدها خبرها بإخلاص؟ أفلا ينطوي الشك في مثل هذه المعارف ذات مرة على عدول عن كتابة التاريخ؟
جاءت مباحث علم النفس التجربي الحديثة لتقضي قضاء تاما على هذه الثقة المتأصلة حول قيمة الشهادة، وقد أثبتت هذه المباحث أن من المتعذر تقريبا نيل رواية غير زاخرة بالخطأ عن أبسط الوقائع التي لا يمازجها أي هوى أو غرض، فالخطأ لا الصواب هو الذي يؤلف القاعدة، ويكون هذا الخطأ خطرا بنسبة اقترافه في الغالب عن حسن نية تامة. وقام الدكتوران إ. برنهيم وبورت وغيرهما بتجارب بارزة حول هذا الموضوع، فرأى الدكتور برنهيم أن من الصعب إلى الغاية نيل رواية صادقة تقريبا عن حادث مشهود.
وليست الشهادات الإجماعية أصلح من تلك، فهي تدل عموما على نتيجة تلقين جماعي صادر عن أحد الناظرين.
وأكثر التجارب إمتاعا حول هذا الموضوع هو ما أتاه الأستاذ في جامعة جنيف: كلا باريد، فلم يكن الأشخاص الذين خضعوا للتجارب في هذه المرة أفرادا أيا كانوا، بل تلاميذ أذكياء جدا، ومع ذلك فإن الشهادات التي حصل عليها تثير الأسى تماما، وكان من أبرز الأسئلة التي طرحت على الطلبة ما يأتي:
أتوجد نافذة داخلية مطلة على مجاز الجامعة واقعة على الشمال حين الدخول ومواجهة لنافذة غرفة البواب؟
أنكرت معرفة هذه النافذة التي كان التلاميذ يمرون أمامها كل يوم من قبل أربعة وأربعين طالبا بين أربعة وخمسين.
وإلى ذلك أضاف المؤلف قوله: «توجب الشهادة الجماعية التي هي من هذا النوع شيئا من القلق واليأس، وذلك أنه إذا كان احتمال الصدق حول أمر مشهود غير متناسب مع عدد الشهود الذين يؤكدون وقوعه، هؤلاء الشهود الاعتياديين الذين سئلوا في أحوال عادية عن وجود شيء اعتيادي، هؤلاء الشهود الذين وجدوا في مكان مألوف لديهم، فأي مقياس للصدق يبقى؟
ونتيجة مثل تلك تثبت إثباتا ساطعا إمكان وجود الحق بجانب فئة قليلة تجاه فئة كثيرة في بعض الأحوال، لا من حيث كون قيمة الشهادة غير متناسبة مع عدد الشهود فقط.
وهنا يسأل: هل القاعدة ألا تعرف الأشياء الفاقدة النفع المحيطة بنا، وهل من المصادفة وحدها - وعلى استثناء - أن تترك هذه الأشياء أثرا على لوح ذاكرتنا الحساس؟ ...»
ولهذا المؤلف ملاحظات أخرى تدل على أن الأمر الاستثنائي لا يحفظ أحسن مما تحفظ الأمور اليومية، ومن الواضح أن من غير الاعتيادي تماما أن يوغل رجل مقنع لابس ثوبا غريبا ويقفز في المدرج حيث يلقي أستاذ درسه، فالدكتور كلاباريد الذي نظم هذا المنظر من غير أن يخبر به أحدا، طلب من التلاميذ أن يقدموا خطيا سلسلة من الأجوبة في وصف ذاك الرجل، وكان الخطأ الذي اقترف في ذلك عظيما، ومن ذلك أن أشار الشهود إلى جزئيات في الثوب غير موجودة، كالجزمة
1
الكبيرة والسروال ذي الترابيع، إلخ.
ثم أدخل بعض التلاميذ إلى بهو حيث كان عدد من المنكرين الشديدي التباين بلحى وغير لحى وأنوف قنو وأنوف قعو،
2
إلخ، فكان يظهر بينهم ذلك الرجل الذي برز بغتة في ذلك المدرج، فلم يعرفه غير ستة نظار، ولكن بتردد، من بين ثلاثة وعشرين.
ومما لا ريب فيه أنه كان يجتنب في جميع المسائل المطروحة، وهو ما يصنعه قضاة التحقيق على قلة تلك التي يمكن أن يلقن بها الشاهد، فالسؤال عن أن شعر المتهم لم يكن أشقر هو غير السؤال عن لون شعره فقط. •••
ومن المباحث السابقة استخلص مسيو كلاباريد نتائج كثيرة، وإليك خلاصتها: «كلما قل تذكر حادث عظم الميل الجماعي إلى الشهادة حوله.» «والذي يحفز الشاهد على الجواب هو احتمال وجود الشيء أكثر من جلاء تذكره.» «وبجانب الميل إلى إنكار ما هو موجود يوجد ميل إلى توكيد ما هو غير موجود، وهل فصل هذا كذلك أيضا؟»
ودقة الشاهد في مسألة لا تدل على صدقه في مسائل أخرى، والعكس هو الواقع.
قال كلاباريد أيضا: «إذا ثبت أن شاهدا أدى جوابا صائبا كان احتمال صواب الأجوبة الأخرى ضعيفا جدا، ولكن هذا الاحتمال يكون أضعف من ذلك أيضا إذا ما أدى جوابين صائبين، ويظهر أنه يوجد للقدرة على الشهادة حد طبيعي لا يستطيع متوسط الأفراد أن يجاوزه، شأن القدرة على القفز عاليا مثلا ... وبثلاثة أجوبة صائبة من سبعة يلوح بلوغ شاهد متوسط حد قدرته على الشهادة الصحيحة.» «وفي الشهادة الجماعية ليس الجواب الصائل هو ما يبلغه دائما معظم الأصوات النسبي.» «ويسلم المؤرخون بأن اتفاق كثير من الشهود المستقلين دليل على الصدق، وعلى العكس تدل تجارب علم النفس على أن الاختلاف الفردي كلما عظم، وجد مع ذلك بعض المناحي التي تسيطر على روح جميع الأفراد، فيمكن أن يحدث اتفاق على الخطأ حتى لدى الشهود الذين يسير كل واحد منهم مستقلا عن الآخرين.» •••
وسيحمل أكثر من قارئ - مختارا - على عد تجارب المختبر التي قامت عليها التجارب السابقة خاصة، فيزعم أن الأمور في مجرى الحياة تسير على وجه آخر.
والأمر غير ذلك، فمن غير احتياج إلى البحث التجربي يمكن أن يشار، عند العود من رحلة، إلى مقدار الشرود والخطأ في ذكرياتنا عندما نكتبها من ذاكرتنا، فنقابل بينها وبين ما في كتب الدليل من أوصاف، أو نقابل بينها وبين الصور الفوتغرافية.
قال الدكتور تولوز: «إذا ما بين سائح ما يذكره بعد جولان دهش واغتم وخجل من الأشكال المضحكة المشوهة المغلطة التي احتفظ بها في أثناء نزهه، ومن ذلك أنني أحببت أن أقوم ببعض تجارب حول ذلك، فسألت بعض الطوافين عما شاهدوه قبل قليل من المناظر والمباني، فأتوني بأوصاف يرثى لها، ولشد ما ذهلوا حينما عرضت عليهم صور تلك الأمكنة الفوتغرافية.»
وفي جميع هذه الملاحظات السابقة لم يدر البحث في غير الوقائع التي لا يمكن أن تتدخل فيها أهواء المشاهد الدينية أو السياسية، فإذا ما تحركت هذه الأهواء جاوزت التشويهات الحد، ويمكن أن يستنتج من هذا كون الحوادث تمسخ في الأدمغة كلما تمت، وكون شهادة الأشخاص الذين يرونها لا تصلح لغير تشويهها تشويها تاما.
وقد أتى جول سيمون بمثال بارز عن فتنة وقعت أمامه، حيث قال: «كنت قد قصصت غير مرة خبر يوم 31 من أكتوبر سنة 1870، وكل قصة على شاكلته، ولا يمكن إلا أن يحار كثيرا من تناقض أناس كثير من ذوي الصلاح فيما بينهم عندما يقصون وقائع كانوا قد شاهدوها، وأجد في كل خطوة هذا المنظر الهائل، وهو أن أقل ما يطمئن إليه الإنسان هو نفسه، وهو لا يثق بعينيه، لما بين عينيه وذاكرته من ناحية وخياله من ناحية أخرى من صراع مستمر، هو يعتقد أنه يرى وأنه يذكر، فيخترع.»
والتشويه أشد ما يبدو عميقا في الحوادث الدينية، وهو يشاهد في قصص الخوارق والظهورات الزاخرة بها الكتب، ففي عشرة قرون رأى الشيطان ألوف الناس، فلو عدت الشهادة الإجماعية التي أتاها هؤلاء الناظرون الكثر دليلا لقيل إن الشيطان هو الشخص الذي يكون وجوده قد أثبت خيرا من غيره، ومما لاحظه لانغلوا في هذا الأمر وجود وقائع تاريخية قليلة قامت على مثل هذا العدد من الشهادات المستقلة. •••
وكان المؤلفون السابقون يفسرون هذا الاختلاف في الشهادات بقولهم إن بعض الشهود كان حسن النية وبعضا آخر منهم كان سيئ النية، ويدل علم النفس الحديث على أنه أتي بهذه الشهادات المتناقضة بأمانة تامة في الغالب، فكل ما يشاهده الناظر يمثل صورا استدعتها حادثة في خياله، لا الحادثة نفسها، والناظر يستكمل سلسلة من الخواطر والإنابات لم تلبث نتائجها أن تبدو له من الحقائق.
وفي الشهادة يمكن أن يقال على العموم إن الخطر في حسن النية لا في سوئها، فيسهل كشف سوء النية بتناقض الشاهد عندما يكرر قصة كاذبة، ولكن كيف تشخص الضلالات النفسية التي ذهب الشخص المخلص ضحيتها؟ ثم إن سوء النية يتحول إلى حسن النية بتلقين ذاتي، والواقع أنه يكاد يتعذر على الإنسان أن يكرر الكذب عينه لزمن طويل من غير أن يصدقه في آخر الأمر.
وإذا كان من الصعب أن تروى الوقائع بدقة؛ فذلك لأن القدرة على الملاحظة تظل قليلة النشوء حتى في أبسط الأحوال، كالنظر إلى بناء أو إلى ما يحدث في الشارع مثلا، ولا ريب في أن رجال الجامعة عندنا في كل وقت عدوا هذا الفن غير نافع ما داموا لا يعلمونه، وهذا يوضح السبب في كون تلاميذهم يجوزون الحياة من غير أن يروا شيئا فيها.
ومع ذلك يمكن أن تكتسب صفة الملاحظة عمليا بمناهج سهلة بعض السهولة قد عرضتها في مكان آخر.
وتضمن الملاحظة الصحيحة للإنسان أفضلية في الحياة لا جدال فيها.
وتدل التجارب التي أدرجت في هذا الفصل دلالة واضحة على كون الشهادة التي عدت من أضمن مصادر التاريخ فيما مضى لا تنطوي على غير قيمة ضعيفة.
وجمع شهادات حول حادثة - كما يصنع اليوم عن الحرب - عمل لا نفع فيه، فليس بتكديس الخطأ ما يمكن استخراج حقيقة.
والآن ندرس مناهج أخرى أضمن بمراحل من المناهج التي ذكر نقصها، وذلك وصولا إلى تصحيح حياة أحد الأدوار.
الفصل الثالث
تعيين حوادث التاريخ بدراسة المباني والكتابات والأوسمة
لا يعلق المؤرخون على العموم غير أهمية ضعيفة على المباني ومختلف آثار الفن، ولا سيما الأوسمة، ومع ذلك فإن هذه الآثار تظهر بين أضمن مصادر التاريخ، فهي كتب لا تكذب أبدا، وهي تشتمل على لغة بالغة الوضوح، بيد أنه لم يبدأ بإدراكها في غير أيامنا.
والمباني من حيث بعض الحضارات هي المصدر الوحيد الذي يصحح به الماضي تقريبا، فبفضل هذه الآثار الحجرية يعد اطلاعنا على المصريين والآشوريين والهندوس مثلا أفضل من اطلاعنا على أمم ظهرت على مسرح العالم بعد هؤلاء بزمن طويل جدا، كالغوليين مثلا.
ويكشف فن البناء أحيانا عن عناصر التاريخ التي لا تحدث عنها الكتب، وهكذا درست مباني الهند حيث هي، فاستطعت أن أقرأ على النقوش البارزة علل زوال البدهية في شبه الجزيرة الكبرى، والبدهية ما اعتقد حتى ذلك الحين أنها زالت بفعل الاضطهادات العنيفة، مع أنها توارت بانصهارها في الديانات السابقة.
وتؤدي دراسة الآثار الفنية إلى تصحيح الآراء الكلاسية، وإذا ما اعتقدت أقاصيص المؤرخين المجمع عليها تقريبا عدت القرون الوسطى دور وحشية سوداء، وإذا كانت هذه الوحشية حقيقية من الناحية الذهنية لم تكن كذلك من حيث الحياة الفنية، فإذا نظر إلى روائع البنائين والمصورين والنحاتين الصواغ في ذلك الدور رئي أن الفن القومي لم يبلغ من النشوء ما بلغه في القرون الوسطى، حتى إنه يمكن أن يقال - على الرغم من رأي كثير من المؤرخين - إن تطور عصر النهضة كان رجعيا أكثر من أن يكون تقدميا من بعض الوجوه.
وبضع دقائق تقضى في فناء قصر بلوا مثلا تكفي لمشاهدة نموذج ممتع عن تأثير تلك الرجعة في فن البناء، فمن ناحية من الفناء يرى جناح لويس الثاني عشر العجيب، وفي الجانب الأمامي يرى المقدم اليوناني اللاتيني لغستون الأورلياني، ولأي سبب؟ ذلك لأن دراسة المباني اللاتينية القديمة كانت قد أوجبت عد الفن القوطي القديم من عمل البرابرة، ولو سمح الزمن لغستون الأرلياني لأقدم - كما قيل - على هدم جميع الجناح الذي يعد من روائع الفن الفرنسي.
وتقدم الآثار الفنية لنا شهادات صادقة عن جميع الموضوعات التي تنطوي على دراسة إحدى الحضارات، ويمكن أن يقال، على العموم، إنها تنم على ما ظهرت في زمنه من الأفكار والمعتقدات والرغبات، حتى الأزياء، ويشتمل جميع البدائع الفنية من نحت وألواح وأوسمة، إلخ، على لغة جلية أيضا، فالمتفننون يؤلفون على شكل منظور بين احتياجات الزمن الذي يعيشون فيه ومشاعره ومعتقداته.
ومن آثارهم نعلم أيضا كيف تتطور الفنون وكيف تحول الأمم، على عجل، ما يلوح أنها اعتنقته منها لتتمثلها وفق مزاجها النفسي، ولا تلبث نسخ آثار الفن الأجنبية أن تكسب شكلا قوميا، فما كان المتفنن الهندوسي ليقدر مثلا على استنساخ أثر أوربي من غير تحويله، ويعرف الإيطاليون جيدا فن القوط الذي كانوا ينتفعون في الوقت المناسب بعناصره المهمة الثلاثة، وهي: الحنية المكسورة، والقبة المضلعة، والقوس المنطقة، ومع ذلك فإنهم لم يستطيعوا قط أن يقيموا في إيطالية بناء قوطيا حقيقيا مذكرا بكنائسنا الجليلة ولو من بعيد، وقد كان هذا عندهم فنا مستعارا خاليا من كل صبغة قومية، وما انفكت كنائس تسكانة الجميلة - ولا سيما كنائس فلورنسة - تحافظ على رسم الكنائس اللاتينية القديمة، ولا تجد في أكثر مباني إيطالية قوطية - أي: في مباني سيان - من القوطية غير الحنية المكسورة في الأروقة. أجل، جاء في الكتب أن كنيسة منرفا في رومة نموذج للفن القوطي، غير أن منظرها العام لا يمت إلى القرون الوسطى بصلة، وكل ما في الأمر هو أن بعض العناصر القوطية قرن فيها بعناصر أخرى فقط.
وإذا ما أقيمت مبان من قبل متفننين لا ينتسبون إلى الأمة التي تئويهم، عانى هؤلاء المتفننون عن ضرورة تأثير البيئة التي نقلوا إليها. ومما لوحظ بحق كون كثير من مباني بروج القوطية من صنع الأجانب، بيد أن روح المدينة اشتملت على هؤلاء الأجانب، فاقتبسوا الروح البروجية في بروج، ولم يصنع الإيطاليون الذين شادوا بيعا في روسية كنائس إيطالية، بل أقاموا كنائس على الطراز البزنطي الذي كان - ولا يزال - طراز روسية، هذا البلد الذي بلغ من البربرية ما لم يبدع معه طرازا قوميا في الحقيقة.
والواقع أن المتفنن يعاني طابع بيئته تماما، وهذا ما تقوم عليه قيمة أثره التاريخية، وهو يبلغ من إشباعه بذلك ما تبصر معه جميع مظاهر الزمن الفنية، مشتملة بلا استثناء على طابع الفضيلة التي يمكن أن تؤرخ بها. •••
ودراسة الكتابات تجهز المؤرخين أحيانا بوثائق نافعة لهم كدراسة المباني، ومن ذلك أن كلمات قليلة منقوشة على حجر دمياط (؟) الشهير أعانت شنبليون على اكتشاف معنى الخط الهيروغليفي. فقد كانت الكتابة الهيروغليفية منسية تماما، مع أنه كان يتكلم باللغة مدة خمسة آلاف سنة أو ستة آلاف سنة.
وهكذا أيضا ساعد فك كتابات أشوكا الشهيرة القريبة من أوائل التاريخ النصراني على كون حضارة الهند، التي كان يعزى إليها قدم أسطوري، من أحدث حضارات التاريخ.
وكذلك الأوسمة مفيدة كالمباني والكتابات للكشف عن حياة دور ما، فإذا ما اقتصر مثلا على قراءة الكتب الكثيرة التي نشرت عن إحدى وقائع تاريخنا البالغة الخصب من حيث النتائج، أي: مذبحة السان بارتلمي، ظفر على حسب ديانة المؤلف بمعارف متناقضة جدا حول الوجه الذي نظر به إلى هذا الحادث من قبل معاصريه، وعلى العكس حصل على معارف قاطعة عنه بدراسة الأوسمة الثلاثة التي نشرنا صورة لها في أول هذا الكتاب، فقد ضرب اثنان منها بأمر من ملك فرنسة، وضرب الثالث بأمر من البابا تبجيلا للمذبحة، وما نقش على هذه الأوسمة من كتابات لا يدع شكا حول مشاعر صانعيها، وتكمل المعارف التي ظفر بها على هذا الوجه بدراسة الصور الفوتغرافية المأخوذة عن الصور التي لا تزال ظاهرة في الفاتيكان، والتي حمل البابا على رسمها من قبل فيزاري، عرضا لجزئيات مقاتل الهغنوت في أثناء مذبحة السان بارتلمي. وهكذا تؤدي ثلاثة أوسمة وبعض الصور إلى استقصاء مسألة من أهم مسائل التاريخ. •••
وليست دراسة الفنون من خلال الحضارات جزءا من التربية الكلاسية، ومع ذلك فإنها تنطوي على معرفة تاريخية من الطراز الأول كما يرى بما تقدم.
وإذا وضعت أمام عيون الطلبة صور عن المباني التي أقامتها أمم حائزة لدين واحد ولغة واحدة، ولكن مع الإقامة ببلدان مختلفة، كالمسلمين في الأندلس ومصر والهند، أطلعهم الأستاذ على ما اعتور فن البناء من تحويلات سريعة بفعل مختلف العروق، وهو لكي يثبت أن هذه التحولات لا تنشأ عن فروق بين البقاع يدل على تأثير العرق بدلالته على كون طرز البناء في البلد عينه - كالهند مثلا - قد اختلفت إلى الغاية بين ولاية وولاية في قرون كثيرة من العهد الإسلامي، وذلك عن تباين العروق التي أبدعت هذه المباني.
وسنفصل المسألة فيما بعد فندل على أن جميع مظاهر حضارة الأمة كالنظم والآداب والفنون تعبر عن روح العرق، فلم يعتنق شعب ديانة شعوب أخرى ونظمها وفنونها من غير أن يحولها، خلافا لما علم زمنا طويلا، فالتاريخ لا يقول هذا، وآثار الفن تظهره جليا.
الفصل الرابع
تعيين بعض الحوادث الاجتماعية بالإحصاء
يستند مبدأ الجبرية، الذي يسيطر على الفكر العلمي بالتدريج، إلى ثبات بعض الحوادث على الخصوص عندما تصبح جماعية.
وتثبت الملاحظة في الحقيقة أن الأحوال الفردية إذا كان يتعذر البصر بها تنم الأحوال الجماعية، كالمواليد والزواجات والوفيات، إلخ، على انتظام عظيم جدا.
ولم تلبث المناهج الإحصائية في الاقتصاد السياسي والاجتماعي أن صارت لها أهمية فائقة، ومن الصواب أن قيل: «إن السنن الاقتصادية الحقيقية وحدها هي التي أمضاها الإحصاء.» ولا تتم معرفة الوقائع مطلقا من غير تحليلها العددي.
والوثائق الإحصائية تظهر إذن بين أثمن ما يمكن الانتفاع به لدراسة تطور الأمة الاجتماعي، ولكن يجب أن توضع بعناية إذا أريد اجتناب الخطأ الفظيع فيها، فما بينه مسيو تارد مثلا مقدار الوهم في نقص الجرائم الذي كان يسفر عنه إحصاء أدارته المصلحة زمنا طويلا، ومقدار ما حام حول هذا النقص الظاهر من تفاؤل غير قائم على أساس.
والحق أن الإحصاءات لا تكون نافعة إلا إذا قامت على المقابلة وعرضت نسبة الحوادث المئوية.
ومبدأ النسبة المئوية هذا على جانب كبير من الأهمية، وإني بعد أن أدخلته سابقا إلى الأنتربولوجية استطعت أن أبين الفروق الدماغية العميقة الفاصلة بين مختلف العروق البشرية، هذه الفروق التي لم يستطع منهاج المتوسطات أن يقرره، وماذا كان يرى حتى ذلك الحين بمقابلة ما بين حجوم الجماجم المتوسطة لدى مختلف العروق؟ كانت ترى فروق تافهة يمكن أن تحمل أكثر علماء التشريح على الاعتقاد - كما كان يفرض في الحقيقة - بأن وزن الدماغ واحد في جميع العروق تقريبا. فلما استعنت بمنحنيات خاصة دالة على النسبة المئوية الدقيقة لمختلف حجوم الجماجم، أمكنني بالتصرف في عدد عظيم من الجماجم أن أبين أن عدد الحجوم العليا تختلف - بالعكس - اختلافا كبيرا على حسب الأمم، فالعروق العليا تختلف عن العروق الدنيا اختلافا جليا، لا لقيامه على المتوسطات، بل لأن الأولى تنطوي على عدد قليل من الأدمغة الكبيرة التي تحرمها الثانية دائما.
وتظل الأدمغة الكبيرة غير مؤثرة في المتوسطة لندرتها، ولكنها تمثل دورا مهما في حياة الأمة، ثم إن هذا البيان التشريحي يؤيد المبدأ النفسي القائل إن مستوى الأمة الذهني يمتاز - على الخصوص - بنسبة ما تشتمل عليه من أصحاب النفوس العالية.
إذن لا ينبغي أن ينظر على انفراد إلى العناصر التي تتألف منها المجتمعات للمقابلة بينها، بل إلى ما بين هذه العناصر من نسبة مئوية، فمتوسطات الإحصائيين تظهر خادعة في الغالب، وينشأ كثير من أغاليطنا في الحكم وما يعقبها من تعميم عابر عن نقص في معرفة النسبة المئوية للعناصر الواقعة تحت الملاحظة.
أجل، تكون الوثائق الإحصائية ذات قيمة بالغة في دراسة التاريخ، ولكنه يتألف منها لسان لا يسهل تفسيره دائما.
ويمكن أن تصبح هذه الوثائق - على الرغم من دقتها - منبع خطأ خطر إذا ما جمعت أحوالا كثيرة الاختلاف على أنها متشابهة.
والإحصاءات إذا ما عرفت قراءتها تزود على العكس بدلائل صحيحة عن حال الشعب الاجتماعية وعن أخلاقه واحتياجاته وقابلياته، إلخ، فضلا عن الحوادث الاقتصادية.
الفصل الخامس
تعيين مزاج الأمة النفسي بدراسة إنتاجها الأدبي
تعد الوثائق الأدبية كالقصص والأمثال والحكايات والروايات، إلخ، من أصلح الوسائل لتصحيح مزاج الأمة النفسي، فمن شهادتها يعلم سلوك الأمة في مختلف أحوال حياتها ودرجة قيمها.
ولا ريب في أن أخلاق الشعب تظهر من خلال جميع ما ينتج، ولكنه يجب أن يبحث عن هذه الأخلاق في آثاره الأدبية خاصة.
وتكون الملاحم الكبرى قليلة الفائدة؛ لأنها تدلنا على أناس مبالغ في مشاعرهم وأعمالهم، ولنا بالأمثال والحكايات والأقاصيص الشعبية، إلخ، معرفة أدق مما بالملاحم.
ومنذ حين كنا قد طبقنا هذا المنهاج على دراسة روح أقسام من الأمة الهندوسية، مقتطفين من أشهر كتبها: الپنچ تنترا، والهتوپديشا، إلخ، آراء عامة عن مختلف العناصر الأساسية في الحياة الشرقية .
ولم نزج بمقتطفات من ملحمة كالمهابهارتا، ومن كتب دينية واجتماعية كشرائع منو المعروفة بمنوا دهرما شسترا، إلخ، إلا عند قربها من الآراء الشعبية، من الپنچ تنترا، والهتوپديشا، ومن ثم عند إثباتها قدم الآراء القائمة حول بعض الموضوعات، وهكذا ترى الحكم الواردة في البنچ تنترا، والمشتملة على شيء من التنكيت بالنساء ظاهرا، قد أيدت بتأملات المشترع الرزين منو، دالة إيانا على أن أحكام المجموعة الأولى شعبية لا ريب، ما بدت على شكل عقائد مسلم بها في دستور ديني في شريعة الهند العليا منذ قرون كثيرة وعندما ينتهي رأي إلى هذه الحال من التكثيف ويعرض على شكل حكمة أو مثل، يمكننا أن نجزم بوجوب مرور أجيال طويلة من الناس لإنضاجه.
وقد جمعت المقتطفات الآتية وفق الموضوع الذي تعالجه: القدر والخلق والحياة وعوامل سير الإنسان والنساء، إلخ.
القدر
لا يأتي ما لا يجب أن يأتي، ويأتي ما يجب أن يأتي، ففي هذا ترياق الهموم.
هتوپديشا
كتب القدر على جباهنا سطرا من حروف، فلن يقدر أذكى العلماء على محوه.
پنچ تنترا
قد يسقط الإنسان من فوق جبل، ويغرق في بحر، ويرتمي في نار، ويلاعب الأفاعي، ولكنه لن يموت قبل أجله.
هتوپديشا
النجاح في الأعمال منوط بما يأمر به القدر، وهذه الأعمال منظمة بأفعال الناس في حيواتهم السابقة وبسلوك الإنسان.
منو
على الإنسان ألا يكف عن العمل ولو فكر في القدر، فلن تستخرج سيرجا من سمسمة بغير عمل.
هتوپديشا
الخلق
لا يغير الأمر الطبيعي بالمشورة، فالماء الحار يعود باردا.
پنچ تنترا
لو أصبحت النار باردة وصار القمر محرقا لأمكن تبديل طبيعة الناس في هذه الدنيا.
پنچ تنترا
يغلب الطبيعي غيره من الصفات ويتبوأ مكانه في الرأس.
هتوپديشا
يصعب على الإنسان أن يتغلب على غريزته الطبيعية، فلن تستطيع أن تحول دون قرض الكلب للأحذية ولو جعلته ملكا.
هتوپديشا
يكون قارئا لكل شيء عالما بكل شيء ممارسا كل شيء، من يرغب عن الرغائب ويعيش بلا أمل.
هتوپديشا
من ذا الذي لا يظهر طويلا إذا نظر إلى تحته ، فالذين ينظرون إلى فوقهم فقراء على الدوام.
هتوپديشا
القناعة كنز لا يفنى.
پنچ تنترا
الرخاء يغير طبع الإنسان.
پنچ تنترا
النساء
يصبح أذكياء الرجال والأبطال في المعارك من البائسين بجانب المرأة.
پنچ تنترا
الرجل الذي تسيره كلمة من المرأة يعد العسر يسرا، والمتعذر سهلا، والفاسد سائغا.
پنچ تنترا
منو جعل قسمة النساء في حبهن لفراشهن ومقعدهن وزينتهن، وفي هواهن وغضبهن، وسيئ ميولهن ورغبتهن في الشر والدعارة.
منو
النساء ذوات طبيعة متقلبة تقلب أمواج البحر، وللنساء مشاعر مذبذبة لا تدوم أكثر من ساعة كسحب الشفق، فإذا ما قضين أوطارهن نبذن الرجل الذي يصبح غير نافع لهن نبذ اللك
1
بعد العصر.
پنچ تنترا
النساء متقلبات دائما، حتى نساء الآلهة كما يقال.
هتوپديشا
لا تنال النساء بالقوة ولا بالمبادئ، فالنساء مخلوقات جامحات.
هتوپديشا
العلم والجهل
الذكاء خير من العلم وفوق العلم.
پنچ تنترا
ما فائدة المرء من العلم إذا كان خاليا من الذكاء؟
هتوپديشا
أعظم الفقر في قلة العلم.
پنچ تنترا
الغنى والفقر
يصبح العدو في هذه الدنيا للأغنياء قريبا، ويصبح القريب فيها للفقراء عدوا.
پنچ تنترا
الثروة تنير الصفات كما تنير الشمس كل موجود.
پنچ تنترا
لأن يكون المرء سائلا أو أن يكسب عيشه من حمله الأثقال، خير من اليسر مع العبودية.
پنچ تنترا
مبادئ الآداب العامة
أنصتوا لروح الفضيلة، وإذا أنصتم ففكروا، فلا تعاملوا غيركم بغير ما تحبون أن يعاملوكم به.
پنچ تنترا
يرى بعضهم أن الحكمة في اللسان كما عند الببغاء، ويراها بعض آخر في القلب كما عند البكم، ويراها آخرون في القلب واللسان معا.
پنچ تنترا
اللئيم يتبعه عمله ولو سار من ألف طريق، والكريم يتبعه عمله ولو سار من ألف طريق أيضا.
پنچ تنترا
قيمة الإنسان بإخلاصه، وضبطه لحواسه، وزهده وإحسانه، وقيامه بالواجب قياما دائما.
مهابهارتا
الحذر والاحتراز
يجب على الرجل العاقل الراغب في الغنى وطول العمر والسعادة ألا يثق بإنسان.
پنچ تنترا
الضعفاء إذا ما حذروا لم يقتلهم الأقوياء، والأقوياء إذا ما وثقوا قتلهم الضعفاء.
پنچ تنترا
على العاقل ألا يطلع أحدا على غناه مهما كان ضئيلا، فالغنى يحرك قلب العابد.
پنچ تنترا
من يترك الأكيد من أجل غير الأكيد يخسر الأكيد وغير الأكيد.
هتوپديشا
لا يبرأ جرح أوجبه قول.
پنچ تنترا
كيف يتودد الإنسان إلى الناس
يجب أن تعامل الناس على حسب أخلاقهم، فالعاقل إذا ما ألم بأفكار الآخرين حكمهم من فوره.
پنچ تنترا
يجب على المرء أن يتودد إلى البخيل بالمال، وإلى الشديد بالخضوع، وإلى الجاهل بالحلم، وإلى المتعلم بخلوص النية.
پنچ تنترا
لا يلبث العاقل الذي يعرف خلق رجل عند المصاقبة أن يسوده.
هتوپديشا
الشجاعة والثبات
عدم البدء أولى علائم الذكاء، وإنهاء ما بدئ به ثانية علائم الذكاء.
پنچ تنترا
الرجل الثابت يعلو الآخرين، فيصير محترما ولو لم يكن غنيا.
پنچ تنترا
من يقع في بؤس فيكتف بالتوجع لا يصنع غير زيادة بؤسه من غير وقوف عند حد.
پنچ تنترا
تحري الصلات ونتائجها
على المرء ألا يكون ذا صلة بمن لا يعرف قوته ولا أسرته ولا سيرته.
پنچ تنترا
من ليس له أحباء لا يتغلب على البأساء.
پنچ تنترا
حتى الشيطان يحتاج إلى خلان.
هتوپديشا
الظباء تبحث عن الظباء، والأغبياء يبحثون عن الأغبياء، والعقلاء يبحثون عن العقلاء، فالصداقة تقوم على تشابه المحاسن والمعايب.
پنچ تنترا
من يقدر الفضل يحب صاحب الفضل، ومن هو خال من الفضل لا يحب صاحب الفضل.
هتوپديشا
يخسر الإنسان ذكاءه بمعاشرة من هم دونه، فإذا عاشر شباهه بقي مساويا لهم، وإذا عاشر من هم أفضل منه سار إلى الفضل.
هتوپديشا
يكون الحصان أو السلاح أو الكتاب أو الكلام أو المرأة أو الرجل طيبا أو خبيثا على حسب المرء الذي يلاقيه.
پنچ تنترا
ولأن يحكم في مزاج الأمة النفسي ودرجة قيمها دائما بشواهد مماثلة لما تقدم، خير من إحصاء طويل للأسر المالكة والمعارك عد في الماضي لحمة حقيقية للتاريخ.
الفصل السادس
تعيين معنى الكلمات في دراسة التاريخ
عدم التفاهم بين مختلف النفسيات من أهم عوامل الصراع التي تملأ التاريخ، وهو فضلا عن ذلك يجعل إدراك الماضي أمرا صعبا، ولعدم التفاهم ذلك سببان مهمان، وهما: اختلاف الأمزجة النفسية، واختلاف اللغات.
وإذ يوجد لكل أمة كما لكل فرد استعداد مختلف للتقبل، فإن الكلمات نفسها والحوادث نفسها توجب فيهم ردود فعل متباينة.
والأمم يتبع بعضها بعضا من الناحية الصناعية والتجارية، على حين يوجد بينها من الفروق النفسية التي لا سلطان لها عليها، ما يفصل بعضها عن بعض لزمن طويل.
ولا نصل إلى فهم خلق الأمم ذات المزاج النفسي القريب من مزاجنا إلا بعد عناء كبير، فإذا ما نظر إلى العروق المختلفة عنا كثيرا: كالزنوج، والصينيين، إلخ، وجد من المتعذر أن ينفذ إلى مشاعرها وأفكارها.
ويضاف إلى عدم التفاهم الناشئ عن الفروق بين أمزجة الأمم: عدم التفاهم الناشئ عن تطور معنى الكلمات في غضون الأجيال، فالكلمات تعاني السنة العامة التي تحمل جميع عناصر الطبيعة على التغيير، ولا جرم أنها تبقى مع الزمن، غير أن معنى مجموع الألفاظ المجردة يختلف باختلاف الأزمان.
وحينما نعتقد أننا نترجم من اللغات القديمة لم نصنع في الغالب غير استبدالنا بفكرنا الحديث فكرة كان يعبر عنها بكلمات تغير مضمونها تغيرا بطيئا مع الأجيال.
وكانت هذه التفاسير الناقصة مصدر خطأ كثير، ومن ذلك أن ساقت رجال الثورة الفرنسية إلى مبادئ بالغة الخطأ حول نظم العالم القديم، فلم تكن عند المبدعين الذين كانوا يعتقدون أنهم يستوحون مبادئ اليونان ورومة، مستشهدين في خطبهم دائما بليكورغ وسولون وأفلاطون وبلوتارك، إلخ، أية فكرة صحيحة عن النظم المعبر عنها بألفاظ تغير معناها تغيرا أساسيا.
ومما يلقي الدهش في نفوس هؤلاء المصلحين لو كانوا يطلعون على الأمر القائل إن الجمهوريات اليونانية كانت على العكس من خيالهم الديموقراطي، ما كانت قائمة على أليغارشيات
1
متنازعة بلا انقطاع، وحاكمة في أمة من العبيد ومن زبن معبدين.
وكانت الحرية والمساواة - ولا سيما الإخاء - كما نتمثلها اليوم، من المشاعر التي كان يجهلها العالم القديم، وما كان إغريقي عصر بركلس إلا ليدهش من المعني الذي نطلقه عليها.
ولذلك يكون من الضروري عندما ندرس الماضي أن نحاول إعادة المعنى الحقيقي إلى الكلمات المستعملة، غير أنه يصعب تحقيق هذا الجهد كما يلوح؛ وذلك لأنه إذا كان من الممكن ترجمة كلمة بدقة فإن من المتعذر أن تثار في النفس ما كانت هذه الكلمة تثيره من الأفكار والمشاعر فيما مضى، فبعض الكلمات التي أصبحت خلية في الوقت الحاضر قلبت روح الناس في سالف الأيام.
وبإعادة المعنى الحقيقي إلى بعض الكلمات استطاع فستل دو كولنج أن يعيد حياة عهد الميروفنجيين.
واليوم أيضا يدرك عين الكلمات ذات الاستعمال اليومي إدراكا مختلفا تماما باختلاف عرق من يستعملونها وبيئتهم وتربيتهم، وسيرى في التعليقات التي نختم بها هذا الكتاب مقدار ما يمكن أن تتخذه الكلمات ذات الاستعمال العام، ككلمة الديموقراطية، من معان تختلف باختلاف رجال السياسة الذين يستعملونها يوميا.
وفي حقل العلم فقط وبعد جهد قرون قامت في آخر الأمر لغة تفسر على نمط واحد تفسيرا عاما، والناس من جميع الأحزاب ومن جميع الأمم المتمدنة يعرفون مضمونا واحدا للكلمات الفنية، ويمثل العلم - على الخصوص - حقل الكمي، أي الأشياء التابعة للقياس، مع أن الوجه الوصفي لم يجاوز في حقل المشاعر والمعتقدات.
والتاريخ ما دام لم يستطع الخروج من الوصفي، أي: ما دام لم يستطع الاستناد إلى أسس علمية حقيقية، فسر حصرا تقريبا بلغة الكاتب الذي كان يفسره وبمشاعره ومعتقداته.
الباب الرابع
العناصر الموجدة للتاريخ
الفصل الأول
قوى الأجداد
ليست الشعوب أكثر من الكون حيازة للثبات الذي يلوح أن كتب التاريخ تعزوه إليها، فالجماعات البشرية في تطور مستمر كجميع الموجودات، ويشبه الشعب بنهر ذي ثبات ظاهر بسبب جمود ضفتيه على الرغم من جريانه الدائم.
وتتألف الضفاف التي توجه مجرى النهر البشري من شبكة وثيقة من مختلف العوامل، وهي: الوراثة، والمعتقدات، والعادات، والقوانين، والأخلاق، والتربية، إلخ. فإذا بقيت هذه الأمور الناظمة على حالها من غير كبير تحول كانت التقلبات الاجتماعية من البطء ما تبصر معه بصرا ضعيفا، والتاريخ زاخر بأمثلة هذا الثبات الوهمي، كعصر بركلس وعصر أغسطس وعصر لويس الرابع عشر، إلخ.
وهذه الأدوار العظيمة متجانسة ، لا لأن التطور الذي لا مفر منه قد وقف مجراه، بل لتجلي ثبات المبادئ الناظمة الدينية والسياسية والأدبية، إلخ، واستمرارها في جميع عوامل الحياة الاجتماعية.
والشعب لكي ينال هذه الوحدة التي لا يستطيع أن يفلح بغيرها، لا بد له من اكتساب بعض ثبات في الأفكار والمشاعر والمعتقدات، يمكنه أن يحول إلى كتلة متجانسة نقع الأفراد الذين كان قد تألف منهم في البداءة.
والصعوبة هي في نيل درجة من الثبات الوثيق ما تبقى به الكتلة على شيء من المرونة تستطيع أن تتطور معه.
وقليل من الأمم من عرف أن يحقق شرطي التقدم هذين. •••
وفي الصف الأول للعلل الكبيرة التي تعين التاريخ تبرز العوامل الموروثة من الأجداد، أي: مجموع القابليات التي تولد مع الإنسان، وكنا قد أشرنا إلى هذه القوى عندما درسنا عملها في تكوين ذاتيتنا الخلقية، فمن روح الأموات تكونت روح الأحياء، وفينا لا في المقابر يرقد من زالوا بالحقيقة، ويوجد كثير من القرون خلف كل موجود أتى إلى النور، ويبقى هذا الموجود متأثرا بماضيه.
وبما أنني عالجت هذا الموضوع في كتاب آخر فإنني أقتصر هنا على تلخيص بعض أقسامه الأساسية:
تدل الملاحظة على أنه يمكن أن تقسم الأمم تقريبا إلى عروق ابتدائية، وعروق دنيا، وعروق متوسطة، وعروق عالية.
فأما العروق الابتدائية ومنها: الفيوجيون والأوسيانيون فقريبة من حيوانية الأجداد الأولين، وهي لا تبدي أي أثر من الثقافة.
وأما العروق الدنيا ومنها: الزنوج والبوروج فتستطيع أن تنتفع بشيء ابتدائي من الحضارة، ولكن من غير أن تقدر على الصعود عاليا مطلقا.
وفوق العروق السابقة يجيء صفر آسية، ولا سيما الصينيون، فهم قد اتفقت لهم أطوار رفيعة من التمدن جاورتها الأمم الهندية الأوربية، ومن هؤلاء الأخيرين تتألف العروق العليا. •••
وجميع الأفراد في العروق الدنيا يحوزون المستوى النفسي عينه تقريبا، وعلى العكس، يكون التفاوت الذهني هو القاعدة لدى العروق العليا، ولكن الأفضليات إذا ما أصبح بارزة كثيرا لم تنتقل قط، فالواقع أن الوراثة ترد إلى المستوى المتوسط دائما ذراري الأفراد الذين جاوزوه كثيرا؛ ولهذا السبب يندر جدا أن يترك أعاظم الرجال وارثين جديرين باسمهم.
وتمثل الشعوب المتمدنة الحديثة امتزاجات نشأت عن مصادفات الفتوح والغزوات، إلخ. وقد ثبتت هذه العناصر المتباينة بفعل تماثل البيئة والمعتقدات والمصالح، وقد أسفر توالدها في نهاية الأمر عن تكوين زمر متجانسة كنت قد وصفتها بالعروق التاريخية.
ويجب لتمازج مختلف العروق وتأليفها عرقا جديدا على شيء من التجانس، ألا يكون الأفراد المختلطون كثيري التباين بأخلاقهم وذكائهم.
ويمكن أن يسفر التوالد عن عنصر تقدمي إذا ما وقع بين عروق عالية قريب بعضها من بعض، وهو على العكس يصبح عنصر انحطاط إذا ما كانت العروق المتوالدة مختلفة جدا، ولم يبصر الإسبان الذين فتحوا جنوب أمريكة هذا الخطر، فكان هذا سببا في كون جميع الجمهوريات الإسبانية الأمريكية - التي ألفت بتوالد الغزاة وأهل البلاد الأصليين، والتي يسكنها مولدون جامحون - لم تخرج من الفوضى، وهي لن تتفلت من هذه الفوضى، كجمهورية كوبا، إلا بمعاناتها مباشرة من بعض الوجوه سلطان عرق متجانس رفيع، كالذي أوجب نجاح الولايات المتحدة.
وبعد أن قاسم أمريكيو الولايات المتحدة لزمن أوهام الأوربيين في مساواة العروق، هذه الأوهام التي قررت حرب الانفصال الهائلة، أدركوا في آخر الأمر خطر خطئهم، فتراهم اليوم يجتنبون كل توالد مع ملايين الزنوج الثلاثة عشر الذين يسكنون بلادهم؛ ولذلك كان قانون لنش ضرورة عرقية.
وينطوي كل عرق على مزايا ونقائص لا يغيرها الزمن أو التربية مطلقا، ولا تتحول نظم الأمة ولغتها وفنونها إلا بتطور بطيء حتى تلائم مزاج الأمة النفسي الموروث الذي يتقبلها.
وإذا ما لاح أن الأمم تعتنق من المعتقدات والنظم واللغات والفنون ما يختلف عما كان لدى أجدادها لم يكن هذا - في الحقيقة - إلا بعد أن تكون قد تحولت تحولا عميقا، أجل، إن البرهمية والبدهية (البوذية) والنصرانية والإسلام أديان أدت إلى اعتناقات ظاهرة لدى عروق بأسرها، غير أن هذه الأديان تحولت كثيرا بانتقالها من أمة إلى أخرى، فلما انتقلت البدهية إلى الصين شوهت بسرعة، والإسلام في فارس غيره في بلاد العرب أو الهند، ولا يزال ابن بريتانية الدنيا يتخذ من الأصنام كوثني حقيقي، ويعبد الإسباني تعاويذ، ويبقى الإيطالي مشركا، فيقدس لصور العذراء في مختلف القرى كأنها آلهة شتى.
وكان الانفصال الإصلاحي نتيجة تفسير الكتاب الديني عينه من قبل شعوب مختلفة، فكانت شعوب الشمال تريد النقاش في معتقداتها وتنظيم حياتها بنفسها، وكانت شعوب الجنوب تفضل الخضوع بلا جدال لعقائد تفرضها سلطة عالية.
ويسيطر على جميع تقلبات السياسة لدى الشعوب اللاتينية - ولا سيما الفرنسيون - عنصر بارز من عناصر مزاجهم النفسي الموروث من الأجداد، وهو احتياجهم أن يساعدوا ويوجهوا في أدق أعمالهم من قبل حكومة، فالحكومية هي النظام الوحيد الممكن لدى الأمم اللاتينية وإن اختلفت الأسماء. •••
حقا إن الحوادث التي تظهر كل يوم ليست وليدة الحاضر، بل وليدة ماض طويل، فإذا ما وحدت قرون من المصالح المتماثلة والمعتقدات الواحدة أمة حازت هذه الأمة من المسيرات الوراثية ما يتألف من مجموعه كيان يسمى: الروح القومية، وهذه الروح هي التي تعمل في الأحوال العظيمة التي تهدد وجود العرق، كالغزو مثلا، وهذه الروح القومية أيضا هي التي تجعل جميع أعضاء العرق يبدون أخلاقا مشتركة على الرغم من اختلافاتهم الفردية، ومن ذلك أنك تجد لدى الإنكليز أو البريتون أو الأفرنيين أو البروفنسيين أو اليابانيين، إلخ، من طرز الشعور والتفكير، ومن طرز الاستدلال غالبا ما يجعلك تعرفهم من فورك.
وليست العوامل التي تستطيع أن تمنح الأمة مجموعة من الأخلاق المشتركة الصالحة لتكوين روحها القومية كثيرة، ويكون العقل غريبا عن تكوينها في الغالب، ولها ركن بتوحيد المشاعر الجماعية والدينية، وما كان دينيا منها يعد أقواها، فعبادة رومة في العالم القديم، والنصرانية في القرون الوسطى من أبرز الأمثلة على مثل تلك العوامل. •••
وأشد الأهوال التي يمكن أن تصاب بها الأمة: هو ضياع روحها القومية، فلم تكن غزوات البرابرة المسلحة هي التي قضت على عظمة رومة، بل امتزاجات الشعب الروماني الطويلة بالأجانب.
وكما لاحظنا فيما تقدم: كادت الولايات المتحدة في الوقت الحاضر أن تذهب ضحية مثل هذا القدر، نتيجة لغزو متباين العناصر غزوا تدريجيا، فشعرت بالخطر في الوقت المناسب ، وانتهت إلى إغلاق أبوابها إغلاقا تاما تقريبا دون المهاجرين.
وما كانت أكمل تريبة وأصلح نظم سياسية لتحول بعض العوامل الوراثية، ولو تألف شعب خلاسي من حملة البكلوريا ومن المحامين والدكاترة لغدا عرضة للفوضى، فإلى النظم الدكتاتورية التي تؤدي إليها هذه الفوضى لا ريب.
وتدل أوربة الحديثة مرة أخرى على مقدار ثقل المؤثرات الوراثية في حياة الأمم، وما تلاقيه محاولة تحقيق اتحاد أوربي من مصاعب خارقة للعادة، يثبت ضعف الضرورات النظرية إذا لم تستند إلى بعض المشاعر الوراثية مجتمعة.
وما بين الأحياء من تضامن يستند بحكم الضرورة إلى تضامن بين الأموات الذين تكون الأحياء منهم.
الفصل الثاني
الخلق والذكاء
تجد الموجودات على الرغم من تقلبات ذاتياتها الممكنة التي درست أمرها في فصل آخر، مطوقة ببعض المؤثرات الدائمة، الإرادة والثبات، إلخ، المقيدة لذبذباتها، فمن مجموعها ما يسمى: الخلق.
1
وعلى الدوام سيطرت الأمم ذوات الخلق القوي على الأمم ذوات الخلق الضعيف أو المتردد مهما كان ذكاؤها، ومن ذلك أن الرومان قهروا الأغارقة بسهولة، وذلك في زمن كان الرومان فيه قليلي التمدن، وكان الأغارقة فيه أرقى بدرجات من قاهريهم ذكاء وثقافة.
ويستمر ذات الحادث على الظهور في الأزمنة الحديثة، ومن ذلك أن عبد ثلاثمائة مليون من الهندوس يمتازون بمعارفهم الفنية والفلسفية بسبب خلقهم الضعيف، وذلك من قبل جيش إنكليزي لا أهمية له عددا.
ويدل مجرى التاريخ كله على كون شأن الخلق أشد نفوذا بمراحل من شأن العقل في مصير الأفراد والشعوب.
2
والخلق هو ناظم السلوك الحقيقي، ويصلح الذكاء للإيضاح والتمييز على الخصوص، وتكمل الصفات الذهنية بالتربية، ويكاد الخلق يتفلت من سلطان التربية تماما.
والخلاصة أن من الممكن أن يقال إن المجتمعات الحديثة مؤلفة كما يلوح من تنضد عالمين مختلفين تماما، أي: عالم العلم الذي يهيمن عليه الذكاء، وعالم الحياة الاجتماعية الذي يوجه بمشاعر يتألف منها الخلق.
وتنبجس الاختراعات التي تحول ناحية الحضارات المادية من عالم العلم الذي يوجهه صفوة الأذكياء، وتنشأ المنازعات والأحقاد التي يضطرب بها تقدم الأمم غالبا، وتهدد بالقضاء عليها، عن العالم الاجتماعي.
فتاريخ العلوم هو قصة الاكتشافات التي حققها الذكاء، وتاريخ الأمم يقص خبر الحوادث المعينة بتأثير مختلف المشاعر التي يندر أن يوجهها العقل.
وخلط ما بين المشاعر التي تسير الإنسان وما تستدعيه من عوامل العمل أمر عام لدى المؤرخين، وكان يخيل لصانعي الثورة الفرنسية أنهم يقيمون مجتمعا جديدا على العقل الخالص، فكانوا يستوحون العقل في خطبهم، فالواقع أن معظم أفعالهم كان يشتق من المشاعر التي لا نصيب للعقل فيها، أي من الحاجة إلى المساواة والحسد والأحقاد، إلخ. •••
أجل، يوجد لدى جميع الناس متمدنين كانوا أو متوحشين مشاعر متقاربة، غير أنه يوجد بين الابتدائي والمتمدن فارق عميق قائل إن المتمدن حائز لقوة خلقية يقاوم بها تأثر الاندفاعات، مستعينا بالعقل في معارضة شعور بشعور.
وقليلون من يقدرون على مقاومة نزواتهم العاطفية، أي من هم حائزون صفة: «ضبط النفس» كما يسميها الإنكليز، وتكون الجماعات مجردة منها تماما، واندفاع الساعة هو رائدها الوحيد على العموم، ولا يقوم العقل على معارضة الشعور ببرهان منطقي، بل على إقامة شعور بعيد حيال اندفاع حاضر.
وعلى ما وقع من تقدم الحضارة بقي معظم الأمم عند أدنى طور حيث لم يكتسب الحظر المدبر بعد من السلطان الكافي ما يزجر الانعكاسات الطبيعية معه، وقد نشأ كثير من الحروب عن عدم القدرة على ردع اندفاعات الساعة.
ولا يتطلب إمكان تغيير السلوك بمعارضة الاندفاعات الحاضرة بنتائجها القادمة ضبطا للنفس أو قوة خلقية فقط، بل يتطلب أيضا صفة التمييز الموصوفة بالحكم، وتمثل هذه الصفة أعلى القابليات الذهنية، وهي تتضمن روح نقد نفاذة يقرأ بها تسلسل المعلولات والعلل.
وإذا ما اقترنت العوامل الشعورية التي يتألف الخلق منها ببعض العوامل الوجدية تكون مجموع يعبر عنه بكلمة: «القوى الأدبية.»
وقد غير سلطانها مجرى التاريخ أحيانا، ويمكن أن يقال إن القوى الأدبية مثلت دورا مهما في أول الحرب الأخيرة وآخرها، فقد غلب الألمان بالقوى الأدبية أكثر مما بالمدافع، ولا مراء في أن القيمة الحربية لمقاتلي أمريكة المرتجلين كانت صفرا تقريبا، غير أن الأثر الذي نشأ عن وصول ما لا يحصيه عد من الكتائب كان من السلطان الأدبي ما أدخل اليأس إلى العدو وأطفأ حميته في آخر الأمر. وكان المريشال الشهير فوش يعلق أهمية عظيمة على القوى الأدبية، فيقول: «إن الحرب مضمار للقوى الأدبية، فيقوم النصر على التفوق الأدبي لدى الغالب وعلى الانحطاط الأدبي لدى المغلوب.» •••
وتتجلى إحدى مشاكل الزمن الحديث في الاختلاف الزائد بين نشوء الذكاء بسرعة وتطور المشاعر والأخلاق ببطء.
وكان اتباع الذكاء للمشاعر ذا نتائج كبيرة في التاريخ دائما، ولم تلبث الجهود العقلية لدى اثنين وخمسين ممثلا لمختلف الدول التي تتألف منها جمعية الأمم حفظا للسلم بين الشعوب، أن ثقلت تحت انفجار غريزي لمشاعر جماعية من حسد وكرامة مجروحة ورغبة في الانتقام، إلخ.
وعجز العقل عن التأثير في المشاعر أصبح من شدة الخطر بنسبة ما تجهز مبتكرات العلم به المشاعر بأسلحة هائلة، تبيد في بضع ساعات كبريات العواصم مع ما تشتمل عليه من كنوز الفن، ومن ثم تخرب الحضارات المسنة التي يفاخر بها الإنسان.
أجل، قد تكون المشاعر في الإنسانية العليا خادمة للذكاء، ولكن الذكاء في إنسانيتنا الناقصة التطور هو الذي يظل خاضعا للمشاعر.
الفصل الثالث
المعتقدات الوجدية ذات الشكل الديني
تبدو القوى الوجدية في الصف الأول من القوى النفسية، وقد كانت عظيمة الشأن دائما؛ لأنه تألف منها أعظم محرك للجهود الفردية والجماعية التي تشتق منها حياة الأمم.
ولا أفصل هنا هذا التأثير، فقد خصصت كتابا لأثبت كيف تولد المعتقدات وكيف تنمو وتموت، وكيف توجه الأعمال بعد أن تستقر بالنفس، وقد حاولت على الخصوص أن أوضح الأمر الأساسي القائل إن المعتقدات المخالفة للعقل مما أمكن اعتناق أفضل العلماء له، ولاح إدراك هذا الحادث متعذرا في زمن عدت المعتقدات فيه إرادية عقلية، مع أنها غير إرادية وغير عقلية في الحقيقة، فجميع تاريخ المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية يشتق من هذه المبادئ الأساسية، ومثل سريان المعتقد في اللاشعور بفعل العدوى النفسية والتلقين والنفوذ، إلخ، دورا في حياة الشعوب أعلى من الدور الذي مثله العقل فيها. •••
وتقوم الوجدية على الخضوع لأوهام بالغة من القوة ما تتفلت معه من سلطان العقل، وتاريخ البشرية هو تاريخ هذه الأوهام على الخصوص، وتنمو الأمة إذا ما حازت أوهاما دينية أو سياسية قادرة على تحريك جهودها، وهي تميل إلى الزوال عندما يأخذ سلطان هذه الأوهام في الذبول.
ويعد العامل الوجدي جزءا من تلك القوى النفسية المجهولة التي لم يصنع التاريخ غير رسم دراستها رسما خفيفا فقط، وبما أنه لا يمكن تصنيف الوجدية ضمن الحوادث العقلية، ولا ضمن الحوادث العاطفية، فإنه يجب أن تعد حالا نفسية خاصة مشابهة بعض الشبه للحال الناشئة عن القوى المنومة، فالمنوم يقع تحت سيطرة المنوم المطلقة، ويوجب المعتقد نتائج مماثلة لتلك، ولكن مع طول دوامها بدلا من أن تكون موقتة.
وقد بلغ الدور الذي مثلته المعتقدات الوجدية ذات الشكل الديني من الأهمية في ثبات الذاتيات الفردية والجماعية، ما لا يكون من المبالغة أن يقال معه إن معظم تاريخ الأمم مؤلف من تاريخ آلهتها.
وكان أجدادنا في مدة ما قبل التاريخ، التي ترجحت بين خمسين ألف سنة ومائة ألف سنة، والتي مرت قبل الحضارات، يبقون ملازمين لدائرة اللاشعور غير مبالين بالبحث عن المصير، وكانت الولادة والموت يلوحان حادثين طبيعيين غير محتاجين إلى إيضاح، وكان الغذاء والتناسل وحدهما يعدان حافزين إلى السير.
وكان لا بد من أن يظهر من الحياة اللاشاعرة، التي كان الإنسان غير خارج منها بعد، بصيص من الحياة الشاعرة، تقترن به في النفس صور الأشياء، حتى يكتشف الإنسان ما تشابه منها وما اختلف، فيلوح له تكوين فكرة عن العالم.
ويدل مبدأ السببية والغائية، أي: المبدأ القائل إن للحادث أسبابا ونتائج، على أصل مبادئ الإنسان الابتدائي الأولى عن الكون كما يحتمل.
وكان لا بد من وجود علة للغوامض الهائلة التي وجد الإنسان نفسه محاطا بها، كنور الصاعقة وصولات العاصفة وغيرهما، وكان الأمر الوحيد الممكن تصوره وجود أشخاص مشابهين للإنسان، ولكن مع كونهم أشد قوة منه بمراحل.
وهنالك ظهر الآلهة الكثيرون النافعون أو الضارون والمرهوبون دائما، فسيطروا على حياة الأمم في قرون طويلة. وكان يهيمن آلهة خاصون على جميع الحوادث المترجحة بين سير الشمس وهياج الأمواج ووقوع الحصاد، وكان نيل حمايتهم يقتضي التزام ما يمكن تصوره في ذلك الحين من الوسائل التي تتخذ وحدها للتأثير في الكبراء، وهي الدعوات والتقدمات، ولم تلبث حياة كل أمة أن وجدت خاضعة لتدخل الآلهة الدائم، وكان الآلهة الكثيرو العدد لدى أكثر الأمم حضارة كالأغارقة والرومان على الخصوص يوحون بخوف بالغ، وكان تدخلهم المفروض في أدق أعمال الحياة يحمل على استشارتهم بلا انقطاع، وكان يفوض إلى مجمع الطوالع الذي يشترك فيه أرقى الأعيان برومة أمر تفسير الإشارات الدالة على إرادة الآلهة.
بيد أن هؤلاء الآلهة أنفسهم عانوا سنة التطور التي تقضي على الكون بالتحول دائما.
فقد ظهر في بلاد الجليل إله لم يعتم أن حل محل آلهة الألنب الهرمين، فسيطرت عزيمة هذا السيد القوي على حياة الأمم قرونا طويلة، وأنعم على الفكر بثبات أكثر من الذي أنعم به الآلهة الذين قام مقامهم، وكان الناس الذين لم يطيعوا أوامره مدى حياتهم يوعدون بنار أبدية.
وإلى وقت بالغ الجدة فقط ظفر بمبدأ القوى غير الشخصية التي يمكن الإنسان أن يستميلها والتي تستطيع أن تحل محل عزائم الآلهة. •••
وبلغ الدور الذي يمثله الآلهة في التاريخ من القوة ما لم تستطع أمة أن تغيره من غير أن ترى حياتها تتحول تحولا تاما.
ومما ذكرناه آنفا أن قبائل بلاد العرب البدوية وحدت برؤى محمد الدينية، فلم تلبث أن بلغت من القوة ما أقامت معه إمبراطورية عظيمة.
ومن الأمثلة الكثيرة على الثبات النفسي الذي قد ينشأ عن اعتناق إيمان حار يمكن أن نستشهد أيضا بأوائل الإصلاح الديني في فرنسة.
وأول ما أوجبه هذا الإصلاح هو كفاح بسيط ضد مساوئ الإكليروس، كبيع المغفرة مثلا، ولكنه لم يلبث أن تحول بالعدوى النفسية والاضطهاد إلى معتقد كان من القوة ما لم يقدر أي نكال على وقف انتشاره، وعلى العكس كان كل قتل يؤدي إلى اعتناق جديد.
وقد انتشر الإصلاح الديني على الرغم من جميع التدابير الإرهابية، فأصبحت فرنسة ميدانا لاصطراع المعتقدات المتخاصمة مدة خمسين سنة.
ولا مثال أحسن من ذلك يدل على مقدار استطاعة الذاتيات المذبذبة التي يؤلف منها كل موجود أن توجد بفعل الوجدية شخصية جديدة بالغة من الثبات ما لا يقدر على تغييره أي عامل، سواء أكان المصلحة الذاتية أم غريزة البقاء أم الخوف من الألم. •••
وهل من الممكن أن يفرض وجود أمة مجردة من معتقدات دينية؟ لم يعرف العالم أمة من هذا النوع بعد، ولن يرى مثل هذه الأمة على ما يحتمل، فالاحتياج الوجدي إلى دين موجه مثبت أمر لا تبديل له.
والتقبل الديني لم ينقص نقصا محسوسا في غضون القرون على الرغم من بعض الظواهر، فالبابية في فارس، والعدمية والبلشفية وديانة سكبزكي في روسية، والعلم النصراني والمرمونية في الولايات المتحدة، أمثلة جديدة دالة على القوة الخارقة التي يستطيع أن ينعم بها المعتقد على المؤمنين مهما كان هذا المعتقد مخالفا للصواب.
وبما أنني لا أدرس مختلف الأديان هنا فإنني أقتصر على تلخيصي في بضعة أسطر تاريخ المرمونية التي هي من أحدث الأديان، فأقول: إنها أقيمت من قبل متهوس كان يزعم أنه تلقى من السماء، تلقيا خارقا للعادة، كتابا مقدسا مشيرا إلى دين جديد، فجمع بفعل قوته التلقينية أتباعا زاد عددهم باطراد، وإن هؤلاء المؤمنين الذين اضطهدتهم كتائب مسلحة وأمعنت في تقتيلهم اضطروا إلى الفرار من ظالميهم، وإنهم طوردوا مئات الكيلومترات فبلغوا في آخر الأمر بقعة «البحيرة المالحة» الصحراوية حيث كف أعداؤهم عن تعقبهم، وتمضي بضع سنين فتحول الصحراء الجليدية بقوة الإيمان الجديد، وتخرج من العدم مدينة كبيرة لم تعتم أن صارت قاعدة مهمة لولاية جديدة، واليوم تعد أوتاه قسما من الولايات الثماني والأربعين التي تتألف منها جمهورية الولايات المتحدة.
وما كانت أية جماعة تسير بالعقل وحده لتنجح على ما يحتمل في إخراج بقعة رخية من الصحراء كما صنع أولئك المؤمنون الذين أيدوا بمعتقدات وهمية مبدعة لقواهم.
وتمارس جميع المعتقدات الدينية - ولا سيما في بداءتها - ذات النفوذ المسيطر على روح المؤمنين، ومن هذه المعتقدات ما هو كمعتقد السكبزكي بروسية، حيث ظفر من أتباعه بأقسى بتر، ولا ترى دينا أعوزه شهداء. •••
ومع ذلك فإن الآلهة الذين كانوا يسيطرون على العالم منذ أوائل التاريخ أضاعوا، حتى لدى المؤمنين، ما كان خيال الأمم ينعم به من سلطان كبير، وكان العالم القديم يؤله قوى الطبيعة، فجعلهم العالم الحديث غير شخصيين، ووفق لاستعبادهم مقدارا فمقدار، وكان على الإنسان أن يطيع الآلهة القابضين على هذه القوى وفق المبدأ القديم، فصارت القوى الطبيعية تطيع الإنسان وفق المبدأ الحديث، وقد وجب مرور ألوف كثيرة من السنين لإقامة هذا التمييز الذي يشتق منه جميع الفلسفة الحديثة.
الفصل الرابع
المعتقدات الوجدية ذات الشكل السياسي
عندما عادت حماية الآلهة التي تنال بالأدعية لا تؤيد الإنسان بحث الإنسان عن آمال أخرى، فظن أنه يكشفها في الأوهام السياسية والاجتماعية، وكان الإيمان الأعمى الذي يصدر عن الروح الوجدية دائما أحد العناصر الأساسية لشكل المعتقدات الجديد هذا.
أجل، إن سلطان بعض الخيالات السياسية ذات الشكل الديني هو من القوة كسلطان الأديان أحيانا، غير أنه وقتي على العموم، وتوجب هذه المعتقدات السياسية ذات الآمال وذات عدم التسامح وذات الاحتياج الشديد إلى الانتشار كالعقائد الدينية.
وتمنح المعتقدات السياسية ذات الشكل الديني أتباعها قوة عظيمة كما يمنح الدين الجديد، ويزود التاريخ بأمثلة كثيرة على ذلك، ولا سيما دور الثورة الفرنسية، فما كانت الجمهورية لتستطيع أن تقابل جيوش الملكيات الأوربية المسنة القوية بغير كتائب سيئة العدة سيئة النظام، ومع ذلك فقد تم لها النصر، وقد نشأ هذا الحادث غير المنتظر عن كون جنود الثورة ذوي إيمان ديني عميق بما كانوا قد اعتنقوه من عقائد جديدة، وعند هؤلاء كانت البشرية المحولة تدخل في طور عام من السعادة، وكانت المجتمعات تعود إلى ذلك الدور الابتدائي الذي يتألف منه عهد مساواة وحرية وإخاء بالغ اليمن كما يرى النظريون الجاهلون شدائد ما قبل التاريخ. •••
وكذلك يمكن أن يذكر بين المعتقدات السياسية، الحائزة لما في المعتقدات الدينية من قوة مثبتة، شوق بعض الشعوب إلى الصدارة، ويدلنا تاريخ نينوى وبابل ورومة في الأزمنة القديمة، وتاريخ إسبانية وإنكلترة وألمانية في الأزمنة الحديثة، وتاريخ الولايات المتحدة في أيامنا على تأثير المثل الأعلى المكون من هذه الوجدية الجماعية التي تمثلها عبادة الوطن.
واليوم يمثل أنشط المعتقدات السياسية ذات الشكل الديني من قبل الاشتراكية ومن قبل الشيوعية، التي هي طور الاشتراكية الأقصى، ويعظم سلطانهما كل يوم بسبب الآمال التي تعلق عليهما، وتمثل الإكليركية الجذرية والإكليركية الشيوعية والإكليركية الكاثوليكية أشكالا تختلف قليلا عن الإيمان الوجدي نفسه، مع عدم تعقيب الأهداف عينها.
وتغرق الاشتراكية أوربة كما أغرقت النصرانية أوربة منذ ألفي عام، والاشتراكية تنتشر بسرعة أقل مما انتشرت بها النصرانية لما تصادمه من عوامل اقتصادية لا عهد للعالم القديم به.
ثم إن المذهب الاشتراكي هو من البساطة ما يجعله سائغا عند كل ذكاء، وقد أجاد الوزير الاشتراكي الإنكليزي مستر مكدونلد التعبير عن مبادئه الأساسية حول ذلك بالكلمة الآتية، وهي: «إن الاشتراكية مبدأ جماعة منظمة نظامية حاملة لواء سلطة المجتمع الاقتصادية والمادية، وذلك على وجه يمكن الفرد فيه أن يحرر من الضغط ويتمتع بحرية نشوئه.»
وهذا المبدأ إذا عبر عنه باصطلاحات عملية دل على إدارة جميع الصناعات تحت رقابة الدولة، أي من قبل جحفل من الموظفين، وقد أثبت تطبيق هذا النظام، الذي حقق في روسية، أن الإدارة الحكومية أغلى بدرجات من الإدارة الرأسمالية الفردية من ناحية، وأكثر ضغطا بدرجات منها من ناحية أخرى.
ثم إن الاشتراكية وأختها الشيوعية تنسيان أن الإدارة الحكومية تعطل الجهد الشخصي بسرعة، تعطل هذا المصدر لكل تقدم.
والأمة إذا ما أضاعت استعدادها للجهد وقعت في انحطاط عميق.
وهكذا تجد الاشتراكية ضدها سننا اقتصادية كما تجد سننا نفسية، ومع ذلك فإنها تكون من القوة بنسبة الأوهام الوجدية التي تستند إليها؛ ولذلك لا ينبغي أن يدهش من انتشارها بسرعة، وتغزو الاشتراكية أمما مستقرة كالإنكليز بعد أن خربت روسية، ولم تستطع بلاد أخرى كإيطالية وإسبانية وبولونية أن تقي نفسها من تخريباتها إلا بدكتاتوريات فعالة.
وللشيوعية - القائمة نظريا على تساوي الناس في الرزق كما تقوم الاشتراكية - قوة دعاية أعظم مما لهذه الأخيرة؛ وذلك لاستنادها إلى ضروب الحسد والحقد الشديدين على شكل آخر.
وإذا عدوت تلك الأمثلة العظيمة البارزة، مكتفيا بتصفح تاريخنا الحديث، اعتقدت شأن المعتقدات السياسية على شكل ديني، وما كانت فرنسة ميدانا له من انقلابات منذ ثورتها الكبرى يؤلف أدلة مؤثرة، وتساعد هذه الانقلابات أيضا على شعور أكثرية الناس الساحقة باحتياج شديد إلى مثل ديني أو سياسي عال بالغ من القوة ما يثبت الأفكار ويوجه السير، وذلك على الرغم من شوقهم إلى الحرية.
وإذا كان كثير من النفوس يعيش مضطربا حائرا فذلك لأنه لم يجد بعد مثلا وجديا عاليا بالغا من القوة ما يسيطر عليها.
مبدأ توازن المعتقدات السياسية الجديدة والمعتقدات الدينية القديمة أمر أساسي، وهذا المبدأ وحده يستطيع أن يوضح انتشار بعض الحركات المناقضة على الخصوص لمقتضيات الاقتصاد في الزمن الحديث.
وتمثل الأديان القديمة دائما دورا مهما في حياة الأمم السياسية، على الرغم من الميل إلى استبدال مختلف المعتقدات السياسية بها، وقد شوهد ذلك عندما تمردت الألزاس على القوانين الخرق التي تؤذي معتقداتها الدينية، ولا يزال أقل المسائل اللاهوتية في إنكلترة قادرا على تحريك الرأي العام. ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما وقع من مناقشات عنيفة في البرلمان البريطاني حول الاقتراح القائل بإدخال تغيير طفيف إلى كتاب الصلوات الرسمي. •••
ويخيل إلى رسل المعتقدات السياسية الجديدة المعدة للقيام مقام المعتقدات الدينية القديمة أن يدافعوا عن مبادئ كثيرة التقدم، مع أنهم في الحقيقة يعودون غالبا إلى أشكال من التطور الأدنى قطعت منذ زمن طويل.
وفي أثناء الثورة الفرنسية على الخصوص يوجد في القضايا الثورية كثير من المبادئ الرجعية، والواقع ماذا كان يطلب روبسبير وزملاؤه الغلاظ؟ كانوا يطلبون العود إلى نظم المجتمعات الابتدائية التي رأى أستاذهم جان جاك روسو أنها تقضي بالعجب كما افترض، مع أن هذه المجتمعات كانت تؤلف من وحوش لا أثر للحضارة فيهم، وما يطلب الشيوعيون اليوم غير الرجوع إلى أشكال من التطور تركت منذ أزمنة التاريخ الأولى، فعادت لا تراعى من قبل أناس غير القبائل الدنيا؟ •••
وما بين مقتضيات الاقتصاد والأوهام السياسية ذات الشكل الديني من تناقض لم يبصره المؤمنون قط، وكنا قد لاحظنا أن ما في المعتقدات السياسية ذات الشكل الديني من قوة عظيمة يقوم على عدم الاكتراث لما تستلزمه حياة الأمم من شروط حقيقية، ويلوح أن هذه الأوهام قد تصورت لموجودات مفتعلة خالية من الهوى والإرادة، معدة لاتباع سبل متماثلة من المهد إلى اللحد.
وإذ ليس على برامج المصلحين الوجدية أن تبالي بما يسود العالم من ضرورات فإنها تكون زاخرة بأكثر الآمال إغواء، وهي تنطوي على بيان عن السلم والاتفاق ونزع السلاح وتساوي الثروات والأحوال، مع عدم اكتراث للحقائق الاقتصادية التي تقيد الحياة الحاضرة بالتدريج تقييدا وثيقا.
ويحرك الزمن الحاضر تحريكا عنيفا بما بين العوامل الوجدية التي تقهر الروح البشرية دائما، ومقتضيات الاقتصاد التي تنشأ عن تقدم العلم من تناقض، ولا مراء في حلول الأوهام السياسية محل الوهام الدينية، ولكن كلا منهما يصطدم بذات المصاعب التي تنشأ عن تقدم المعرفة بالكون.
وفي كل يوم يعظم الحقيقي الذي هو وليد العلم من غير أن يقدر على القيام مع ذلك مقام غير الحقيقي الذي يحتاج القلب إليه، ولا ريب في أن العاملين الكبيرين: العلمي والديني اللذين يوجهان حياة الناس، سيدومان دواما متوازيا زمنا طويلا.
أجل، إن المعارف العلمية غيرت ناحية الحضارات المادية تغييرا عميقا، غير أن المعتقدات الوجدية دينية كانت أو سياسية ظلت قادرة وحدها حتى الآن على إيجاد اتحاد المشاعر والأفكار الضروري لثبات الذاتيات الجمعية. ولا شك في أن ختام ما بين الحقيقي وغير الحقيقي من صراع عظيم لا يزال يهز العالم سيكون مبدأ حضارات جديدة.
الفصل الخامس
العادات والأخلاق والتربية
مهما تكن العوامل الأولى لتطور الأمة، سياسية كانت أو دينية أو اقتصادية أو غيرها، لا تؤثر تأثيرا عميقا إلا بعد أن تحول إلى عادات غير شعورية يعود البرهان غير مؤثر فيها، وللعادات سلطان لا يقاوم، وذلك لأن الفرد الذي يزعم أنه يتفلت من تأثيرها لا يلبث أن يرى عدوا له جميع الزمرة التي ينتسب إليها، أجل، يمكن أن تتحول ولكنها تكون ذات سلطان مطلق في أثناء دوامها، وتكفي قوة الموضة
1
التي لا تتجلى في اللباس فقط، بل أيضا في كثير من عناصر الحياة الاجتماعية، فنية كانت أو ذهنية، لإثبات أهمية هذه المناحي الجماعية في حياة الأمم.
وتعد العادات من العوامل الأساسية في استقرار المجتمعات، فالأمة لا تخرج من الهمجية إلا بعد أن تخضع لنير العادة، وهي تعود إليها منذ فقدان عنصر الاستقرار هذا لقوته.
نعم، إن القوانين تساعد على تثبيت العادات، غير أنها لا توجدها، ويجب على القانون لكي يكون مؤثرا أن يستوحي العادة لا أن يسبقها. •••
وتظهر العادات بين بواعث الأخلاق الحقيقية، أي: العلم الذي ينظم السلوك كما جاء في المعاجم.
وما انفكت الفلسفة منذ قرن تبحث في الأخلاق عادة إياها من المسائل الداخلة ضمن نطاق العقل مع عدم خضوعها له إلا قليلا جدا، وفي الأخلاق كان يتطرق وهم كبير إلى كنت الذي لا تزال نظرياته العقلية تسيطر على الدراسة الجامعية، وكان كنت يستنبط وجود حياة آخرة ووجود إله مجاز من ضرورة المكافأة على الفضيلة والمعاقبة على الرذيلة.
والحق أن القوانين الخلقية تقوم على ضرورات اجتماعية تفرض قوتها على جميع المجتمعات، ومنها المجتمعات الحيوانية، قواعد ثابتة قسرا، ما دامت هذه القواعد تمثل شروط الحياة في المجتمع.
وبما أنني عالجت هذه المسائل في كتاب آخر فإنني أكتفي بأن أذكر أن الأخلاق المؤثرة لا يمكن أن توجد إلا بعادات لا شعورية، تبقى مبادئ المزية وعدمها غريبة عنها تقريبا، فالرجل الذي يجد شيئا فيرده بعد كفاح باطني في آخر الأمر يعد صاحب مزية، ولكن مع اتصافه بخلق ضعيف، وهو إذا ما رد الشيء بغريزته عد صاحب خلق قوي، ولكن مع عدم اتصافه بأية مزية كانت.
ويجب أن يهدف تعليم الأخلاق إلى تثبيته حس الواجب في منطقة اللاشعور مهما كان الحال، لا أن يقوم على استظهار المبادئ العقلية التي يندر تأثيرها في سلوك الإنسان.
2
ويستلزم اكتساب مبدأ الواجب ذلك نظاما بالغ الشدة في البداءة، ويستقر هذا النظام في منطقة اللاشعور بعد معاناته بجهد، وهنالك يصبح عادة تزاول بلا مشقة ويوجه الإنسان في مجرى جميع حياته.
ومن الصواب قول أحد أرباب الصناعة المشهورين في ألمانية، هلفريخ: إن المدرسة والثكنة أوجبتا من عادات النظام والتدريب ما أسفر عن قوة ألمانية وما يؤدي إلى نهوضها السريع في هذه الأيام. •••
ويتألف من الدساتير الخلقية والعادات عوامل زاجرة قادرة على ردع الإنسان عن الإذعان لاندفاعاته الطبيعية التي هي دليل سلوكه. وتتجلى أفضلية المتمدن على المتوحش في كون الأول قد نال في نهاية الأمر مجموعة من ردود الفعل الزاخرة التي تعلمه أن يسيطر على نفسه وأن ينظم حياته على هذا الوجه.
ولا يوجد عند الأمم التي يمكن أن توصف بالمتقلبة: كالروس وأمم البلقان مثلا، عنصر ثبات آخر غير ما يرى من إرادة مؤقتة لدى رؤسائها القادرين على فرض قوانينهم، فإذا ما توارى هؤلاء الرؤساء زالت الوحدة، وبهذا تفسر السرعة التي تم بها انحطاط الإمبراطوريات الآسيوية العظمى كما تمت عظمتها. •••
وهل يمكن الاعتماد على عمل القوانين الزاجرة بلوغا لثبات السلوك؟ كان جواب التجربة سلبيا منذ زمن طويل، حتى إن هذه القوانين الزاجرة تعد من أعظم أوهام العصر الحاضر خطرا، والواقع أن الإحصاءات تدل على أنه ليس لمؤيداتنا القضائية نتيجة غير إيجاد أناس من ذوي السوابق، وهذا هو خلاف الغاية المنشودة.
ويميل مبدأ الضرورة بالتدريج إلى القيام مقام المبادئ القديمة التي قام الحق القديم عليها، فباسم الضرورة، التي هي وليدة الخط الحديدي مثلا، يرى المالك نفسه مطرودا، وباسم الضرورة أيضا كون القوانين الآتية ستقتصر - كما ذهبت إليه منذ زمن طويل - على مؤيدين، وهما: أن يحكم في الجرم الأول مع وقف التنفيذ، وأن يحكم في الجرم الثاني بالإبعاد إلى إحدى المستعمرات البعيدة؛ وذلك لأن تسعة أعشار المجرمين ممن لا يرجى إصلاحهم، ولأن عدد أرباب السوابق يزيد بلا انقطاع، فيزيدون خطرا بعد كل حكم. •••
وشأن التربية عظيم، ولا سيما عند الأمم التي لم يستقر مزاجها النفسي بماض طويل بعد، شأن ألمانية الحديثة مثلا .
وإلى كتابي «روح التربية» أحيل القارئ الذي يعنى بهذه المسائل، ففيه يرى السبب في كون التربية التجريبية التي انتحلتها ألمانية وأمريكة أعلى بمراحل من تربية الأمم اللاتينية المحزنة القائمة على مزاولة الكتب.
وقد حاولت استخلاص المبادئ التي تؤدي إلى إصلاح شخصية الطالب، فأبصرت وجود اثنين، وهما: (1) التناديات بالملاصقة. (2) إقامة الانطباعات القوية - ولكن مع قليل تكرار - مقام الانطباعات الضعيفة المكررة كثيرا.
وبما أن قيمة المذهب لا يمكن أن تثبت إلا بالتجربة، فإنني طبقت المبدأين السابقين على ترويض بعض الحيوانات، كالحصان الذي استطعت أن أغير عادته على هذا الوجه.
3
وكذلك سير الأمم يقوم على المبدأين المذكورين آنفا، وليست الصعوبة في معرفتهما، بل في ممارستهما ممارسة صائبة. •••
وينتشر مختلف عناصر الثبات التي لخصناها سابقا بفعل ذات العامل النفسي، أي: العدوى النفسية، وهذه هي تلقين معمم من فصيل المنومين، ويبدو شأنها في الحياة الاجتماعية عظيما، وهي إذ كانت موجدة المشاعر والأفكار، فإنها تهيمن على الطبائع والعادات والزي والرأي وأهم عناصر السلوك، ولا يتخلص أعلى ذكاء من تأثيرها دائما، وتنشأ نقائصنا وفضائلنا وعزائمنا عن ظاهرة التلقين بالعدوى النفسية غالبا، وهي تسيطر على مجرى التاريخ.
الفصل السادس
النظم السياسية
مثلت النظم السياسية - ولا سيما ما نشأ عنها من صراع - دائما دورا عظيما في ثبات الأمم وفي انحلالها أيضا.
وتدل المشاهدة على أن هذه النظم تنشأ في الغالب عن بعض الضرورات العامة التي هي أعلى من العزائم بمراحل، وكان سلطان الضرورة قد اعترف به من قبل قدماء فلاسفة اليونان، فكان هؤلاء الفلاسفة يعلمون الحقيقة المنسية اليوم غالبا والقائلة إن الأمم ليست حرة في اختيار نظمها، ولكن مع اضطرارها إلى معاناة النظم التي يفرضها مزاجها النفسي والأحوال الخارجية.
وكان أرسطو يقول في كتاب «السياسة» بوجود صلة وثيقة بين أشكال الحكومة وحال المجتمع الاقتصادية والذهنية والخلقية التي دعيت الحكومة لإدارتها.
وعند بوليب أن سنة التحولات السياسية هي من الثبوت كالسنة التي تسيطر على الحوادث الطبيعية، وهل تنطوي هذه السنة - كتطور الحياة لدى الفرد - على زوال نهائي يقابل الحكم الديموقراطي ؟ يؤيد أفلاطون هذا.
وإذا ما انتقل من العالم اليوناني إلى العالم الروماني أبصر شأن الضرورة، وأبصر أيضا شأن الاضطراب الناشئ عن تصادم المصالح، ولم يبد نظام المدينة الرومانية قط ديموقراطيا حقيقة، فبعد حكومة ملكية قصيرة الأمد حكم في رومة في خمسة قرون من قبل سنات سيطر على العوام المستعدين للعصيان في الغالب حكما مطلقا، ومع ذلك فقد نال العوام في نهاية الأمر حق تقلد جميع المناصب القضائية، وإحداث محامين للشعب دفاعا عن حقوقه، فيقابلون بالرفض كل قانون يجدونه جائرا.
ومع ما بذله الرومان من جهود لم يستطيعوا منع المنازعات الاجتماعية، وقد أدت هذه المنازعات إلى ظهور طغاة إمبراطوريين بعد مذابح كثيرة كمذابح ماريوس وسيلا. •••
يحكم في العالم بالممكنات، لا بالمبادئ كما كان يعتقد مونتسيكو الذي قال عندما تكلم عن الرومان: «كانوا يتمتعون بسلسلة متصلة من السعادة حينما حكم فيهم وفق خطة وثيقة، وكانوا يقاسون سلسلة من النوازل حينما سيقوا إلى خطة أخرى.»
وتختلف الضرورات التي تعين نظم الأمم، وتتضمن الحياة الزراعية والحياة الرعائية والحياة التجارية والحياة العسكرية، إلخ، نظما ملائمة لمقتضيات هذه الأحوال المختلفة.
وإذا عدوت النظم التي هي وليدة ضرورات الحياة وجدت نظما أخرى نشأت عن المعتقدات التي ظهرت في مختلف أدوار التاريخ، فقد حولت البدهية والإسلام والنصرانية إلخ، نظم بعض الأمم السياسية، ومن ثم مزاجها النفسي.
وقد أثرت الفكرة النصرانية في سني القرون الوسطى الألف في أدق جزئيات الحياة الأوربية، وهنالك كان يوجه السلوك عنصران أساسيان: الفوز بجنة زاخرة بملاذ أبدية، واجتناب عذاب النار. وقد أسفرت هذه المناحي التي دامت طويلا عن نظم بلغت من القوة ما وحدت به الأفكار والمشاعر والعزائم. •••
ومن أعظم مصاعب الحياة الاجتماعية أن تلائم النظم ما ينشأ عن الأحوال الخاصة من ضرورات ملاءمة تدريجية. ومما رأيناه كون النظام الإقطاعي مثلا قد صدر عن ضرورات تاريخية متجبرة، ولا سيما ضرورة الحماية تجاه الوعيد الخارجي، فلما زالت الأحوال التي جعلت ذلك النظام ضروريا لم يبق غير مساوئه.
وهكذا عين وضع الصناعة الخاص بالمدن الإيطالية في القرون الوسطى ظهور النقابية ونشوءها، وقد أسفرت مساوئ هذا النظام وصولاته عن فوضى طويلة المدى أدت إلى سقوط مختلف الجمهوريات بالتتابع، ومنها جمهورية فلورنسة التي كانت أكثرها ازدهارا، وقد خضعت هذه الجمهورية لنير آل مديسيس عن ضرورات نفسية مماثلة للتي ساقت بعض الدول الأوربية حديثا إلى معاناة نظم دكتاتورية.
وضرورات الزمن أيضا هي التي أوجبت في القرن الخامس عشر انصهار دويلات في دول عظيمة كإسبانية وفرنسة وإنكلترة، إلخ.
ومتى تصلبت شبكة التقاليد القديمة كثيرا لم يمكن تحقيق الملاءمة قط إلا بثورة عنيفة، وهذه هي الحال التي كانت عليها فرنسة أيام ثورتها الكبرى. فبما أن الملكية التي قامت بضم دويلات مختلفة كبورغونية وبريتانية والبروفنس، إلخ، حائزة كل منها طبائعها وعاداتها ولغتها أحيانا، فإنها لم تتمتع بغير وحدة مفتعلة في الغالب، حتى في ظل نظام لويس الرابع عشر الاستبدادي، فكان على الملوك أن يكافحوا إلحافات البرلمانات والمصالح المحلية، إلخ، بلا انقطاع.
وكان توحيد بلد بالغ هذا المقدار من الانقسام عمل الثورة الفرنسية الأساسي، والمستقبل وحده هو الذي سيحكم في كون نفع هذا التوحيد أكثر من ضره، هذا التوحيد الذي أدى إلى زوال مراكز الثقافة الإقليمية. ويلوح أن المركزية أمر حسن من الناحية العسكرية، ولا مراء في أن تعدد الأوساط الذهنية والفنية والتجارية أفضل من عدمه من ناحية تقدم الحضارة. وكان من عوامل القوة البالغة في ألمانية أن حافظت حتى في زمن السيطرة الإمبراطورية، على مراكز الثقافة المستقل بعضها عن بعض استقلالا تاما. •••
ومتى اكتسبت الضرورات التاريخية المولدة للنظم السياسية بعض القوة أصبحت الحوادث العرضية غير ذات تأثير كبير.
وما كان شارل المقحام ليمنع بورغونية من أن تصير فرنسة، ولو قتل لويس الحادي عشر المعتقل في بيرون؛ فالضرورات العامة كانت تحمل جميع الدول الصغيرة في ذلك الحين على ابتلاعها من قبل جاراتها الأكثر منها قوة.
وإذا كانت الحركة نحو الوحدة لم تحقق في إيطالية وألمانية إلا بعد ثلاثة قرون فقط، فذلك لأنه كان لا يوجد في هذين البلدين المجزأين سلطة بالغة من القوة ما تستطيع أن تصبح معه مركز جذب.
وتدل الأمثلة السابقة وما إليها على أن حياة الأمم السياسية تبقى خاضعة لضرورات عامة تسيطر على التاريخ في الحقيقة، وإن كان من الممكن أن تعاني بعض المؤثرات العابرة.
وكذلك يجب أن تذكر مجاري الآراء الجماعية، أي: عزائم العدد بين تلك الضرورات الموجدة للنظم السياسية، واليوم تصبح هذه المجاري قوية شيئا فشيئا، فتقلبات النظام السياسي في فرنسة تنشأ منذ 150 سنة عن تموجات الرأي الكبرى. •••
وتكشف دساتير الأمة المدونة عن شيء قليل من حياتها السياسية الحقيقية على العموم، وتجد لمعظم الجمهوريات الإسبانية الصغيرة بأمريكة نظما سياسية قريبة جدا من نظم الولايات المتحدة، ومع ذلك تفصل هوة بين وضع جزأي العالم الجديد، فترى الفوضى من ناحية، وترى السعادة النامية من الناحية الأخرى.
ويدل هذا المثال وما إليه على أن تطبيق نظم الشعب السياسية، لا هذه النظم، هو الذي يجب أن يعرف.
وتغيب دراسة الحقائق المستترة تحت الظواهر عن المؤرخين في الغالب، وأمس فقط اكتشف رقباء نفاذون في الأمريكتين مثلا فروقا نفسية منكورة تماما، فهنالك أمكن أن يعرف مقدار اختلاف مبادئ الولايات المتحدة السياسية والاجتماعية عن مبادئ الجمهوريات اللاتينية الجنوبية، على الرغم من بعض المشابهات.
وإذا كنا قد اخترنا حال الأمريكتين الخاص فذلك لأن هذا الحال يعد مثلا بارزا على الأغاليط التي يمكن أن تؤتى عند الاقتصار على دراسة النظم السياسية في الكتب بدلا من أن يبحث عن الوجه الذي طبقت به.
ولم تعرف أوربة بعد أن تحقق كالولايات المتحدة جعل النظم القديمة ملائمة للضرورات الحديثة، وذلك لبقائها خاضعة لقوى وراثية ولأوهام النظريين التي تصادم ما يقيد الحياة العصرية من تطور اقتصادي. •••
ومع أن النظم تنشأ عن ضرورات مستقلة عن العقل كثيرا في بعض الأحيان، فإن كثيرا من المفكرين في البلاد اللاتينية يظلون قانعين بأن المنطق العقلي ينطوي على قدرة إصلاحية.
وأمس فقط زلزل هذا الاعتقاد قليلا، ومن ذلك أن أحد رؤساء وزرائنا الذين يعدون من أكثر أقطاب السياسة نفوذا في هذا الزمن، قد أعرب بالعبارة الآتية عما تم في نفسه من تطور حول هذه المسألة الأساسية: «أراني بعد أن عشت في المطلق زمنا طويلا، مضطرا إلى الاعتراف بأن السياسة لم تكن غير ملاءمة لمقتضيات الوقت، وقد انطلقت من المنطق الخالص فانتهيت إلى بصري بأنه خال من كل تأثير في الحياة، وفي الغالب يؤدي المنطق الخالص إلى حبوط جلي، فلا تجري الأمور كما يشير العقل، وتكون نهاية العالم في اليوم الذي يسيطر العقل فيه على العالم على ما يحتمل، وذلك لأننا نسير باندفاعات شهواتنا، وليس العقل إلا وميضا باردا لا يحفز إلى العمل.»
حتى في حقل العلم يعلم هذا الرأي حول شأن العقل من قبل رجال من ذوي الفضل، وإليك ما كتبه إلي هنري بوانكاريه الشهير عن هذا الموضوع: «لا يوجد برهان عقلي يمكن أن ينفذ كنه الأشياء، فترى المنطق صالحا لأساتذة المدرسة.»
ثم إن المشاكل التي تعرض على رجال السياسة في كل يوم لا تحل بالبراهين العقلية، وكيف تثار مثلا مسألة نشوء الرأي واستعجاله وزواله؟ وكيف يستبدل عنصر عاطفي بآخر؟ وما وسائل التأثير في الإرادة غير الشاعرة للأفراد والأمم؟
وتكون الكتب الكلاسية
1
صفرا تقريبا حول هذه المسائل، ولا تصلح المبادئ التي تعلمها لغير الرسائل المحفلية التي لا تؤثر في الجموع، ويجب أن يقوم فن الحكم على مخاطبة العوامل الوجدية والجماعية والعاطفية التي تقود الناس، وعلى قلة العقل الذي يندر رجوع أعاظم سادة العالم إليه، فهؤلاء السادة كانوا يعلمون بغريزتهم أن العلم وليد العقل، وأن المشاعر والمعتقدات هي التي أوجدت التاريخ.
ولا تشاهد نتائج النظم السياسية حالا؛ وذلك لأنها تصبح عللا بدورها بعد أن كانت معلولات، ومن ذلك أن قرر في عهد هنري الرابع دفع أعضاء البرلمانات ضريبة سنوية إلى الملك تجعلهم أصحابا لمنصبهم، فلم يلبث هذا أن أسفر عن إمكانهم توجيه اعتراضات كثيرة إلى قرارات السلطة الملكية.
والوقائع التي من هذا النوع كثيرة، فلما جعلت النظم الديمقراطية أمر الخدمة العسكرية عاما أدت إلى مذابح أعظم بمراحل من التي سبقتها سفكا للدماء. •••
قد يلوح من مبتذلات التاريخ أن يقال إن النظم السياسية إذ تسيطر على حياة الأمم يجب أن تكون ملائمة لمزاجها النفسي، وعلى العكس تدل الملاحظة على أن هذه الحقيقة الجوهرية كانت مجهولة كثيرا لدى كثير من رجال السياسة الذين عهد إليهم في تدبير شئون الأمم، وجهل مثل هذا أدى إلى اكتواء الأمريكيين بحرب الانفصال الهائلة، وهو يهدد فرنسة بضياع مستعمراتها.
ولم يستطع شيء بعد أن يضعضع الوهم الهائل الذي يسوقنا إلى فرض ما يسميه النظريون: «نعم الحضارة»، على الأمم التي ثبتت طباعها وعاداتها في ماض طويل.
والأمثلة كثيرة منذ زمن على الفعل المخرب الذي يمكن أن تصاب به أمة باعتناقها نظما سيئة الملاءمة لمزاجها النفسي، فإذا عدونا الحرب الأهلية التي ما انفكت تقلب الصين رأسا على عقب منذ سنين كثيرة، هذا البلد الإقطاعي منذ القرن الثاني عشر، هذا البلد الذي يحاول انتحال نظم القرن العشرين، وجدنا مثال جمهورية هايتي الزنجية من أبرز الأمثلة على ذلك، فقد أدى اعتناقها النظم الأوربية إلى تعاقب أعمال النهب والقتل والتخريب فيها، وكاد ذلك يقضي على أمة بلغت درجة كبيرة من اليسر فيما مضى لو لم يتدخل الأمريكيون في الأمر أخيرا ليعيدوا الأمن إلى نصابه بعض الإعادة بين هذا الاضطراب، ويحولوا دون رجوع الجزيرة إلى حالها الوحشي.
حتى إنه إذا ما وقف عند الناحية العملية حصرا يرى مقدار الفائدة في معرفة الأسس النفسية للنظم السياسية التي تستطيع أن تلائم الأمة، وذلك أن المجتمعات أجهزة معقدة كالموجود الحي، وأن من الضلال أن يحاول - كما لا يزال بعض النظريين يحاول - تغييرها بقوة المراسيم، فليست القوانين الإصلاحية التي تصوت لها البرلمانات على عجل غير تبلر الأوهام تبلرا وقتيا خطرا في الغالب.
الباب الخامس
العناصر التي تنحل بها حياة الأمم
الفصل الأول
زوال المعتقدات
نبين باختصار كيف تنتهي العناصر، التي ثبتت، إلى الانحلال بعد أن درسنا العوامل التي تثبت بها الذاتيات الفردية والجماعية.
وفي المرتبة الأولى من عوامل الانحلال يأتي المعتقد الذي قامت عليه وحدة الأمم النفسية.
ولم تستحوذ المعتقدات على النفس في بعض الأحيان فتسيطر عليها سيطرة تامة؟ ولم تعاني السنة العامة التي تحكم على المادي وغير المادي بالذبول ثم بالزوال بعد زمن؟
تدل التجربة على أن المعتقدات تهن مع الزمن، ولكن يجب، لكي تخسر سلطانها على النفوس، أن يظهر إيمان جديد ليقوم مقامها.
ويظهر سير هذا التطور واحدا في كل حين، ويئول سلطان الإيمان البالغ القوة في البداءة إلى الضعف والأفول بالتدريج حتى الزمن الذي لا يبقى من المعتقد الأصلي فيه غير الطقوس والرموز، وعلى ما يبدو من دوام احترام المعتقد القديم يكون هذا المعتقد قد خسر النفوذ الموجه في الحقيقة، وهنالك يمكن أن ينبت معتقد جديد على أنقاض المعتقد الذي عاد لا يظهر منه غير الذكرى.
ومن الممتع بيان عجز العقل في تكوين المعتقدات وتطورها، وذلك لأنه يؤدي إلى تصحيح بعض الأوهام التاريخية، ولا يزال كثير من الكتاب يرون أن كتب الفيلسوفين: فولتير وروسو وغيرهما زلزلت الإيمان الديني في نفس المؤمنين حوالي دور الثورة الفرنسية، فمن المشكوك فيه حقا أن تحول جميع كتبهم مؤمنا واحدا إلى ملحد، وما كانت هذه المؤلفات لتؤثر في غير النفوس التي عاد إيمانها الظاهر لا يكون في غير مزاولة العبادة خارجا.
وتصلح ظاهرة وهن الإيمان الديني هذه لإدراك السبب في عدم فائدة معارضة المعتقدات السياسية - التي بلغت من الشدة ما تؤلف معه دينا - بالمعتقدات القديمة، فالمعتقدات الماضية لا يعود شبابها إليها.
والآن توجد أوربة الحديثة في دور من أدوار التاريخ الحرجة المشابهة لأوائل النصرانية حين أخذت الوثنية وهذا المعتقد الجديد في الاصطراع.
وإذا كان العقل غير مؤثر في المعتقدات الشعبية فهل كان يمكنه أن يؤثر في أناس بلغوا من الثقافة ما يستطيعون معه أن يحللوا إيمانهم؟
نجد الجواب عن هذ السؤال في الأمر القائل بتقبل كثير من أفاضل العلماء قصصا دينية على أنها من الحقائق التي لا يجادل فيها، مع أنه لا يستطيع عقل أن يدافع عنها.
وبين هؤلاء العلماء الذين حنت معتقدات زمنهم ظهورهم لا يمكن أن يذكر غير بسكال الذي حاول أن يجادل في الإيمان بعقله، فخرج الإيمان ظافرا من هذا الصراع، وذلك أن هذا المفكر الشهير وطن نفسه أخيرا على عد الأقاصيص الدينية التي كان يجب أن يوهنها الزمن من الحقائق، ولكن مع كونها تمثل في عصره حقائق خالدة.
وهل يستطيع معتقد ديني أوهنه الزمن أن يتحول إلى معتقد عقلي؟ لا يأتي التاريخ بغير مثال على مثل هذا التحول، وهذا هو الذي أتمته البروتستانية عندما اتخذت الطور العقلي كما يسمى، فقد رفض في تطور النصرانية الأخير هذا مبدأ وجود إله يدع ابنه يهلك في الآلام تكفيرا عن خطايا مخلوقاته، وقد أضاع يسوع أصله الإلهي وعاد لا يعد غير معلم بشر بحقائق نافعة. والنصرانية بعد أن تحولت على هذا الوجه عادت لا تكون دينا في الحقيقة، وصارت لا تلائم الرغائب الوجدية في النفوس التي تقلقها الحاجة إلى الإيمان بعالم قادم أكثر صلاحا.
وما كان أشد الاضطهادات ليزلزل المعتقدات، وما كانت الاضطهادات لتؤدي إلى غير تقويتها، وقد أتيت بأمثلة بارزة على أوائل الإصلاح الديني.
ولو دعي الشيوعيون في بقعة ما من بقاع العالم إلى مكابدة العذاب الذي فرضه نيرون على النصارى لاتسع نطاق الإيمان الشيوعي بأسرع مما يتفق له اليوم لا ريب. •••
وفي الجمل الآتية يمكن أن تلخص المبادئ النفسية التي تسيطر على نشوء المعتقدات، سواء أدينية كانت أم سياسية أم اجتماعية: (1) إن الحاجة إلى معتقد لتوجيه الأفكار والسير هو من التجبر والقوة، كالجوع والحب. (2) إن الإنسان وإن كان يغير اسم آلهته أحيانا، يستمر على السيطرة عليه ما سيطر عليه دائما من العوامل الوجدية. (3) يميل الإنسان العصري إلى استبداله بالألوهيات الشخصية السابقة عقائد وصيغا عزي إليها ما لهذه الألوهيات من قدرة سحرية، وما تنطوي عليه هذه العقائد الجديدة من صحة ليس أعظم مما تنطوي عليه المعتقدات القديمة على العموم. (4) لا تقوم المعتقدات الدينية والمعتقدات السياسية ذات الشكل الديني على العقل، ولا يمكن أن تزول بالعقل. (5) تقوم المعتقدات بالتلقين المشتق من النفوذ والتوكيد والتكرار، وتعد العدوى النفسية أهم وسيلة لانتشارها.
ويمكن أن يقال كنتيجة إن نفوذ الأشباح الإلهية التي عمرت السماء، وإن نفوذ الأوهام التي تميل اليوم إلى القيام مقامها، مما يدل على كون غير الحقيقي يمثل في التاريخ دورا له من الأهمية ما للحقيقي، فبتأثير غير الحقيقي ظهرت حضارات عظيمة من العدم وآلت أخرى إلى العدم، فغير الحقيقي أنعم على الإنسان بوهم في السعادة الأبدية التي لا تمنحه الطبيعة القاسية إياها، ولولا قدرته لظلت البشرية غائصة في وحشية خالدة.
أجل، استطاع العلم أن يدخل الإنسان إلى دائرة الحقيقي بعد جهود قرون، بيد أن غير الحقيقي لا يزال يغمره، وقد خرج التاريخ الحديث من الصراع بين الحقيقي وغير الحقيقي، وأقول مكررا إن غير الحقيقي المهيمن على أفكارنا ومعتقداتنا وأحلامنا يظل من أعظم موجدي الحقيقي.
الفصل الثاني
الأوهام السياسية
يظهر الصراع بين مختلف المثل العليا في المرتبة الأولى من عوامل انحلال حياة المجتمعات.
وقد رأينا أن المثل العليا القادرة على توجيه حياة الشعب لا تدوم في كل وقت، فهي تخسر سلطانها على النفوس في آخر الأمر على الخصوص، لما تعود غير ملائمة للضرورات الناشئة عن تطور العالم باستمرار، وتولد أوهام جديدة تصطرع مع الأوهام الماضية التي حافظت على نفوذها بفعل الوراثة، وقد قلب هذا الصراع النفسي أوربة منذ 150 سنة.
وكان تاريخنا الخاص المترجح بين الثورة الفرنسية وأيامنا نزاعا مستمرا بين مختلف المثل العليا، وكانت نتائجه الأولى ظهور دكتاتور لا بد منه لإعادة النظام، ثم اشتعال حروب عشرين عاما بين الأمم الدافعة عن مثلها الأعلى القديم وحماة المثل الأعلى الجديد.
وقد دام النزاع على الرغم من موت الفاتح ممثلا لخيال الثورة، وما وقع من إعادات للنظم لم يفلح في تثبيت المثل العليا السياسية، وظهر بعد انقلابات اجتماعية أخرى نشأت عن بلبلة في النفوس دكتاتور جديد هتفت له سبعة ملايين صوت، وهو إذ لم يعرف اجتناب العمايات النفسية التي ذهب أسلافه ضحية لها، شاهد ختام دوره بحرب طاحنة يجب أن يبصر أصلها في العلل البعيدة للمذابح العظيمة التي عاناها العالم. •••
ويتألف من أغاليط معاهدة الصلح التي ختمت بها الحرب الأخيرة مثال بارز على ما يمكن أن يكون للأوهام النفسية من نتائج في حياة الأمم، وليس من غير المفيد أن يبحث في تكوينها.
كان جهل حال ألمانية السياسية تاما، وكان هذا البلد العظيم يعد إمبراطورية وحدت تماما، مع أنها كانت تؤلف في الحقيقة من ممالك مختلفة ألف بينها دفاع مشترك لحين.
ثم إن امتزاج مختلف الدول في إمبراطورية واحدة لم يقع إلا على عقب الانتصارات الجرمانية التي تمت سنة 1871، فقد تذرع بسمارك بنفوذه فنال في ذلك الحين موافقة ملوك الممالك الألمانية: بفارية، وسكسونية، وورتنبرغ، إلخ، على تأليف اتحاد يرأسه ملك بروسية ليقوم بإدارة المصالح العسكرية المشتركة بين جميع هذه الدول على الخصوص.
وما كان هذا النظام ليحرم البلاد المتحدة استقلالها مطلقا، ولكنه كان يضعها في الأعمال الحربية وقليل من الشئون العامة تحت إدارة ملك بروسية، الذي اتخذ في البداءة لقب إمبراطور ألمانية الفخري فقط، وكانت كل واحدة من الدول المتحدة تحتفظ بولي أمرها وبوزرائها وإدارتها، أي باستقلالها الذاتي، وأراد بعض هذه الدول: كبفارية أن يدل على استقلاله جيدا، فداوم على تمثيله في الخارج بمفوضين دبلميين.
1
ومن الطبيعي أن يوسع الإمبراطور الذي لم يكن غير مدير للمصالح المشتركة سلطاته بالتدريج كما يقع في أحوال مماثلة، فأصبح سيد ألمانية الوحيد في أثناء حرب سنة 1914 لمدة القتال على الأقل.
وفي البداءة قصر سلطانه على تفوق بسيط، فاحتمل بلا حماسة في كل وقت من قبل الدول المتحدة، حتى إن كثيرا من هذه الدول - ولا سيما بفارية - أبدى ثاني يوم الهدنة ميلا جليا إلى الانفصال.
ولو كان الحلفاء يدركون وضع ألمانية السياسي الحقيقي حين كتابة معاهدة الصلح لأيدوا هذه الميول، ولو فاوضوا مختلف الدول الجرمانية على انفراد وفق شروط تختلف باختلاف هذه الدول لاجتنبوا من فورهم وجود ألمانية موحدة متوعدة أمامهم.
ولا ريب في أن الدول التي وحدت بروسية بينها موقتا كانت تهدف إلى الوحدة في آخر الأمر، غير أنه كان لا بد من انقضاء زمن طويل يهمل في أثنائه كل أمل في الانتقام بحكم الضرورة.
وبعد أن ساعدت الدبلمية الأوربية على قيام مركزية، كان يجب أن تؤجل حدوثها، أساءت إلى نفسها كثيرا بمنعها ألمان النمسة من الانضمام إلى ألمانية، فلا بد من وقوع هذا الانضمام الذي يطالب به المغلوبون باسم مبدأ القوميات الوهمي الذي نادى به الغالبون، وسيقع هذا بالتدريج ومن غير عنف حينما تلغى الجمارك بين البلدين ويوحد ما بين مصالحهما المشتركة، وهنالك تدمج الجمهورية النمسوية في الإمبراطورية الألمانية مع محافظتها على استقلال ذاتي ظاهر، وذلك كما اتفق تماما لبفارية وسكسونية وورتنبرغ، إلخ، التي تؤلف اليوم جزءا منها.
وعندما يتم هذا الضم تكون ألمانية قد نالت كثيرا بالحرب، مع أن جميع بلاد أوربة خربت بهذا الصراع الهائل.
ومما يلاحظ مع ذلك أن النمسة الفخور باستقلالها كانت لا تفكر في الانضمام إلى ألمانية مطلقا، لو لم يجردها صانعو معاهدة الصلح من أجمل ولاياتها لتتألف منها ممالك منفصلة.
ومن النتائج القريبة أو البعيدة لمبدأ الحلفاء الضار الذي صدر عن أوهامهم النفسية: إحداث دويلات متنافسة راغبة في التوسع على حساب جيرانها ومعدة لأوربة حروبا جديدة بذلك، وذلك فضلا عن توسع ألمانية بضم النمسة إليها.
ويعد تقسيم النمسة إلى ممالك منفصلة باسم مبدأ القوميات مثالا على الخطأ الذي يقترف بتطبيق مبدأ سير على أدوار من التاريخ لا قيمة له في غير أدوار أخرى، وكان يمكن أن يلجأ إلى مبدأ القوميات فيما مضى، ولكنه قام مقامه منذ قرون كثيرة مبدأ أكثر ملاءمة للحاجات الجديدة، أي: مبدأ جمع الدول الصغيرة ضمن دول كبيرة.
ولو كان الألمان غالبين لأمكنهم أن يزعموا، باسم مبدأ القوميات، أن بريتانية ونورماندية وأفرنية وبورغونية، إلخ، إذ كانت تشتمل على عروق مختلفة وجب أن تؤلف دولا مستقلة، وبذلك تكون فرنسة قد قسمت كما وقع للإمبراطورية النمسوية في الوقت الحاضر. •••
ومن بين الأمثلة على نفوذ الأوهام النفسية في التاريخ يمكن ان تذكر السياسة التي اتبعتها أوربة نحو تركية، هذه السياسة التي تظهر بين علل الحرب العظمى.
أجل، ما فتئ بعض ولايات شبه جزيرة البلقان كالبوسنة وبلغارية، إلخ ، يدار منذ فتح القسطنطينية من قبل الترك بإدارة عثمانية شديدة، غير أن هذه الإدارة تتصف بملاءمتها تماما لنفسية أهليها من أنصاف البرابرة الخاضعين لقوانينها. والواقع أن تركية وفقت لإقامة سلم تام بين أمم لم تحلم في الماضي بغير تذابحها وسلب بعضها بعضا.
ولا جدال في هذه النتيجة، بيد أنه كان يساور سياسيي أوربة الذين استحوذ عليهم تخاصم الصليب والهلال التقليدي من حيث لا يشعرون، خيال نزع بعض الولايات من تركية على الدوام، وهكذا قبضت النمسة على البوسنة وقبضت إنكلترة على قبرس، إلخ، وقد أصبحت ولايات أخرى كبلغارية وصربية على الخصوص مستقلة.
واتبعت هذه الدول الجديدة عادة أهل البلقان، فلم تلبث أن اشتبكت في صراع مع جاراتها، وكان أقل هذه الدويلات أهمية يحاول نيل عون دولة كبيرة. ومن ذلك أن صربية وضعت نفسها تحت حماية روسية، فرأت هذه الدولة نفسها ملزمة بتأييد تلك في نزاعها مع النمسة، وهنالك اشتعلت الحرب التي لم يكن أحد ليتمثل بها استمرار الترك على الحكم في البلقان.
إذن فقد انتهى سياسيو أوربة إلى النتيجتين الآتيتين بنزعهم من تركية ولاياتها بالتدريج: (1) انفجار الحرب الطاحنة المخربة لأوربة. (2) توقع نشوب منازعات جديدة بين دويلات البلقان التي أقيمت على حساب تركية، والتي هي من العجز التام ما لا تسود معه سلم كانت تتمتع بمثله أيام الحكم العثماني.
وقد استمرت أوهام أقطاب الدول السياسية حيال تركية على ما كانت عليه قبل السلم، وقد أمل وزير إنكليزي بالغ القدرة أن يطرد المسلمون من أوربة نهائيا، فأغرى بهم الأغارقة الذين كانوا يحتلون إزمير، فلما أبصرت تركية ما يحيق بها من خطر المحو من خريطة العالم السياسية جمعت ما بقي عندها من الكتائب، وانتهت بعد قتال المستميت إلى طرد بغاة اليونان من أراضيها على الرغم من كثرة عددهم.
وقد توج هذا النصر الباهر بمعاهدة لوزان المخزية لأوربة كثيرا، والواقع أن هذه المعاهدة أباحت للترك أن يخرجوا الأجانب من جميع المراكز التي يشغلونها في الإدارة العثمانية، وأنها حرمتهم امتيازاتهم الأجنبية التي هي نتيجة عمل قرون كثيرة، وهكذا تغدو إستنبول مدينة تركية حصرا، مع أنها عادت لا تكون كذلك منذ زمن طويل.
ومن ثم ترى أن أوهام الوزير الإنكليزي السياسية أدت من حيث النتيجة إلى منح تركية - هذا البلد الذي قهر في الحرب العظمى - مركزا ممتازا ما كان ليناله من حلفائه الجرمان لو خرج هؤلاء من هذه الحرب غالبين.
وتدل الأمثلة السابقة دلالة واضحة على أن المدافع إذا كانت تمثل دورا عظيما في حياة الأمم فإن من الممكن أن يغدو دور الأوهام السياسية أكبر من ذلك أيضا، فتأثيرها الدائم من أكثر ما تحققه فلسفة التاريخ وقفا للنظر. •••
ويتجلى اصطراع الأوهام السياسية أيضا في النزاع بين الأممية والقومية، وفكرة الوطن التي تشتق منها.
تنم الأممية التي يحلم الطاغية الأحمر بنشرها في العالم بأسره على خطأ فاحش في علم النفس، فضلا عن الوهم السياسي نظرا إلى التباين العميق في مزاج مختلف الأمم النفسي.
وعلى العكس، تبدو القومية التي هي نتيجة ما للأموات من سلطان قوي على الأحياء، آخر عنصر قادر على حفظ حياة الأمة، فإذا ما قهرتها الأممية حكم على المجتمع الذي تكون القومية قد أصيبت في صميمه بمثل ذلك الحبوط بالزوال من فوره، ولم يحدث قط أن كان لحب الإنسانية في الأمة من القوة مثل ما يمنحه حب الوطن.
ولا ريب في أن الاشتراكيين الأمميين يقولون موكدين للعامل إن وطنه الحقيقي هو طبقته، وإن أفراد الطبقة نفسها إذا كانوا ذوي مصالح واحدة في مختلف البلدان فإن من الواجب أن يتحدوا فيما بينهم غير مبالين بالحدود التي تفصل بعضهم عن بعض، ومع ذلك يكفي أن يواجه بين ممثلي ذات الطبقة في مؤتمر، ولكن على أن يكون هؤلاء الممثلون من أمم مختلفة ليرى مقدار ما يفصل بينهم من تباين عرقي، ولسرعان ما يقضي تباين المشاعر والأفكار هذا على المنافع المشتركة، فلا يعتم أولئك أن يتباغضوا كثيرا عن عدم تفاهم.
وإذا كان قد أمكن مجتمعنا أن يدوم على الرغم من الفوضى الغارق فيها؛ فذلك لأن عوامل الماضي تمسك كيان المجتمع القديم على الدوام. •••
وتدل هذه النظرة الخاطفة في حياة الأمم على أن الأوهام ما انفكت تمثل دورا بالغ الأهمية في التطور الحديث كما في الماضي، وما فتئت هذه الملكة الحقيقية للتاريخ، والمسيطرة على الأفكار والعزائم تسود العالم.
وتقوم دراسة الماضي خاصة على تفسير الأوهام التي ساست الأمم، وعلى نتائج مصارعتها للضرورات التابعة لطبيعة الأمور لا لإرادة الرجال.
الفصل الثالث
اصطراع المبادئ الحديثة في المساواة وزيادة التفاوت في الذكاء
تعد الحاجة إلى المساواة من مميزات الزمن الحاضر، والحقيقة هي أن هذه الحاجة قديمة قدم العالم.
وتجد هذه الحاجة بادية منذ فجر التاريخ في قصة قتل هابيل من قبل قابيل الذي حسد أخاه على نصيبه، ثم تعد الحاجة إلى المساواة أهم سبب في سقوط أعظم الحضارات، ولا سيما حضارة اليونان والرومان.
واليوم تجد هذا الميل الأصيل إلى المساواة في نزاع صريح مع مقتضيات التطور الحديث الذي يؤدي إلى تباين الناس بدلا من تساويهم.
وإذا كانت المساواة سنة الأمم الابتدائية فإن التفاوت نتيجة لازمة لتقدم الحضارات، واليوم ترى مختلف طبقات الأمة عينها على درجات بالغة التفاوت، والواقع أن المجتمع الحديث يتألف بسبب ارتقائه فقط من أناس يذكرون بالأدوار المتعاقبة التي جاوزتها البشرية، وهي: زمن المغاور، والقرون الوسطى، وعصر النهضة، إلخ. •••
ومهما تكن قيمة مبدأ المساواة النفسية فقد صار أساس النظم الديموقراطية، وهو يمثل دورا عظيما في السياسة الحاضرة.
ولما حلت النصرانية محل السلطة الرومانية قام الأمل في مساواة سماوية مقام الحاجة إلى المساواة الدنيوية لبضعة قرون، وقد حول الإيمان بهذه المساواة القادمة حياة الأمم في جميع القرون الوسطى، ومع ذلك فقد ذوى هذا الإيمان بالتدريج، فلاح الصراع الأبدي بين الغني والفقير، وبين القوي والضعيف، وبين القادر ولعاجز، ذلك الصراع الذي هز العالم كثيرا.
وتعد الثورة الفرنسية من أهم المحاولات التي بذلت للوصول إلى المساواة الاجتماعية التي سجلها التاريخ، وإذ لم يجرؤ نظريوها على الجدال في التفاوت الطبيعي الواضح أمره فقد اكتفوا في البداءة بتوكيدهم في «إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789»: «أن الناس يولدون ويبقون أحرارا متساوين في الحقوق.»
ولما حلت سنة 1793 تقدموا خطوة إلى الأمام، فزعموا في تصريح جديد أذاعوه: «أن جميع الناس متساوون طبيعة.»
وأخيرا ألقي مبدأ المساواة في العالم فاستولى على النفوس شيئا فشيئا.
ومن بين الشعار الثوري: «الحرية والمساواة والإخاء» ترى مبدأ المساواة وحده هو الذي استمر على النمو، ومبدأ الإخاء وإن حافظ على شيء من النفوذ لم يلبث أن أضاع قوته، وقد داومت الأمم ورجال السياسة على امتداحه، مع أن تعاقب الحروب الكثيرة دلهم على موطن الخطر في اعتقاده.
وأما الحرية فقد نزع تقدم الحضارة منها في كل يوم إمكان بقائها، فقد أحيط الإنسان من مهده إلى لحده بشبكة من الأنظمة والقهر والالتزامات تستعبده مقدارا فمقدارا، وكل رفاهية أوجدتها الحضارة تؤدي إلى تعقيد في الحياة جديد، ومن ثم إلى تعبيد جديد. وفي كل يوم تعظم مجموعة النظم والقوانين التي تعطل آخر ما بقي من قوة المبادرة، ومن شأن انتصار الاشتراكية الحكومية إزالة كل أثر للحرية.
وفي اليوم الذي يحقق فيه الاشتراع الخيالي بأكداس من القوانين والأناظيم، يظهر واضحا ما بين مبدأ المساواة ومبدأ الحرية من تباين عظيم. •••
وما فتئ مبدأ المساواة بين أفراد الأمة الواحدة وبين مختلف العروق أيضا، يؤدي إلى كثير من الانقلابات.
فباسم هذا المبدأ على الخصوص اكتوت الولايات المتحدة بحرب الانفصال الأهلية التي اشتعلت لإلغاء الرق، وقد دامت هذه الحرب أربع سنين وكادت تقضي على تلك الجمهورية العظيمة، وفي ذلك الزمن البعيد قليلا على الخصوص عدت جميع العروق متساوية، ظلت الولايات المتحدة مفتحة الأبواب لأنواع المهاجرين، خلا الصينيين واليابانيين الذين يعملون راضين بأجور أقل من أجور العمال الأمريكيين، فيقومون بمزاحمة خطرة، لا لأنهم من عروق متأخرة.
ومما ذكرت سابقا أن مديري السياسة الأمريكية رجعوا اليوم عن مبدأ المساواة القديم بين الناس، فهم قد انتهوا إلى الاعتراف بان اختلاط العروق المتفاوتة، الذي لم تدرك أمريكة اللاتينية خطره بعد، كان مصيبة على الأمة لتحديد مستواها في الحضارة حتما، واليوم إذ اعترف عن تجربة بأن من المتعذر أن يمثل
1
ملايين الزنوج الثلاثة عشر الذين يقيمون بالولايات المتحدة، فإنهم عزلوا عن البيض تماما. •••
ومن الممتع كما هو واضح أن تعين الفروق التشريحية التي يشتق منها ما يفصل بين الناس من تفاوت نفسي، غير أن العلم لم يبلغ من التقدم ما يصل به إلى هذه المعرفة. ومع ذلك فإن من الثابت كما يظهر كون الذكاء في العالم الحيواني على نسبة ثقل الدماغ الموزون مباشرة أو المستنبط من حجم الجمجمة، وهكذا قضي بالبحث في أن نمو الذكاء في النوع البشري يكون على نسبة ثقل الدماغ.
وإذا أهمل كثير من الشواذ لاح ثبوت هذه النسبة على العموم. وقد أتيح لي سابقا أن أقابل في متحف باريس بين مجموعة من جماجم مشاهير الرجال، كبوالو ولافونتن وديكارت، إلخ، فوجدت أن حجم دماغهم كان يختلف عن حجم دماغ الرجل المتوسط، كاختلاف دماغ هذا الأخير عن دماغ القرد الكبير.
وبين الملاحظات التشريحية الممتعة التي جمعتها في مذكرة خاصة يبدو الأمر الآتي الذي ألمعت إليه في غضون هذا الكتاب، وهو أن أفضلية أحد العروق الحقيقية تقوم على حيازته عددا من أرباب الذكاء الرفيع لا تحوزه العروق الدنيا، ولو كتب النصر للبلشفية في بلد متمدن كبير فأدى ذلك إلى إهلاك جميع الأدمغة التي تجاوز المستوى المتوسط - كما وقع في روسية - لعاد هذا البلد إلى درجة منحطة من الحضارة في سنين قليلة.
وليس مبدأ التفاوت النفسي بين العروق الذي قال به الأنغلوسكسون هو ما عليه الأمم اللاتينية مطلقا.
وفي أمر هذا التفاوت بين مختلف العروق أثبتت المشاهدة إثباتا كافيا كون كثير منها - كالزنوج والبوروج (الحمر)، إلخ - لا يستطيع أن يجاوز مستوى معينا من الثقافة، ويساعد انحطاط جمهورية هايتي التي يسكنها الزنوج حصرا على بيان كون كل عرق لا يقدر أن يبلغ غير درجة من الحضارة مناسبة لدماغه. •••
وما انفك شأن الذكاء يعظم بما أوجبته الحضارات الحديثة من تعقيد في العلم والصناعة، وقد نشأ عن هذا وجود أهمية للتفاوت الذهني أعظم في الوقت الحاضر مما كان له بدرجات، وتصبح الفروق الدماغية بين الأفراد والعامل والمهندس، مثلا، كبيرة ولا يمكن إلا أن تزيد، والحق أن المجتمعات تسير نحو تفاوت متزايد على الرغم من فوز المبادئ الديموقراطية ظاهرا.
وإذا كان هذا التفاوت لا يبدو جليا بعد؛ فذلك لأن سلطان الجموع يلقي وهما حول قدرتها.
ومبادئ المساواة لم تحول السياسة الحديثة وحدها، بل تغير نظريات التربية أيضا، فبما أن التفاوت بين أفراد البلد عينه لا ينشأ عند نظرية التربية إلا عن فروق التربية، فإنه يكفي لبلوغ المساواة أن ينعم على جميع الأولاد بالتربية عينها، فمن مثل هذا الوهم خرج مبدأ المدرسة الواحدة.
وتكون ألمانية أقرب إلى الحقائق كأمريكة، فتقدم بالعكس على تزويد الولد بتربية ملائمة لأهلياته النفسية.
وتنم مساواة النظريين الوهمية، التي يزعمون أنها ترد جميع المواطنين إلى مستوى واحد، على تهديد بالانحطاط، لا على حال تقدمي. •••
وينطوي مبدأ المساواة البسيط نظريا على عناصر معقدة ومتناقضة أيضا.
والواقع أن الحقائق المستترة تحت هذه الكلمة إذا ما حللت أبصر أن مبدأ المساواة يقترن باحتياج شديد إلى التفاوت على العموم، فإرضاء هذا الميل المضاعف من أعظم المصاعب التي تقرع الحكومات، ولم تمض أعوام كثيرة بين الزمن الذي كان روبسبير يساوي فيه بين الناس تحت ساطور المقصلة والزمن الذي أعادت الإمبراطورية فيه ألقاب الشرف.
وكان نابليون على علم تام بحقيقة مبادئ المساواة، فقد قبل منه أصلب اليعاقبة عودا قبول فرح بلغ درجة الهذيان، ألقاب شرف ازدروها أيما ازدراء منذ بضع سنين، ولكن في الظاهر وفي أيامنا تثبت كثرة ملتمسي أوضع الأوسمة التي هي وليدة التفاوت، مقدار اقتران الحاجة إلى التفاوت بالحاجة إلى المساواة.
وإذا كان حماة مبدأ المساواة لا يبصرون الحاجة إلى التفاوت وراء أشواقهم إليه في كل وقت، فإنهم يعتقونه مع ذلك عند النظر إلى جماعة، فكلمة «دكتاتورية الصعلكة» تنطوي بحكم الضرورة على تفاوت بالغ بين أفراد فريق الصعاليك ومن ليسوا منه.
والاشتراكية والشيوعية مدينتان بقوتهما لمبدأ المساواة، ومع ذلك فإن من الممكن ألا يكون مثل هذه القوة غير موقت؛ وذلك لأن المساواة، أي الحقد على الأفضليات ، أي الهدف المشترك بين جميع الديموقراطيات، كان يؤدي بما لا مفر منه، إلى نهاية هذه الديموقراطيات.
والعالم في حال الحضارات الحاضر بلغ من شدة التعقيد ما يحتفظ عدم القابلية معه بسلطان مكتسب وقتيا، وهذا من الوضوح ما تدركه عناصر الصعلكة المثقفة إدراكا جيدا، وكان من تعبير بعضهم عنه في الأسطر الآتية بجلاء ما أنقلها معه هنا أيضا لسدادها، وإن كنت قد استشهدت بها في أحد كتبي:
مبادئكم خيالية، فهي تمنح قوة الدولة القسرية ما لا تنطوي عليه من قيمة إبداعية ... لن تخرجوا مجتمعا كاملا بين عشية وضحاها، ولن تنعموا على العمال بقدرة على إدارة الإنتاج والمقايضة، أجل، ستكونون سادة الساعة، وستقبضون على جميع السلطة التي كانت بالأمس خاصة بالبرجوازية، وستكدسون مراسيم فوق مراسيم، ولكنكم لن تأتوا بالمعجزات، ولن تجعلوا من العمال أناسا قادرين على القيام مقام الرأسماليين بغتة.
وعلى العموم عدت أحزاب فرنسة الكبيرة مواصلة للثورة الفرنسية وملهمة من مبادئها. ومن دواعي الرثاء لها أن يواصل التطور سيره ضمن معنى مخالف لمبادئها في المساواة مخالفة تامة.
الفصل الرابع
شأن الجماعات الحاضر
ترى المجتمعات نفسها خاضعة بالتدريج لسلطان جديد، أي: لسلطان الجماعات، وذلك بعد أن سيطر عليها الآلهة والملوك والخواص بالتعاقب.
ويواجه العالم الحاضر هذا الأمر المتناقض، وهو: إخضاع الخواص لعزائم الجماعات، مع أن الحضارة لم تتقدم قط إلا بنفوذ الخواص وعلى الرغم من الجماعات.
وقد دلت مباحث علم النفس الحديثة على تأصل أوهام محترفي السياسة الكثير حول قدرة العدد المفروضة، وقد أثبتت هذه المباحث كون آراء الجماعات خالية من مستند عقلي، فالإنسان في الجماعة يرجع إلى همجية ما قبل التاريخ.
ولا يؤثر في الجماعات إلا بمخاطبة مشاعرها خلافا لما يساور محترفي السياسة المعاصرين من أوهام عقلية.
وإذ تعجز الجماعات عن الإدراك فإنها لا تلتمس الإدراك، وإذا صار الفرد جزءا من جمع نال قدرة قاهرة تغنيه عن التأمل والتعقل قبل السير، فضعيفو الذكاء من الأفراد إذا ما تجمعوا نالوا قدرة موقتة، ولكنها عظيمة جدا.
ولم يعرف انحطاط الجماعات النفسي إلا منذ أبحاث علم النفس الحديث، وقد جهل مؤرخو الماضي هذا الانحطاط على العموم، ومن ذلك أن عزا ميشله إلى الجماعات قابليات عالية، فهو يرى أن الناس عرضة للخطأ إذا كانوا منفردين، فيكفي أن يجمعوا لينالوا استعدادا عظيما، وهكذا فإن هذا المؤرخ الشهير كان يفتخر بعده الشعب بطلا بدلا من أن يحذو حذو القدماء، فيكتب تاريخ الأبطال وقادة الشعوب. ومن قوله: «لقد تناولت التاريخ من الأسفل في صميم الجماعات، أي: في غرائز الشعب، فأظهرت كيف قاد زعماءه.»
وبما أن جرائم الجماعات ظاهرة ظهورا لا جدال فيه فإن ميشله لا يجادل فيها، ولكنه يعزو هذه الجرائم إلى عوامل مرضية عابرة دعما لرأيه، «فعلم للأمراض النفسية المعدية» وحده يمكنه أن يفسر الهول على حسب نظرياته. •••
ويرى في جميع أدوار الفوضى - أي: في الأدوار التي تنحل الروابط الاجتماعية فيها - تجلي عمل الجماعات المفسد للنظام، غير أن شأنها كان موقتا دائما، فلسرعان ما كان يتوارى عامل التخريب.
وكان عمل الجماعات أقل عنفا في الظاهر أحيانا، فصار أكثر خطرا في الوقت الحاضر؛ لأنه أكثر استمرارا، ويلوح أن الشيوعية، التي هي أقصى شكل لقدرة العدد، تمثل آخر تطور للديموقراطيات، منتظرة خاتمتها بدكتاتوريات شخصية وفق سنة صورها أفلاطون وحققت غير مرة في غضون التاريخ.
وينم تفوق العوامل الجماعية على تأخر حقيقي مؤد إلى تلك الأشكال المنحطة التي تلاحظ لدى الهمج الفطريين، هؤلاء الذين يكون تحرر روحهم من الروح الجماعية من القلة، ما يعد معه جميع أعضاء نفس القبيلة مسئولين عن أعمال أحدهم، وتواصل هذه الحقوق الجماعية الكثيرة المباينة للمبادئ الأوربية من قبل كثير من الشعوب، ولا سيما الأناميون. •••
ومن دواعي الأسف أن ظهرت الجماعات في زمن يصبح فيه شأن الخواص الموجهين أمرا ضروريا مقدارا فمقدارا. ومما لوحظ منذ زمن طويل أنه إذا ما حذف من بلد ما - كفرنسة مثلا - بضعة آلاف الأفراد الذين يتألف منهم خيار جميع الطبقات، ومنها طبقة العمال، سقط هذا البلد من فوره إلى مستوى الصين.
أجل، إن العدد يوجد القوة، غير أن قوة العدد هذه لا تقوم مقام التوجيه الذي يتم على يد الخواص.
وقوة العدد هدامة على الخصوص، ولو سيطرت الجماعات على العالم منذ أصل الأجيال ما خرج الإنسان من الهمجية، ولم يتفلت الإنسان من الهمجية إلا بفضل بعض الأدمغة، البالغة من القدرة، ما حققت به كل تقدم أساسي أدى إلى ظهور الحضارات ونموها.
وتصبح الأخطار التي تعرض لها الأمم بفعل سلطة العدد المتصاعدة أكثر ظهورا يوما فيوما، فيمكن أن تنشأ حروب طاحنة عن حركة بسيطة في الرأي تشيع بين الجموع بفعل العدوى النفسية.
ولا مراء في أن القوى الاقتصادية التي تصدر عن اختلاط الأمم تسيطر على العزائم الجماعية بالتدريج، بيد أن هذا التطور ليس في غير أوائله. •••
وتكون الجماعات خطرة بنفوذها المحافظ أحيانا أكثر مما بعملها الثوري.
وقد جربت فرنسة ذلك عدة مرات منذ الثورة الفرنسية حتى أيامنا، وعن المحافظة الشعبية نشأت الإمبراطورية الأولى والإمبراطورية الثانية مع نتائجهما المشئومة.
وينطوي عمل الجماعات على هول متساو، سواء أكان هذا العمل ثوريا أم محافظا، وذلك لما يلازم الحركات الشعبية من عنف في كل حين، ولما تصبح به هذه الحركات أشد خطرا في كل يوم بفعل اكتشافات العلم الحديثة، ولو أضحى الكومون سيد باريس في سنة 1871، وكان حائزا لوسائل التخريب الحديثة، لتحولت هذه العاصمة العظيمة إلى ركام من الأنقاض، ولم يتفلت اللوفر وعجائبه الفنية من الحريق الذي قضى على دار البلدية والتويلري وغيرهما من مباني باريس إلا لنقص وسائل التخريب المعروفة في ذلك الحين، ولو سقطت هذه المدينة القديمة بين يدي جماعة ثورية مرة أخرى لخربت تماما على ما يحتمل.
وإذ لم يبال محترفو السياسة بهذه الممكنات، وإذ يحاولون استغلال صولات الشعب، يدلون على جهل نفسي فيهم يلقي الحيرة في مؤرخي المستقبل.
وتجد الجماعات في عناصر الشعب المنورة دعامة استحسان لطلباتها. والواقع أنه ينتصب اليوم ضد الدولة جحفل من الموظفين الذين يجب عليهم أن يؤيدوها وجحفل من المربين الذين يعهد إليهم في تثقيف الجموع.
ولو تم النصر لهؤلاء العصاة في فرنسة لسقطت من فورها في حال منحطة من الفوضى، التي كادت إيطالية تسقط فيها حينما ظهر لإنقاذها من مصيبة نهائية جبار فعال. •••
وتجاوز أوربة دورا من التردد ما انفكت الأوهام الديموقراطية تغذيه أكثر مما تغذيه الحقائق، واليوم يحقق ذلك جميع أقطاب السياسة، وقد أبان ذلك جيدا أحد مشاهيرهم: جورج كليمنسو، في السطور الآتية التي اقتطفناها من كتاب كبير له كثف فيه نتائج ملاحظاته. قال كليمنسو:
ما فتئت نفس المسائل توضع منذ القرون القديمة على شكل مباحث أبدية من غير أن تدنو من حل نهائي. ... وقد أمكن القضاء على الأليغارشيات التاريخية القائمة على الوجاهة والثروة، وهي تبعث من رفاتها ضمن أليغارشيات جديدة من غير ما كانت عليه من نفوذ القدم الذي ينطوي على سر قوتها ... وكل منها يعترف بالشعب حكما، ولكن مع جعله يتكلم. ... وغوستاف لوبون إذ بين لنا بيانا قاطعا كيف أن الأكثريات عاجزة عن القيام بغير أدنى دركات الذهن، أتاح لنا فرصة إيضاح أوضع النتائج للحكومات القائمة على الأكثريات ...
وعلى العموم ترى أليغارشيات الديموقراطية تحت الاختبار، وهي تحمل مع مساوئ السلطة الشخصية أيضا مساوئ الغفلية غير المسئولة بألفاظ المسئولية.
1
إذا لم تكن ممكنات التطور من السرعة ما تلائم الحياة الاجتماعية به ضرورات الوقت، عقبت ذلك اضطرابات عميقة، ويعد عدم الملاءمة هذا من علل فوضى العالم الحاضرة، فالإنسانية تحت ضغط سلسلة من الاكتشافات العجيبة: كتحول العمل الميكاني وتواصل الأمم الاقتصادي والتجاري نتيجة لإزالة المسافات، إلخ، تبدو في أيامنا متنازعة تنازعا زائدا مع إنسانية متأخرة تعد بقية موروثة من أجيال سابقة، وتؤلف كتيبة عظيمة من عديمي الالتئام، ويقوم خيال هذا الجمع على تقويض الحضارات الرفيعة بالعنف في سبيل ذوي الأمزجة النفسية المنحطة.
ويقع بسرعة متصاعدة في الوقت الحاضر ذلك التطور الذي كان يتم فيما مضى ببطء بالغ، فيجب مرور عدة قرون لتبصر نتائجه، وتقدم ملاءمة أحوال العيش الجديدة السهلة على الأدمغة النامية بما فيه الكفاية مصاعب شديدة على أكثرية الناس الساحقة، التي لم تنل مستوى نفسيا بعد، فينشأ عن هذا اختلاف كبير بين العدد الحائز للقوة والخواص المتصفين بالذكاء.
ففي كتب التاريخ القادمة وحدها يمكن ذرارينا أن يدركوا نتائج مثل هذا الصراع. •••
ولا يقوم سلطان العدد على ما يعزى إليه من قدرة مادية فقط، بل يقوم أيضا على ما كان يفرض له من قابليات، إلى أن أثبتت الأبحاث الحديثة في روح الجماعات انحطاط الجماهير النفسي. وكان نظريو الثورة الفرنسية يقولون: «إن الشعب لا يخطئ مطلقا.» ويبقى هذا الاعتقاد ركنا من أركان المذاهب الديموقراطية، والزمن وحده هو القادر على إزالته، وفي أيامنا يترك للجماعات أن تعتقد إمكان قيام العدد مقام المزايا الفنية التي ارتقت الحضارات بها حتى الآن، فبتأثير هذا الوهم زعم كثير من بلاد أوربة الكبيرة: كإيطالية، وإسبانية، واليونان، وبولونية، إلخ، إعادته تنظيم حياته الاجتماعية، فأدى ذلك إلى الفوضى بسرعة، فوجب ظهور دكتاتوريات لإعادة النظام إلى نصابه.
أجل، يظهر أن النظريات القائلة بحق العدد في الحكم قد فازت في روسية، ولكن الحقيقة تقول بأن الحال لا يستقيم في روسية إلا لأن العدد فيها غير ذي سلطان حقيقي، ولأن ضروب السلطة فيها قبضة دكتاتورية شرطية أشد وطأ من دكتاتورية القياصرة السابقين.
وقد انتشر الإيمان بقدرة العدد على التوجيه بين الأمم، واليوم يطالب الصينيون والهندوس والمصريون، إلخ، بالخلاص من حكومة الأمم الراقية. ومن المؤسف أن ظهرت هذه الحاجة إلى الخلاص في دور من أدوار تاريخ العالم لم يضطر إلى المعارف الفنية كما اضطر فيه، فسيكون خسر المصريين والأناميين والهندوس كبيرا بتواري الإدارة الأوربية (!).
ومن الواضح مثلا كون الحكومة الإنكليزية قد حولت الهند ومصر تحويلا تاما فيه نفع لأهليهما، وكون الحكومة الفرنسية قد مارست ذات النفوذ الملائم في الهند الصينية ومراكش (!).
ومن ذلك مثلا قول جريدة ألمانية كبيرة عن مصر: «إن إنكلترة جعلت في خمسين سنة من هذا البلد الشرقي، الفقير، المدين، الخالي من وسائل النقل، والفريسة للفتن الداخلية، دولة منظمة عجيبة الري ذات خصب منقطع النظير، مع مالية متينة وإدارة رائعة وطرق عصرية.»
وستكون مشكلة المستقبل الكبرى في معرفة ضرورة إعادة تنظيم المجتمعات، حتى تكون على مستوى عديمي الالتئام ، وذلك تجاه تعذر رفع هذا الجحفل من عديمي الالتئام إلى شيء من النشوء، وذلك إلى أن هؤلاء لا يكسبون شيئا من ذلك، فمهما يكن من حقدهم على الخواص يتوقف على الخواص دائما ما ينتفع به العدد الأكبر من تقدم.
ويظهر من حال العالم الحاضرة أنه عاد لا يمكن أن يكون للحكومة غير واحد من شكلين: سيطرة الخواص، أو دكتاتورية الصعاليك، فإلى هذا الشكل الثاني تميل أوربة مقدارا فمقدارا، وإلى الشكل الأول ستسير بعض الأمم ذات يوم، فيكون في هذا الخيار سر عظمتها.
الباب السادس
عوامل التاريخ الجديدة
الفصل الأول
تطور العالم الاقتصادي وعناصر اليسر الحديثة
اختلفت العوامل التي وجهت نشاط الأمم في مختلف أدوار تاريخها، فكانت عوامل حربية حينا وعوامل دينية أو سياسية حينا آخر، وبين هذه العوامل المختلفة، أي: العرقية أو الدينية أو السياسية أو الحربية أو الاجتماعية، التي أثرت في مختلف مراحل التاريخ، مثلت العوامل الاقتصادية دورا لم تزل أهميته تعظم، وقد بلغت هذه العوامل الاقتصادية من النفوذ ما جعل أنصار المذهب المعروف ب «المادية التاريخية» منها جوهر جميع الحضارات.
وترى الشأن الحديث للعوامل الاقتصادية مدينا - على الخصوص - لاكتشافات العلم التي غيرت شروط الحياة تغييرا تاما.
واليوم إذا عدوت زراعة بلد وجدت ثروته تتوقف على مقدار ما يتصرف فيه من قوة بخارية، فما كانت إسبانية وإيطالية والبلقان الفقيرات في الفحم الحجري لتساوي اقتصاديا إنكلترة وأمريكة الغنيتين به مثلا، ولو عرفت القرون القديمة أمر الفحم الحجري ما بقيت بلاد اليونان وإيطالية قطبي الحضارة الكبيرين لا ريب. •••
وقد جعلت كثرة وسائل النقل الحديثة مختلف الأمم من كثرة التضامن ما يكون عمل حكوماتها معه دون عمل صلاتها التجارية.
وتشاهد نتائج مثل هذا التواصل يوميا حتى بين البقاع البعيد بعضها من بعض، ومن ذلك أن مربي الحيوانات الأستراليين مثلا يضطرون عن عدم وجود الفحم الضروري للمصانع إلى إرسال صوف ضأنهم إلى إنكلترة لينسج فيها، على الرغم من نفقات النقل المضاعفة.
ولا يستطيع بلد في الوقت الحاضر أن يعيش من منتجاته حصرا، وكان أوليس في جزيرته قائما بحاجات نفسه مستعينا ببنيلوب وبعض الرعاة، والآن يتطلب صنع ثوب بسيط تعاون قارات كثيرة، واليوم ترانا محاطين بأشياء تأتي من جميع أجزاء العالم، فتبصر أحقر مواطن مدينا بحياته اليومية للعالم بأسره.
ولسهولة العلاقات الأممية الحديثة في التاريخ كثيرا نتائج لا يمكن إلا أن تعظم، فكل أمة مضطرة إلى البحث في الأقاصي عما يعوزها، وهي تدفع ما يفيض من إنتاجها ثمنا له، ولا تعيش الأمم الحاضرة إلا بتبادلها ما تنتج، وقد بلغ الإصدار من فرنسة عشر مرات زيادة على ما كان عليه سنة 1840، وقد بلغ الإصدار من الولايات المتحدة عشرين مرة زيادة على ما كان عليه في تلك السنة.
وهكذا تقوم الأمم بمزاحمة اضطرارية يحدد بها ثمن بيع السلع، ومن ثم عادت الأجور لا تعين بإرادة العامل ولا بإرادة صاحب المصنع، بل بإمكانيات البيع، وفي الاقتصاد السياسي تكون للحوادث البادية النفع في الغالب نتائج مخالفة للمرجو منها. ومن ذلك أن نال عمال الإنكليز ارتفاعا عظيما في الأجور بواسطة نقاباتهم، فأدى هذا إلى زيادة ثمن التكلفة، فإلى بطالة واسعة المدى لما حدث من صعوبة البيع تبعا لذلك، أي: جاءت هذه النتيجة المخالفة مخالفة مطلقة لما كان العمال وزعماؤهم يعتقدون نيله. •••
يوجد بين الحوادث الاقتصادية التي تصبح ناظمة العالم الكبرى ما سيكون أعظم من العوامل السياسية القديمة بمراحل، ومن ذلك مثلا: نقص الأسواق الخارجية بالتدريج، هذا النقص الذي يزيد يوما بعد يوم، والواقع أن جميع البلدان تجهز بالآلات مقدارا فمقدارا لتقوم بحاجات نفسها وتصير مصدرة.
وفي أيامنا تبدو التدابير الاشتراعية البالغة النفع في طفولة الأمم من عدم الجدوى ما لا تحل المشاكل الاقتصادية معه.
وتعد البطالة التي تشاهد لدى كثير من الأمم الأوربية كإنكلترة مثلا نتيجة إغلاق الأسواق الخارجية بالتدريج.
وتعتقد بعض الدول قدرتها على معالجة أخطار هذا الوضع برسوم الجمارك التي تحول دون مزاحمة المنتجات القومية، ولكن هذه الدول إذ تخشى المقابلة بالمثل فإنها تضطر إلى عدم الإيغال في هذا السبيل، ولا ريب في أن آخر حاصل للإفراط في الإنتاج لدى مختلف الأمم هو حدوث نقص كاف في السكان يكون به مناسبا لوسائل العيش.
ويمكن تمثل مقدار ما تؤدي إليه البطالة من خراب عند التفكير في اضطرار إنكلترة إلى تموين ثلاثة ملايين بطال، وتعد هذه المشكلة من أصعب مشاكل الحياة الاقتصادية في العالم، وقد لخصت «الطان» ناحية هذه الأزمة العامة في السطور الآتية: ... مرض مزمن لدى بعض الدول، حاد لدى الأخرى، من غير أن يمكن التفريق بين الدول الرأسمالية والدول الشيوعية، وإذ إن هذه الدول تصاب بهذا المرض على نحو واحد فإنه يهدد بإهلاك أقوى الأمم، وذلك بتعرضها لعدم صبر الجمهور، أو لأن هذه الأمم تسع تلك الدول في مقابل تضحيات مبيدة. ... ونرى أنه يوجد لدى البلاشفة من البطالين بمقدار عمال الإنكليز وممولي الأمريكيين، وما سبب هذا المرض الذي يبدو الخبراء الاجتماعيون عاجزين تجاهه إذن؟ ... ... ومع ذلك لم يصل الإنكليز الذين يعانون هذه المصيبة منذ ثمانية أعوام إلى نتيجة عملية حتى الآن، خلا ما هو واقع من دفعهم في كل سنة مليارات إلى عمال يائسين، يفقدون ذوق العمل وعادته شيئا فشيئا. ... وعند سكرتير المالية السابق مستر صموئيل: أن البطالة ناشئة عن نقص المبيعات الإنكليزية في الأسواق الخارجية نتيجة لارتفاع ثمن التكلفة، فقد قال: «إن عمالنا أرادوا تعيين أجورهم إجمالا، مع أن المشترين من الأجانب هم الذين يعينون هذه الأجور.» ... والوضع في جميع البلدان هو أن الصناعات التي تقوم بالخدم هي ما تؤلف به بالتدريج طبقة ممتازة إجحافا بالزراع أولا، وبالعمال ثانيا. والخلاصة: هي أنه كلما ثقلت وطأة الاستخدام العام والخاص على الأمة قل إنتاجها، وهي تصبح بذلك كالمصنع الذي يعتصر نفقاته العامة. ... وقد تذرعت فرنسة بما لم تتذرع به إنكلترة من حكمة، فلم تضح بزراعتها في سبيل صناعتها، ولا ريب في أنها عاشت ضمن أحوال أقل رغدا وأنها لم تثر على ذات الوزن، ولكنها تمتعت باستقرار يحسدها عليه جميع العالم. وليس أقل من هذا صحة كون سكون تناسلها يهيئ لها فرصة زيادة العمل، وإن كان يجعلها على مستوى متأخر في المسابقات العسكرية.
وكيف تعد وسائل العيش لجمع البطالين المتكاثر؟ تقترب الساعة التي لا تستطيع ميزانية أن تمونهم فيها، ولا يمكن أن يوجد ما لا نهاية له من الأعمال العامة لإعاشتهم، والآن يكتفى بإيجاد طرق لذلك. ومن ذلك أن قللت إيطالية رواتب جميع موظفيها ومنهم الوزراء، بمقدار اثني عشر في المائة. ومن ذلك أن كثيرا من الشركات في إنكلترة يحاول خفض الأجور على السواء، ولا بد من انتحال هذا الحل الموقت بحكم الضرورة في جميع البلدان التي يزيد سكانها على وسائل العيش فيها. •••
وتكفي الملاحظات السابقة - على اختصارها - لبيان كون الحوادث الاقتصادية في أيامنا تؤلف شبكة من العلل والمعلولات أعلى من جميع العزائم، فيخضع لسلطانها جميع عناصر الحياة الاجتماعية المترجحة بين عدد السكان وأدق جزئيات العيش.
ومن ذلك أن أصبح عدد سكان ألمانية 67 مليونا في سنة 1914، بعد أن كان 36 مليونا في سنة 1871، أي أنه صار ضعف ما كان عليه تقريبا، فوجب لتغذية سكان أخذوا يجاوزون وسائل عيشهم بهذا المقدار أن يبحث عن منافذ في البلدان البعيدة، فأدت هذه الضرورة إلى إيجاد بحرية تجارية، ثم إلى إيجاد بحرية حربية لحمايتها.
ووجد هؤلاء الواردون الجدد على الأسواق الاقتصادية الأجنبية أنفسهم مزاحمين لأمم أخرى مصدرة مستقرة منذ زمن طويل، فنشأت عن ذلك منازعات كانت من أسباب الحرب الأخيرة.
ومع أن الحروب السابقة كانت حروب ضم ناشئة عن طموح الملوك على العموم، فإن الحروب الحاضرة تنشأ عن مصالح اقتصادية على الخصوص. •••
وبما أن أجور العمال تحدد بثمن التكلفة ولا تتبع إرادة العمال ولا إرادة أصحاب المصانع، فإنه صار يبحث عن إمكان زيادة الأجور من غير أن يزاد ثمن التكلفة.
حلت هذه المعضلة المستعصية حلا جزئيا بتجارب أدت إلى ما سمي: مذهب العمل العقلي، وقام هذا المذهب على سلسلة من الطرق التي يزاد بها الإنتاج من غير أن يزاد العمل، فإذا ما أفرط في توسيع مدى هذا المذهب الرائع في ذاته أمكن أن يؤدي إلى زيادة في الإنتاج موجبة بطالات جديدة.
وكان من النتائج النهائية لمقتضيات الاقتصاد التي أشرنا إلى بعض عناصرها، ولا سيما هبوط ثمن التكلفة: إيجاد مصانع واسعة؛ حيث يؤدي التخصص في العمل إلى دخل أكثر اقتصادا. وقد أدى هذا الاحتياج إلى مصانع أكثر اتساعا، ومن ثم أغلى ثمنا، إلى جعل إيجادها جماعيا، فبما أن قليلا من المستصنعين يكون على شيء من الثراء ما ينشئها معه، فإن معظم المصانع المهمة وضع على شكل شركات مغفلة يملكها ألوف من أصحاب الأسهم.
إذن تسفر مقتضيات الاقتصاد التي نعددها إلى تحول الرأسمالية الفردية إلى رأسمالية جماعية، وتختلف هذه الرأسمالية الجماعية عن الرأسمالية الحكومية التي يحلم بها الاشتراكيون، فتؤدي دائما إلى زيادة ثمن التكلفة، ومن ثم تؤدي إلى نقص أجور العمال.
وقد أثبتت الوقائع، خلافا لزعم كارل ماركس: أن أسهم مواثقات الولايات المتحدة العظيمة موزعة بين عدد متصاعد من الأيدي، ومما لاحظه مسيو بول رينو «أن عدد أصحاب الأسهم في شركة الزيت بلغ 77200 في سنة 1926 بعد أن كان 7659 في سنة 1917 ... فالمشروع الكبير يتحول إلى شيء مشترك بين العامل والمستصنع.»
وبذلك يمكن تصور مقدار الازدراء الذي ينظر به العمال الأمريكيون إلى الاشتراكية الأوربية، فهي لا تعد عندهم غير عنوان لتعطيل كل جهد وللاستعباد الحكومي وللمساواة في البؤس. •••
ومن أشد العوامل الاقتصادية الحديثة فعلا هو زيادة السرعة باستمرار في جميع ناظمات الحوادث، ويشتق تأثيرها من السنن العلمية التي لا يخلو ذكرها من فائدة.
تقوم معادلات الكون الكبرى على الحركة، أي القوة، وعلى مقاومة الحركة، أي السكون، أعني: خاصية المادة الجوهرية.
وتدل المعادلة الميكانية الأساسية
1
على ما للجرم والسرعة من شأن متقابل، وعلى الوجه الذي يقوم به كل من هذين العنصرين مقام الآخر من غير تغيير في النتيجة، ومن الممكن إذن أن يحل صغر الأجرام محل زيادة سرعتها، ومن ذلك أن قام تقدم المدفعية على إحلال القنابل الصغيرة ذات السرعة العظيمة محل القنابل الضخمة ذات السرعة الضعيفة.
وقد بينت في كتاب آخر أن من الممكن تصور آلة نظرية مؤلفة من كرية دقيقة تدور في دائرة فص خاتم، فتنتج بسرعة دورانها حول المركز من القوة ما يعدل قوة ألف قاطرة بخارية.
ويتم إحلال السرعة محل الجرم في الصناعة مقدارا فمقدارا، ففي الماضي كانت تستخدم دواليب ضخمة ذات محور عمودي يدور بالمياه الجارية، وفي الزمن الحاضر تتخذ المصانع المائية القائمة في أسفل الجبال دواليب يبلغ قطرها بضعة سنتيمترات فقط، ولكن مع تزويدها بحركة دورانية سريعة جدا، فينال الإنتاج نفسه بفصل ارتفاع الحوض الذي يمدها.
وإلى زمن قريب كانت سرعة الآلات محدودة جدا ما قامت المحركات على قوة الإنسان والحيوان والريح والماء فقط.
ولما اكتشفت الطاقة المحركة الكامنة في الفحم الحجري زادت سرعة الآلات وعددها زيادة عظيمة، فبالنظام الآلي ظهر عصر السرعة، أجل، استمرت المصانع على استخدام عدد من العمال المنظورين، ولكنه يعمل بجانبهم جمع من العبيد الخافين الذين يزيدون الإنتاج زيادة هائلة، ويتألف هذا الجمع من القوى المستخرجة من الفحم الحجري، وفي كتاب «المعارف النفسية حول الحرب» بينت أن ما ينتجه العمل حين الصراع بال 190 مليون طن من الفحم الحجري الذي تستخرجه ألمانية من أرضها، يعدل إنتاج 950 مليون عامل؛ ولذلك يمكن أن يقال إن عدد عمال ألمانية الخافين في ذلك الحين كان 950 من الملايين، أي أكثر بمراحل من ملايين السكان ال 65 الذين أشارت الإحصاءات إليهم. •••
ويبدو شأن السرعة العظيم في جميع حوادث الحياة، ولا سيما في إيجاد الثروة، ويظهر هذا الإيجاد مرتبطا ارتباطا وثيقا في سرعة تداول النقد.
والواقع أنه يمكن استبدال سرعة التداول بضخامة رأس المال، كما أنه يمكن أن يعتاض من صغر الجرم بزيادة سرعته، وليس المهم في التجارة الحديثة مقدار الربح من بيع إحدى السلع، بل سرعة تجديد هذه السلعة، ومن الممكن - كما هو واضح - أن يؤدي ربح خمسة في المائة من بيع السلعة بيعا مكررا في الغالب إلى ثمرة أعظم من ربح خمسين في المائة من ذات السلعة التي تترك زمنا طويلا في المخزن.
والسرعة تمثل دورا مهما في العلاقات الدولية أيضا، فهي إذ قللت المسافات عمليا أسفرت عن تماس أمم غير متعارفة سابقا، فغيرت أحوال معايشها غالبا، وإلى وقت قريب كان لا بد من مدة خمسة عشر يوما يقضى في السفر بين باريس ومرسلية، فصار يكفي قضاء ما بين ثلاث ساعات وأربع ساعات لقطع عين المسافة.
ولكن تقريب المساوف إذا كان قد أوجب جمع ما بين مصالح الأمم فإنه لم يوحد بين مشاعرها بعد، فالتواصل الاقتصادي لا يحدث تواصلا نفسيا.
وقد امتدت زيادة السرعة من العالم المادي إلى العالم النفسي، ويلوح أن الإنسان العصري حائز نمطا أشد سرعة في الرؤية والإحساس والترجيع، ولو أمكن أن تقاس مدة أيامنا بمقدار العمل المنجز ومجموع المشاعر المتراكمة في هذه الأيام لأمكن أن يقال إن طول الحياة زاد زيادة بالغة باكتساب السرعة. •••
والسرعة على الخصوص هي التي تميز الحضارة من الحضارات السابقة، وهي تبرز بين أهم القوى الاقتصادية التي تميل - إذ ينضم بعضها إلى بعض - إلى تكوين سلطة عالمية مغفلة بالغة من القدرة ما تسيطر معه على إرادة الأمم والمشترعين والملوك، وتؤدي هذه القوى الجديدة إلى تقدم من يعرف ملاءمتها من الأمم، وتسوق إلى انحطاط مقدر من يعجز عن ملاءمتها من الأمم.
وإذ إنني لا أستطيع هنا أن أبحث في سلسلة التحولات الاقتصادية التي يعانيها العالم في الوقت الحاضر، فإنني ألخص أهمها ضمن تأملات قصيرة، فأقول:
لم يكد يمر قرن على الزمن الذي كان بعض الأمم فيه مستقلا عن بعض، واليوم لا يستطيع بعض الأمم أن يستغني في الحياة عن بعض.
من الأدلة على تواصل الأمم في الوقت الحاضر ما حدث من اشتراك الولايات المتحدة في الحرب، وكانت هذه الحرب التي لاح أنها لا تكترث لها من نتائج تطور العالم الاقتصادي حديثا.
من نتائج تواصل الأمم أن تؤدي حرب بين أمتين إلى حرب بين جميع الأمم.
يؤلف مختلف بلدان العالم إمبراطورية صناعية عظيمة في الوقت الحاضر، وإن كان بعضها منفصلا عن بعض ظاهرا.
يتوقف غنى الأمة أو فقرها - في الغالب - على الصلات التجارية البعيدة المستقلة عن الحكومات تماما.
تميل قدرة بعض البلاد المالية إلى تمثيل دور أعظم بمراحل من الدور الذي كانت تمثله قدرتها الحربية، وينشأ قسم من تفوق الأمريكيين الحاضر عن أنهم أصبحوا أصحابا لعدد كبير من الصناعات الأوربية، وقد تكون هذه الظاهرة أكثر تأثيرا في حفظ السلم من جميع القرارات الفقهية التي تصدر عن جمعية الأمم.
ويكفي التعداد البسيط السابق لإثباتنا قلة أهمية عزائم الملوك والمشتركين ونظريي جميع الأحزاب تجاه الضرورات الكبرى التي تهيمن على سير العالم الاقتصادي في الوقت الحاضر، ولم يسجل التاريخ قط معلومات أصح من هذه.
الفصل الثاني
الوضع الحاضر لأهم دول العالم
كان العالم إلى وقت قريب خاضعا لمبادئ دينية وسياسية واجتماعية بسيطة إلى الغاية مقبولة على العموم، ولم تصنع الثورات غير تغيير الأسماء في الغالب.
والأمر غير ذلك في هذه الأيام، فما أبصر العالم ظهوره من قوى جديدة حول شروط حياة الناس واحتياجاتهم ومشاعرهم وأفكارهم تحويلا تاما.
ويجاوز العالم كله دورا من أسود أدوار تاريخه الطويل وأنورها معا: من أنورها؛ لما تم فيه من الاكتشافات العجيبة التي حولت وجه الحضارات المادي. ومن أسودها؛ لما يحيط بالأمم من وعيد.
وإذ لم يعن لي أن أعرض مفصلا وضع مختلف البلدان فإنني أخصص بعض السطور لكل منها، فهي تكفي لبيان الفوضى العامة الناشئة عن التطور الصناعي والاقتصادي والسياسي البالغ من السرعة ما لا يلائم مزاج الأمم النفسي الموروث. •••
وضع فرنسة: عانت فرنسة ست سنوات ونظم في أقل من قرن ونصف قرن، وقد بلغت حكوماتها من الانقسام ما لم تبق معه إلا بمعجزات التوازن المجددة بلا انقطاع.
واليوم يوجد في فرنسة أحزاب كبيرة كثيرة يفصل بينها تناظرها، ويعد الحزب الجذري (الراديكالي) والحزب النقابي والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي أكثرها نفوذا، ويقترب الحزب الجذري من الاشتراكية شيئا فشيئا، وسيندمج فيها ذات يوم حتما.
وقد استحوذت على هذه الأحزاب المختلفة أوهام يتعذر تحقيقها ويعدها أنصارها من الحقائق الساطعة.
ومع ذلك فإن هذه الانقسامات السياسية ليست في غير الظاهر، فالواقع أنه لا يوجد في فرنسة غير حزب واحد، غير الحكومة، وإن اختلفت الأسماء كما كررت ذلك غالبا.
فالفرنسيون من أي مذهب كانوا يطلبون تدخل الدولة في أدق الأمور، والاشتراكية هي أكثر الأحزاب طلبا لتدخل الدولة، وليس في غير هذه النقطة ما تختلف عن أقلها تقدما.
ويعد الاشتراكيون خطرين بأوهامهم كما يعدون بمذاهبهم. ومما لوحظ في الغالب كون الاشتراكيين هم الذين حملوا على الجيش عشية الحرب وعلى خدمة السنين الثلاث، وهم الذين أسقطوا الحكومة في يونيو سنة 1914 متذرعين بأنها كانت تبالغ في تصوير الخطر الخارجي.
وفرنسة هي - على الخصوص - ضحية أغاليط سياسييها وما ينشأ عن هذه الأغاليط من القوانين، ومما رئي ذلك المثال البارز في تطبيق قانون التأمينات الاجتماعية المشئوم الذي وضع لغرض إنساني، فأدى من حيث النتيجة إلى فتن واضطرابات وإلى ارتفاع مفاجئ في أثمان الأقوات في كل مكان.
وبما أن العمال رفضوا، كما كان يمكن أن يبصر، تأدية ما يطلبه القانون من دفعات على أجورهم، فقد نشأ عن ذلك بحكم الضرورة اضطرار رؤساء المشروع إلى الدفع بدلا منهم، ومن ثم إلى رفع ثمن المنتجات رفعا مؤديا إلى زيادة معدل الحياة حالا وتعذر إصدار السلع التي يوجب ارتفاع ثمن التكلفة بيعها بأغلى مما يبيعها به المنافسون من الأجانب.
وبأساليب تختلف عن تلك كثيرا عرف مستصنعو الولايات المتحدة أن يضمنوا للعمال ما تقتضيه شيخوختهم من رواتب تقاعد.
ومن الصواب أن قيل إن تطبيق قانون التأمينات الاجتماعي عد من قبل جميع أعداء المجتمع - ولا سيما الشيوعيون والاشتراكيون - مرحلة إلى الثورة الاجتماعية التي يحلم بها جحفل عديمي الالتئام.
وكثير عدد هؤلاء الأعداء البالغي العمى، أي: الشديدي الخطر على المجتمع الحاضر، وكثير من الصحف روى أنه أنشد في المؤتمر الذي عقد في نيم في شهر يوليو سنة 1930، جامعا لممثلي ثمانين ألف مدرس تابع للنقابة القومية كما تسمى، النشيد المعروف باسم «الأممي» والقائل بتقويض المجتمع.
وزيادة جديدة في الرواتب هي ما يطلبه هؤلاء المدرسون، هذه الزيادة المتعذرة لأن الزيادة المتصاعدة في النفقات العامة هي كما قال رئيس الوزراء: تقفز بالميزانية من المليارات الخمسة التي كانت عليها قبل الحرب إلى اثنين وخمسين مليارا في سنة 1930.
ويضيف هذا الرئيس إلى ذلك قوله: «لا يصنع المجلسان غير زيادة النفقات بدلا من تحديدها.» •••
وضع إنكلترة: تلوح إنكلترة أقل ارتجاجا بسبب ثباتها المتأصل، ومع ذلك فهي مضطربة كثيرا في حياتها القومية لما تقاسيه من اضطرابات وبطالة، ونزاع شديد بين أنصار حرية المبادلة وأنصار نظام الحماية، وعصيان ممتلكاتها ومستعمراتها.
ومن أهم نتائج الحرب وجميع المؤتمرات التي عقبتها نقصان سلطان إنكلترة السياسي والحربي، فهي بعد أن أضاعت إيرلندة رضيت بأن تصبح مستقلة تقريبا مستعمراتها السابقة التي صارت ممتلكات، ولا سيما كندة وأسترالية، واليوم تطالب مصر والهند بمثل هذا الاستقلال الذاتي.
وتكون أحكامنا حول الأمم الأجنبية مختلة حتما، وذلك لاشتمال هذه الأمم على عروق وأديان ولغات مختلفة، كما هي حال الهند مثلا، فالهند قارة واسعة يمكن أن يبصر فيها عند التنقل البسيط جميع وجوه حياة الإنسان منذ عصر الحجر المنحوت حتى عصر التلفون، فوحوش نلغيري ومحاربو راجبوتانا المدججون بالسلاح، والعباد الذين تطالبهم آلهتهم القاتمة على شواطئ أوريسا بأن يسحقوا أنفسهم تحت عجل عربتها، ينتسبون إلى أمثلة من البشر لا تربط بينها أية رابطة كما يمكن أن يقال، وذلك إذا عدوت الأوهام التي يعزوها إليهم مصلحون صبيانيون.
واليوم تشتمل الهند على 319 مليون آدمي، أي تحتوي خمس سكان العالم بأسره، ويتكلم هؤلاء الأهلون أكثر من مئتي لغة يختلف كثير منها اختلافا أعظم مما بين اليونانية والفرنسية، وتقتسم سبعة أديان أو ثمانية أديان عظيمة روح المؤمنين، ويفصل أكثر من ألفي طائفة بعض هؤلاء السكان الكثيرين عن بعض بحواجز محكمة، وتبلغ هذه الفروق الاجتماعية من الشدة ما لا يمكن عقد زواج بين أعضاء من طوائف مختلفة، ويعيش سبعون مليون منبوذ منفصلين عن بقية الأهلين وخاضعين لقوانين خاصة، فجميع هذه العناصر المتباينة يجعل من المتعذر ما يحلم به مصلحو الهندوس من حكومة مستقلة.
وليس وضع إنكلترة الداخلي أصلح من ذلك، فهي قد رأت نفسها مضطرة إلى معاناة حكومة اشتراكية وتموين ثلاثة ملايين بطال ثقيلي الوطأة على الميزانية، وتظهر حكومة العمال الإنكليزية في وضع حرج جدا، وذلك أنها كانت قبل قبضها على زمام الأمور تعد بمعالجة جميع الأمراض التي يألم منها البلد، ولا سيما البطالة، غير أن من الطبيعي ألا تستطيع تغيير وضع ناشئ عن ضرورات مستقلة عن جميع العزائم. •••
وضع ألمانية: قطعت ألمانية بعد الحرب دورا عصيبا جدا، فقد اضطرت إلى مكابدة إفلاس مالي جلب الخراب إلى عدد كبير من المواطنين، ولسرعان ما نهضت بفضل قدرة أرباب صناعتها ورجالها السياسيين على التنظيم، فأخذت تبدو من فورها أول دولة في أوربة من الناحية الاقتصادية.
ونمت بحرية ألمانية وجيشها وطيرانها نموا يقضي بالعجب، وتفوق ألمانية منافستها القديمة: إنكلترة، في الأسواق العالمية.
وخيال ألمانية في التفوق الاقتصادي أنعم عليها بنهضة صناعية عظيمة، والآن تجهز مصانعها جميع الأمم بالآلات الزراعية والخطوط الحديدية التي كانت تشتريها من الولايات المتحدة، ويزيد دخل العامل الألماني على دخل العامل الفرنسي بمقدار الثلث، وينشأ هذا عما يكتسبه العامل الألماني في المدرسة وفي الثكنة من نظام، وينشأ عن هذا كون أثمان التكلفة في ألمانية أقل منها في البلدان الأخرى، وهذا ما يسفر عن تفوق تجاري لا جدال فيه.
ووضع رائع مثل هذا مما يضمن لألمانية عظمة جديدة مع نهوضها، بيد أنها تنقاد بتأثير المتطرفين من جميع الأحزاب، لأفكار قائلة بالانتقام وتعديل المعاهدات، مهددة أوربة بحرب أشد هولا من السابقة، مؤدية إلى ختام حضارات الغرب لا ريب.
والمسألة هي أن يعرف: هل تتفق على إيقاد حرب جديدة ألمانية الراغبة في الإفلات من الغرامة الثقيلة المفروضة عليها، وإيطالية الطامعة في التوسع، وروسية التي ترجو نشر إيمانها؟
ومن يمن سكون أوربة عجز ألمانية عن تجديد تسلحها حتى الآن وعجز روسية عن القيام بحرب خارج حدودها، وليس تحالف ألمانية وإيطالية وروسية الممكن نظريا مما يسهل تحقيقه في هذه الأيام، أجل، سيقع هذا التحالف في بضع سنين، غير أن من المحتمل أن يدرك الألمان حينئذ إمكان إغناء النزاع الاقتصادي للغالبين، مع أن مصير الغالب والمغلوب إلى الخراب التام في النزاع الحربي. •••
وضع بولونية: اليوم تنم بولونية على ناحية قاتمة من الحياة الأوربية، ويعد هذا البلد الكبير من البلدان التي تدل أكثر من غيرها على ما تصير إليه الأمم المقسومة بين أحزاب سياسية متنافسة، فبعد أن قسمت بين جيرانها ومحيت من التاريخ السياسي أعيدت إلى الوجود بالحرب، غير أن الوحدة المادية لم تنعم عليها بالوحدة الأدبية، وهي لم تحافظ على كيان تهدده روسية وألمانية كل يوم إلا بنظام دكتاتوري فقط، وإليك كيف دلت إحدى الصحف الأجنبية في الأسطر الآتية على الأخطاء التي تطوق حياة بولونية:
أصبحت بروسية الشرقية واقعة ضمن بولونية، وفصلت دنزيغ الألمانية بنسبة 97٪ عن الريخ مراعاة لبولونية، وخسر سكان التخوم الألمانية الشرقية ما وراءها ووجدوا في حال من الانحطاط الاقتصادي ... والآن لا تزال الحال الروحية المعادية لبولونية والسائدة لألمانية نكدة جدا، فيجب أن يقال إن العلاقات الألمانية البولونية من أسود نقاط السياسة الأوربية.
وكان يمكن أن يصبح شأن بولونية السياسي عظيما لو دعيت مع رومانية إلى تأليف حاجز أمام ما يمكن وقوعه من غزوات الجيوش البلشفية. •••
وضع النمسة: ذهبت النمسة ضحية خطأ سياسي اقترفه رجل النظر الأمريكي الذي ظهر دكتاتور معاهدة الصلح الحقيقي، فقد فصلت عن أجمل ولاياتها وأخذت تقضي حياة صعبة جدا، ومن الطبيعي أن تحلم بضمها إلى ألمانية التي تعيد إليها ازدهارها الماضي، ويعد هذا الضم الذي لا مفر منه من أعظم المشاكل السياسية في الوقت الحاضر، ومن الواضح أن يقلق هذا الضم بال إيطالية وبال أمم ظافرة أخرى، ومع ذلك فسيتم بالتدريج ضمن مدة لا تزيد ست سنين لا ريب.
وستكون نتيجة هذا الضم النهائية جعل ألمانية أكثر قوة وأعظم مما كانت عليه قبل الحرب، وهنالك يرى تجدد «إمبراطورية جرمانية، إمبراطورية شارلكن، التي كانت مستقرة بفينة، فتستقر الآن ببرلين.» كما أنبأ به مسيو تيير بعد معركة سادووا. •••
وضع بلجيكة: تعد بلجيكة أيضا مثالا للمصاعب التي تعانيها الأمم الأوربية حتى تفوز بشيء من الاستقرار السياسي، فهي مقسومة إلى قسمين متساويين بعقائد دينية واجتماعية متباينة، ويزيد هذا التنافس بتنافس العروق.
وكذلك المشاكل الاجتماعية زادت في بلجيكة، وذلك لأن العرقين اللذين يعمرانها، وهما : فلامان الشمال، وفالون الجنوب، يتكلمان لغتين مختلفتين، ويظهران مشاعر مختلفة أيضا، وللفلامان مناح انفصالية يمكن أن تكون خطرة على مستقبل البلد، وتبدو مطالبهم السياسية عظيمة جدا أيضا، فهم يطالبون بأن تكون مدة الخدمة العسكرية ستة أشهر، وبأن تفتح مدارس فلامانية خالصة، إلخ. •••
وضع إسبانية وإيطالية: لم يفلت هذان البلدان من الفوضى التي تنشأ عن تحقيق الاشتراكية، إلا بفضل دكتاتوريات شديدة رضي بها جميع من أتعبهم عدم النظام.
ولكنه يجهل ما يصير إليه هذان البلدان الكبيران إذا عاد لا يكون على رأسهما أولئك السادة الفعالون الذين وفقوا للقضاء على الفوضى.
والآن تقضي إيطالية حال سعادة لا عهد لها به أيام كان مختلف الأحزاب السياسية - كما هو أمرها في فرنسة - يناضل للوصول إلى السلطة، لا لزيادة سعادة البلد، وكذلك الصناعة قد نمت ضمن نطاق الإمكان لدى هذه الأمة التي ليس عندها فحم حجري، وما كان قد ضاع من جهود في الخصومات السياسية سابقا خصص اليوم لإصلاح الوضع الاقتصادي.
ومهما يكن مستقبل الدكتاتورية فإنها تؤدي إلى نتيجة ثابتة تمنح بها إيطالية عادات في النظام والتدريب وحب العمل واحترام السلطة، أي أمورا لا يستطيع بلد حديث أن يزدهر بغيرها. •••
وضع دول البلقان الجديدة: لم يكن الرئيس ولسن ليتمثل ما كان يعد من مصائب حينما كان يتصرف عند وضع معاهدة الصلح، في سلطانة المطلق الذي هيأته له الأحوال، فيقسم أوربة الوسطى إلى دويلات مستقلة باسم مبدأ القوميات الخائب، فدول البلقان كشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافية التي أقيمت على وجه مصنوع هكذا، والتي كانت تعيش هادئة أيام كانت من أجزاء النمسة، تتخاصم دائما ويتألف منها خطر جدي يهدد سلم أوربة، وما فتئت كرواتية تكون على خصام مع صربية منذ سنة 1928 مطالبة بانفصالها عنها، فيتشاجر نواب الصرب والكروات في البرلمان، ويطالب الكروات بالاستقلال الذاتي، ويعلن الصرب مقاومتهم ذلك بالقوة، ويصرح الكروات بأن «يوغوسلافية لا تستطيع البقاء تحت الطغيان الصربي.»
وفي حديث بين زعيم اتحاديي الكروات ومراسل «الديلي إكسبرس» يقول هذا الزعيم: «هذه هي خاتمة المطاف، فمن المتعذر تماما أن نداوم على إخلاصنا الماضي نحو الصرب ... نحن لا نفكر في تجزئة المملكة، ولكننا نطالب بأن تحرر كرواتية من تدخل بلغراد وفسادها، وأنتم ترون بأنفسكم أننا أمة غربية تماما وأننا ذوو مزاج نفسي يختلف عن مزاج الصرب اختلافا تاما.»
وليس الوضع في بقية البلقان أحسن من هذا، فما بين بلغارية ويوغوسلافية من اختلاف يحمل بذور الوعيد دائما. •••
وهنالك عوامل شقاق كثيرة أخرى تهدد السلم الأوربية، ومن بينها ذكرت جريدة كبيرة ما يأتي:
حسرة إيطالية التي تألم من سوء إنصافها، وسخط هنغارية المبتورة البادي، وغضب بلغارية المضيفة، ووضع لتوانية تجاه بولونية، ووضع ليتونية تجاه روسية، وادعاءات الألمان حول ممر دنزيغ، وليس من شأن مطاليب هذه «القسائم السيئة» مضافة إلى ألوف الحوادث التي قد تنشأ كل يوم عن الحدود الجديدة البالغة سبعة آلاف كيلومتر، أن تسهل الهدوء والوفاق الأوربيين اللذين يصعب بغيرهما تصور قيام السلم الأوربية، حتى مع تدخل جمعية الأمم وتوسطها.
وتبذل بلدان أوربة العظيمة بتأثير جمعية الأمم جهودا مستمرة في سبيل اتحادها ولو قليلا، ومما يورث النفوس يأسا من أسباب العقل ألا ينتهي أقطاب السياسة المجتمعون في جنيف إلى إدراك ضرورة التعاون تجاه الأخطار المتوعدة من كل جانب. •••
وضع روسية: من العبث أن تفصل حال البؤس التي غرقت فيها هذه الإمبراطورية الواسعة بفعل الثورة البلشفية، وتجعل حكومتها الشرطية القائمة على الهول فقط أمر الحياة قاسيا جدا لدى جميع المواطنين، فقد قامت اشتراكية حكومية مبالغة في التدقيق مقام الصناعة الخاصة، وزادت وطأة الأزمة الاقتصادية التي تعقب أدوار السلب والقتل. وقد وقفت مصادر بيت المال على إيجاد جيش يقوده متعصبون يمكن عقائدهم السياسية ذات الشكل الديني أن تكون بالغة الخطر على سلم أوربة، وعلى سلام العالم أيضا. •••
وضع آسية: آسية فريسة مصاعب أعظم من التي تقلب أوربة، والصين على الرغم من قدم نظمها، وبسبب هذا القدم البالغ على ما يحتمل تذهب منذ سنين كثيرة ضحية الحروب الأهلية التي تهدد بتخريبها.
وإذا عدوت الحقد على الأجنبي المشترك بين جميع الأحزاب، لم تجد بعد ظهور أي مبدأ جديد في هذه الإمبراطورية الضخمة قادر على تأليف ما بين النفوس. •••
وضع اليابان: لا يزال الدور الذي ستمثله اليابان في العالم الآسيوي مشكوكا فيه بعد، ففي الشرق الأقصى على الخصوص قد أصبحت معضلة السكان هائلة، ومما ذكرته في كتاب سابق كون زيادة السكان في ذلك الطرف الأقصى من العالم ستودي إلى حروب جديدة حتما.
وترى اليابان الزاخرة بالأهلين سكانها يزيدون مليونا في كل عام باستمرار، فعادت لا تدري ما تصنع لإعاشتهم، ومن المتعذر إرسالهم - كما كانت تحلم - إلى الولايات المتحدة التي استطاعت بفعل الحرب الأوربية أن تبني أسطولا وتنشئ جيشا يجعلانها في مأمن من جميع الغارات. وبما أن الصين نفسها أكثر زخرا بالسكان ولا تستطيع أن تتقبل فائضا من الأهلين، فإن اليابان ستوجه جهودها إلى جهة منشورية على الأرجح.
ولا يوجد ما يخشى كثيرا من معارضة الروس لذلك، فقد أصبحت حضارة اليابان وقوتها العسكرية أعلى مما عند روسية. •••
وضع الجمهوريات اللاتينية في جنوب أمريكة: أوضحت في كتاب قديم بعض القدم كون الجمهوريات اللاتينية الأمريكية عرضة لفوضى دائمة، بسبب توالد العروق الأهلية الأصلية بعرق الفاتحين من الإسبان.
وما انفكت هذه النبوءة تتحقق، فقد رأينا في سنين قليلة أن البيرو وبوليفية والأرجنتين والبرازيل، دع المكسيك، فريسة الحروب الأهلية وصولا إلى تغيير حكوماتها مرة أخرى، ومع ذلك فإن هذه الحكومات ليست غير دكتاتوريات بسيطة على أشكال مختلفة، وإن اتخذت نظم الولايات المتحدة نماذج لها، وما كان ليوجد مثال أصلح من هذا لإثبات مقدار اتباع النظم السياسية لنفسية الأمم التي تدعوها إلى الحكم، لا للأوهام التي يتصورها النظريون البالغو الجهل للضرورات التي تسير الناس في الحقيقة.
ومع ذلك فإن تدخل حكومة الولايات المتحدة بالتدريج أمر لا مفر منه إزاء انحطاط الجمهوريات اللاتينية الزائد، وذلك كما صنعت تجاه كوبا وهايتي، إلخ.
وقد بدأ نفوذ الشمال الأمريكي بالتحكيم، وسينتهي بالاستعمار لا ريب. •••
ويعتقد ممثلو جمعية الأمم أنهم يستطيعون إقرار السلام في العالم بنزع عام للسلاح، ومع ذلك فإن نزعا للسلاح كهذا لا يجدي نفعا، فمما يلوح وضوحه بالتدريج كما هو واقع: أن الحروب ستكون حروبا جوية تقتصر أسلحتها على قنابل مشحونة بالمتفجرات أو على غازات سامة. والحق أن الطائرة الحربية لا تختلف عن الطائرة التجارية إلا بما تنقل من مواد، فلا يبصر مقدار ما ينطوي عليه نزع السلاح من صحة في الوقت الحاضر.
وبما أن الحروب القادمة تلوح أكثر تقتيلا من الحروب الماضية بدرجات، فإن من الصواب بذل الدبلميين جهودهم لاجتنابها، وقد وفقوا لذلك حتى الآن، غير أن عجزهم عن خلق جو سلمي كان من الثبوت ما يسأل معه عن إمكان حدوث هذا؛ نظرا إلى نفسية أمم أوربة في الوقت الحاضر، وسينشأ عن هذا كثير من الصعوبات، وذلك للقوة الهائلة التي تنطوي عليها المشاعر الجماعية: السخط، والحقد، والكرامة المكلومة، إلخ. ويعرب كثير من البلاد العظيمة في أوربة مع التوكيد عن عزمه على اتخاذ العنف وسيلة لتلافي الإجحاف الذي يعتقد ذهابه ضحية له، حتى إن إيطالية وألمانية لا تحاولان كتم مشاعرهما من هذه الناحية، وترى روسية - التي استحوذت عليها أوهام سياسية بالغة قوة الأوهام الدينية - مستعدة للاشتراك مع الأمم التي تخوض غمار الحرب.
وتقوم المعضلة الحاضرة الكبرى على إحلال سلم الوفاق محل السلم المسلح، ولا يزال حل هذه المعضلة غير باد.
الفصل الثالث
سادة العالم الجدد
التفوق الأمريكي
أمريكة الشمالية وحدها هي تشتمل، وسط الانقلاب العالمي، على سعادة نقصت قليلا في الوقت الحاضر، ولكن مع زيادتها زمنا طويلا في الماضي، وتقوم هذه السعادة خاصة على كون الولايات المتحدة قد لاءمت بالتدريج مقتضيات الاقتصاد التي لم يدرك معظم الأمم أمرها حتى الآن.
وعرفت أمريكة ما يهدد الحضارات الأوربية من مخاصمات، فقد عانت حربا أهلية هلك فيها صفوة مواطنيها، وكذلك عرفت ما بين رأس المال والعمل من نزاع، كما عرفت استبداد النقابات ووعيد الاشتراكيين، ثم خرجت الولايات المتحدة من دور الفوضى نهائيا واهتدت بذوي البصائر من أبنائها، فأحلت تعاون جميع الطبقات محل المنافسات والأحقاد التي ما فتئ الاشتراكيون يهددون بها أوربة، وتكاد الولايات المتحدة تجهل ديانة عديمي الالتئام هؤلاء، ويخضع عديمو الالتئام في الولايات المتحدة للقانون بدلا من أن يضعوه.
وإذا حكم في قيمة النظام بنتائجه لا بروعة نظرياته، اعترف بأن مبادئ الولايات المتحدة الحكومية أشد تأثيرا من مبادئ الاشتراكيين الأوربيين.
وأسفر تضامن العمل ورأس المال عن منح الطبقات المجدة يسرا لا عهد لأكثرية البرجواز الأوربيين الساحقة بمثله.
ويحاول قادة الولايات المتحدة إبقاء المثل العليا القائمة على ما فيها من وهم لما يعرفون من شأن المثل الأعلى في مصير الأمة، وهذا تطبيق اجتماعي لذرائعية الجامعات الأمريكية القريبة من نفعية فلاسفة الإنكليز، وإذ أصبحت المنفعة مقاس القيم الاجتماعية فإن الأمريكي يعاني كثيرا في المحافظة على معتقداته القديمة كما يعاني العقلي اللاتيني في تقويضها.
أجل، إن الولايات المتحدة لم تدون حقوق الإنسان باحتفال، غير أنها تجهل فروق الطبقات التي حافظت عليها أوربة بنظام المسابقات القائمة على الاستظهار، فالعامل والقاضي والمحامي والأستاذ يتمتعون باعتبار واحد، ويسهل الانتقال من طبقة إلى أخرى لأن معظم الوظائف انتخابي، وصار أناس من العتالة حكام ولاية ورؤساء جمهورية أيضا، ويرضى فتيان من أسر صالحة أن يكونوا خدمة قهوة مساء ليدفعوا أجرة دروسهم.
وما تم من تجديد في العمل أدى إلى جعل العامل الأمريكي متخصصا كثير الإنتاج بالتدريج، ويبقى هذا الوضع نافعا جدا إلى أن يسفر عن فرط في الإنتاج، ويؤدي إلى الاستهلاك الأدنى الموجب للبطالة، ونبصر بداءة هذا الدور، ومن الممكن أن ينجم عنه استياء شعبي شديد من النوع الذي كان مقدمة للانقلابات السياسية في جميع أزمنة التاريخ.
واليوم ترى الولايات المتحدة دائنة لأوربة بعد أن كانت مدينة لها، وهي إذ تبدو فخورا بنجاحها فإنها تتعود مخاطبتها بالتدريج كما يخاطب السيد مولاه، ناظرة بازدراء إلى هذه القارة القديمة التي يقرضها وعيد الصراع بين الأمم وتنازع الطبقات في قلب كل أمة.
ولهم أن يبدوا هذا الازدراء بلا عقاب بمقدار ما تؤدي إليه قروض الحرب المتتابعة من انتقال معظم الثروة الأوربية إلى الولايات المتحدة، وبفضل هذه القروض استطاعت ألمانية أن تؤدي قسما من دينها كما أصاب مستر كولدج في ملاحظته.
بيد أن خطأ الولايات المتحدة يتجلى في زيادة التعريفات الجمركية التي تجعل الإصدارات متعذرة تقريبا في آخر الأمر، فكل يعلم أن الاستيراد عند كل الأمة لا يمكن دفع ما يقابله إلا بالإصدار، فإذا ما أغلقت أمريكة حدودها دون المنتجات الأجنبية جعلت من الصعب على أوربة دفع الديون المعقودة.
ومع ذلك فإن حكومات الولايات المتحدة تعرف جيدا أن العالم القديم إذا كان لا يستطيع أن يستغني عن بعض المنتجات الأمريكية كالقطن، فإن أمريكة المشتملة على 123 مليون إنسان تستطيع الاستغناء عن المبادلات التجارية ما دام 92٪ من منتجات أرضها وصناعتها يستهلك من قبل سكانها. •••
ويستند ما يدعيه الأمريكيون من تفوق سياسي واقتصادي وأدبي إلى قوة عسكرية هائلة، تزيد كل يوم على الرغم من التصريحات السلمية الكثيرة، وبالكلمة الآتية أشار الرئيس كولدج إلى قوة بلده العسكرية قبل انتهاء سلطته: «لدى بلدنا من الوسائل والأخلاق والروح اللازمة لجمع وتجهيز وحفظ ما يحتاج إليه جيش وبحرية، ساعدا بقذف أكثر من مليوني نفس في ميادين القتال بأوربة على تقرير هدنة 11 من نوفمبر سنة 1918.»
1
وإذ نظر إلى قوة الولايات المتحدة البرية والبحرية التي هي نتيجة الحرب الأخيرة، لم يوجد إذن غير ما قد تخشاه في زمن قريب أو بعيد من أخطار يمكن أن تنشأ عن فضلة سكان أو غزو ياباني.
وكان اكتشاف قوة الولايات المتحدة الحربية إلهاما نافعا لأوربة وأمريكة معا، فاسمع قول مستر كولدج: «لا تجد بلدا في موضوع القوة وموضوع وحدة بلدنا أبدى روحا أروع مما أبدينا، وأظهر شعورا وطنيا أرفع مما أظهرنا، فما اتصف به أرباب صناعتنا من قدرة كبيرة على التنظيم وما تنطوي عليه وسائلنا المالية من طاقة لا ريب فيها، وما بذله الجميع من مساعدة حول الخدمة العسكرية الإلزامية، والزراعة، والصناعة والخطوط الحديدية، والبنوك، وما كان من وجود أربعة ملايين رجل تحت السلاح ووجود ستة ملايين رجل احتياطي، أمور أسفرت عن قدرة صائلة لمواصلة الحرب، وقد تألف من هذا المجموع قوة أعظم مما قدرت على جمعه أية أمة كانت.»
ومما لا مراء فيه أن نفقات أمريكة في سبيل الحرب كانت ضخمة كما ذكر مستر كولدج، فقد مثلت «نصف مجموع ثروة البلد حين اشتراكه في الصراع».
وفي الخطبة نفسها أسهب رئيس الولايات المتحدة على الرغم من تحفظه السياسي في بيان اختلاف وجهات النظر بين أوربة وأمريكة، ومع ذلك فإن مبادئ الحكومة الأمريكية حول نزع السلاح تختلف كثيرا عن المبادئ التي يجادل فيها في جمعية الأمم.
قال مستر كولدج: «تثبت تجارب الإنسان كما يلوح أن البلد الذي يعد دفاعه إعدادا معقولا يعرض قليلا لهجوم معاد، كما يقل تعرض حقوقه لانتهاك مؤد إلى حرب. ... وتقتضي سنة التقدم الأولى أن يواجه العالم الحقيقة، ومن الواضح أيضا كون العقل والوجدان لم يسيطرا على أمور البشر حتى الآن، ومن البعيد جدا أن تلغى غريزة الأثرة الموروثة عن الأجداد، فقوى الشر بالغة القدرة.»
وحول أوربة وحدها يصرح عين الخطيب بأن من المفيد تحديد التسلح، فقد قال: «إننا نتمنى السلم عن اعتقاد صوابها فضلا عن أن الحرب تعوق تقدمنا، وقد بلغت مصالحنا في كل مكان من العالم ما يضر بها ضررا بالغا كل صراع ساطع حيثما يقع، ولو لم نشترك في الحرب العالمية - على الرغم من بعض الفوائد التي نلناها منها بالإصدار - لأصابنا خسر كبير، وذلك بقطع النظر عن الفريق الغالب في نهاية الأمر.»
وهذا التصريح يوضح السبب في انضمام الولايات المتحدة إلى الحلفاء في الحرب الأخيرة، ومن السذاجة أن افترضنا اشتراكها في الصراع العالمي دفاعا عن النظريات اللاتينية الموصوفة بالحق والحرية. والواقع أن أمريكة ترددت حينا من الزمن حول معرفة فريق المحاربين الذي تنحاز إليه، فإذا كانت قد انضمت إلى الحلفاء نهائيا؛ فذلك لأن مبدأ المنفعة - أي: الدفاع عن مصالحها الخاصة - قد أملى عليها هذا الخيار.
ونشأ دخول أمريكة في الحرب عن اضطرارها إليه كما اعترف بذلك الرئيس كولدج نفسه، غير أن هذا القطب السياسي أخطأ في توكيده في قسم من خطبته أن أمريكة لم تفز بغير فائدة قليلة من وراء ذلك.
ومن فورها أصبحت هذه الأمة الصناعية والتجارية - المحمية بمليشيا ضعيفة حتى ذلك الحين، والمهددة من قبل المكسيك، ولا سيما اليابان الراغبة أن تصب عليها ما يفيض من سكانها - أولى دول العالم الحربية ببحريتها وجيشها، وذلك في مقابل نفقاتها التي عادت لا تعوقها اليوم، فصارت اليابان، التي كانت تخشاها كثيرا فيما مضى، لا تبدو لها غير عدوة صغيرة، ولم يبق على أمريكة إلا أن تبسط يدها للاستيلاء على ثروات المكسيك الضخمة، وتخاطب أمريكة العالم بلهجة السيد، وأصبحت لا تخاف أحدا مع أن جميع العالم يخافها.
وإذا نظر إلى الأمر من الوجهة التجارية حصرا وعد التفوق العالمي قدرا تجاريا، أمكن الولايات المتحدة أن تقول إنها حققت، بنيلها مثل هذا التفوق، فائدة واسعة غير منتظرة.
وعلى العكس خربت أوربة بالحرب، واجتيحت أغنى ولايات فرنسة فتعيش اليوم بالقروض، وسيتم خرابها إذا ما دفعت إلى أمريكة ما هي مدينة به من المبالغ تجاريا، ولكن مع كون استخدامها أوجب قدرة هذا البلد العظيم الحاضرة على الخصوص.
وفي الكلمات الآتية الصائبة بين السياسي الفرنسي النفاذ مسيو تارديو ما يفصل بين القارتين في الوقت الحاضر من اختلاف: «تفصل هوة من الأحوال المتناقضة بين العالم الجديد والعالم القديم الدامي المعوز ... وكسبت أمريكة كل ما خسرته أوربة، وكانت الحرب نافعة لها قبل دخولها وأيام اشتراكها فيها وبعد خروجها منها، فبالحرب أصبحت قوتها أكثر من ضعفين، ووضعت أسس إمبراطورية جديدة، وبالحرب أسفر رخاؤها الذي أثني عليه منذ زمن السلم السعيد عن معارضة تقدمها بفاقة أوربة ... وتزيد قدرتها على الإنتاج ويزيد إنتاجها نفسه زيادة متوازية، وتنقص مدة العمل الأسبوعية على حين تزيد الأجور التي يسبق ارتفاعها ارتفاع الأثمان ... ويوجد بين القارتين تفاوت يفوق الحد ... وتحسه الأمزجة، وتقلق أوربة كالضعفاء، وتتحكم أمريكة كالأقوياء ... ويسكن الصراع الاجتماعي، وتثق ملايين العمال بالمستصنعين الذين أوجبوا رفاهيتها بعبقريتهم، ولا تنال الاشتراكية غير آخر مكان في الولايات المتحدة حينما توسع رقعتها في أوربة.»
وبما أن المبادئ الموجهة لسياسة الولايات المتحدة جعلت من هذه الجمهورية العظيمة أول دولة سياسية في العالم، فقد نشأ عن هذا ذلك الميل إلى الصدارة التي يؤدي حدوثها حس القوة.
غير أن النتيجة النهائية لصدارة إحدى الأمم هو أن تتألب على هذه الأمة جميع الأمم التي تذهب ضحيتها، وقد شعر بهذا كل من إسبانية وإنكلترة وفرنسة وألمانية مناوبة، وستجرب الولايات المتحدة ذلك ذات يوم لا ريب، ومن المحتمل أن تساعد الهيمنة الشديدة الوطأة بالتدريج على إحداث ولايات متحدة أوربية مع صعوبة هذا، وذلك على الرغم من المزاحمات العميقة والأحقاد المتأصلة التي تفرق بين أجزاء القارة القديمة في هذه الأيام. •••
أوضحت المبادئ الموجهة لسياسة الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، والتي هي أساس عظمتها إيضاحا حسنا من قبل الرئيس مستر هوفر، وذلك في نشرة أستعير خلاصتها من السيد فرمن روز: «يشتق التقدم الجماعي من التقدم الفردي، ويقوم خطأ الاشتراكية على الاعتقاد بأن محبة الآخرين واستبداد الدولة يكونان دوافع كافية للنشاط، فيجب أن يضرب بكل رغبة في تأميم الصناعة عرض الحائط.
وقد كذبت جميع المشاهدات مبدأ المساواة، فبإمكان التقدم يتوقف على التفاوت.
ويعد اصطفاء القابليات الموجهة أمرا ضروريا لازدهار البلاد.
ويتم التقدم بصفوة الرجال، ولا عمل للجماعة في التقدم، فالجماعة لا تخضع لغير اندفاعات الإحساس، ولا يتمسك زعماء الفتن بغير هذه الاندفاعات، ويحرك هؤلاء الزعماء رغائب الشعب التي لا تعبر عن الاحتياجات الحقيقية.
ولا تدرك احتياجات الشعب إلا من قبل القادة الذين يتصفون بروح البناء.
ويعد حق التملك الذي يريد الاشتراكيون هدمه من أقوى عوامل نشاط الأفراد.
وتصبح المصانع التي يزيد نموها على إمكانيات الأفراد جماعية قسرا، وتوزع الأسهم التي تمثل رءوس الأموال الضرورية لإنشائها، بين كثير من الناس، فترى لبعض الأعمال من المسهمين من يبلغ عددهم مئتي ألف.
وليس التعاون سيرا نحو الاشتراكية مطلقا.
ووجود صفوة من القادة أمر ضروري، وليست الاشتراكية والجذرية غير شكلين من أشكال الحكومية، ولا يصدر التقدم عن الدولة، بل عن ارتقاء الفرد باستمرار.»
وتدل الخلاصة القصيرة السابقة على أن العالم إذا كان يواجه معضلات أكثر تعقيدا من جميع التي يحدث عنها التاريخ فإنه يظل خاضعا لبعض المبادئ الموجهة النفسية، فمن تطبيق هذه المبادئ تنشأ عظمة الأمم وانحطاطها. •••
ولا ريب في أن الكتب الخاصة بتاريخ القرن الذي نرى سيره ستحدث عن الانقلابات، ولا ريب في أن أكثر هذه الانقلابات تعقيدا سينشأ عن صعوبة الحكم بتواصل الأمم الزائد والأوهام السياسية الشاملة، وتزول أشكال الحكومة القديمة واحدا بعد الآخر بتطور الأفكار وسرعة تبادلها، وقد حلت عزائم الشعب محل نفوذ الخواص المتأصل في كل مكان، بيد أن عجز الحكومات الديموقراطية يتجلى بالتدريج مع مصاعب الزمن الحديث، وبما أن العدد لم يوفق للقيام مقام الذكاء فقد وجب أن يبحث عن الوسائل التي يجتنب بها عجز الجماعات، وهنالك ظهر في كثير من بلدان أوربة طغاة كثيرون أعدوا للحلول محل الحكومات العاجزة، ومن دواعي الأسف أن عدلت فوائدهم بمحاذير بالغة من الشدة ما تحول دون بقائهم زمنا طويلا.
إذن قصرت الأمم الحديثة الكبرى على مواصلة البحث في الأشكال الجديدة للحكومة، ويندر أن تسفر الأصوات الشعبية عن قابليات، وكان بعض الفلاسفة الأنسكلوبيديين يحلمون بمجامع العلماء، وما تم لهم من زيادة التخصص لم تبد به أبصارهم الضيقة أعلى من أبصار الجماعات؛ ولذلك ظلت معضلة الحكومات ذات الصلة باحتياجات العالم الحديث أمرا يتطلب حلا.
الفصل الرابع
تطور الحضارات
لقد عانت جميع الموجودات منذ ظهور الحياة على وجه الأرض سنة الولادة والنمو والانحطاط والموت، وتعاني الحضارات هذه السنة أيضا.
ويتصف التطور الحديث بسرعته العجيبة إذا ما قيست ببطء الحضارات السابقة العجيب.
واقتضى تحول المادة الجامدة إلى مادة حية أكداسا من الأزمان، وكان لا بد من انقضاء ملايين من السنين لخروج الأشكال الحيوانية التي سبقت ظهور الإنسان من الخليات الابتدائية التي بدأت بها الحياة على سطح الكرة الأرضية. وكان لا بد من انقضاء أقل من مائة ألف سنة حتى وفق الإنسان للخروج من دور ما قبل التاريخ والوصول إلى عتبة الحضارات.
وكذلك كان التقدم بطيئا جدا في سني الحضارة المترجحة بين السبعة آلاف سنة والثمانية آلاف سنة التي عقبت تلك.
ومنذ قرن واحد تقريبا ظهر البخار والكهربا وجميع الاكتشافات التي حولت حياة الأمم تحويلا تاما.
وجميع الاختراعات العظيمة مدينة لنمو الذكاء فقط، ولم يعقب نشوء الذكاء نشوء مماثل في المشاعر، ومن هذه الناحية لم يجاوز الرجل العصري مستوى الأجداد الفطريين كثيرا، وكل ما حقق من تقدم في هذا المضمار هو اكتساب قدرة على مقاومة الاندفاعات الابتدائية قليلا بتمثل نتائجها البعيدة تمثلا زاجرا، بيد أن المشاعر حافظت على قوتها، ويجهزها الذكاء العاجز عن السيطرة عليها دائما بوسائل تخريب قادرة على إهلاك العالم.
وهكذا يحرك الإنسان الحاضر بنوعين من الاندفاعات، يرجع أحدهما إلى ما قبل التاريخ ويرجع الآخر إلى أصل قريب. •••
وللحضارات العظمى كيان موقت نسبيا، فالحضارات تذبل ثم تزول بعد ازدهار يدوم قليلا أو كثيرا، وترى نينوى وبابل ومدنا أخرى مدفونة تحت الغبار.
ومن الطبيعي أن اختلفت سرعة تطور الحضارات باختلاف شروط الحياة، وفي بعض الأحيان يعقب أدوار الانقلابات العميقة وجوه للتطور البطيء ذات ثبات في المظهر.
وفي الغالب تمثل أزمنة السكون النسبي هذه أدوار تاريخ الأمم العالية، شأن اليونان في عهد بركليس، والإمبراطورية الرومانية في عهد أغسطس، وإسبانية في عهد فليب الثاني، وفرنسة في عهد لويس الرابع عشر.
ومع ذلك فإن أدوار السكون الموقت خاتمة للحوادث السابقة، وكان لا بد من سلسلة منازعات اجتماعية لتظهر دكتاتورية أغسطس، وكان لا بد من سلسلة منازعات دينية وسياسية لتمام ملكية لويس الرابع عشر المطلقة.
وتجاوز أوربة الحديثة دور انقلاب شوهد مثله غير مرة في مجرى تاريخها، أي شوهدت انقلابات في المعتقدات السياسية والدينية وانقلابات في الأفكار، وقد أوجب ضعف المثل العليا القديمة الموجهة والبحث عن مثل عالية جديدة اضطرابا عميقا في النفوس، ويهز الجزع والهلع النفوس، ويظهر الوعيد في كل مكان، ولا يبصر أمل السكون النسبي أيضا. •••
ومن العوامل الأساسية في انحطاط الحضارات ذلك العامل الذي يلاحظ في جميع الأزمان، وهو ذبول مبدأ السلطة وما يوجبه من نفوذ شيئا فشيئا.
وسواء أكانت هذه السلطة سلطة الآلهة أم سلطة العادات أم سلطة الملوك تنعم وحدها على الأمة بالتحام لا تستطيع أن تدوم بغيره.
وبما أن الناس يحتاجون احتياجا عاما إلى الشعور بأنهم مقودون عند عدم اتباعهم عددا قليلا جدا من الأفراد قادرا على توجيه نفسه بنفسه، فإن من الثابت أن النظم السياسية لا تزول بزيادة الاستبداد، بل بضعفها. وكان لويس الرابع عشر سيدا لأنه عرف أن يسيطر على طبقة الأشراف والإكليروس والبرلمان، وعاد لويس الخامس عشر ولويس السادس عشر على الخصوص، لا يكونان سيدين لأنهما تركا السلطات المتنافسة تسيطر عليهما بالتعاقب، مع أن سلفهما عرفوا أن يزجروها.
وعمل مبدأ السلطة الأساسي هذا ينشأ عن كونه وحده هو الذي ينطوي على القدرة الضرورية لإيجاد وحدة الفكر والفعل، التي تحول نقعا من الناس إلى جماعة متجانسة؛ ولذا يمكن عد مبدأ السلطة في السياسة والدين والأخلاق من القواعد الأساسية لحياة الأمة.
وكان من أكثر العوامل التي يتوارى بها مبدأ السلطة تأليف أحزاب مختلفة ذات منافع متباينة ضمن المجتمع، ومتى شعرت هذه الأحزاب المتنافسة بأنها بلغت من القوة ما تدخل معه الصراع ضعف مبدأ السلطة وبدأ دور الأفول، وهكذا هلكت اليونان في الزمن القديم عندما أضاعت استقلالها بعد ازدهار لا يزال يبهرنا، وهكذا هلكت الجمهورية الرومانية عندما حملت، بعد سلسلة من المنازعات التي لا تعرف الرحمة، على معاناة دكتاتورية الأباطرة المهيمنة.
وهكذا هلكت في القرون الوسطى جمهوريات إيطالية، ولا سيما فلورنسة، نتيجة مخاصمات داخلية. فبما أن الخصومات بين النقابات المتنافسة كانت يومية في هذه المدينة الأخيرة فإن حياتها أصبحت مثل الجحيم، فكان من عوامل السلوان الشامل قبض آل مديسيس على السلطة وقضاؤهم على الجمهورية.
وهكذا هلكت بولونية بعد حين عندما قسمت بين جيرانها نتيجة انقسامات ومنازعات داخلية مستمرة. •••
وإذا أمكن أن يكون انحطاط الحضارة سريعا جدا فإنه يقع بطيئا جدا في بعض الأحيان، شأن الإمبراطورية الرومانية تماما، ولا مراء في أن دكتاتورية الأباطرة وضعت حدا للمنازعات المدنية، ولكنها لم تصنع غير عوق الانحطاط، وقد أصبح هذا الانحطاط تاما عندما جهل أمر السلطة، فانتحلت الكتائب حق انتخاب الأباطرة وعزلهم بعد أن كان خاصا بالسنات.
ويلوح أن أوربة الحديثة محكوم عليها بقطع أدوار مماثلة، وتجاوز أوربة دورا من أعقد أدوار التاريخ على الرغم من وجوهها الساطعة المدينة بها لتقدم العلم، وتغرق أوربة في فوضى عميقة، فيزيد فيها كل يوم حقد بين الأمم وحقد بين طبقات الأمة الواحدة.
وبلغت الفوضى مقدارا اضطر معه كثير من الدول كإيطالية وإسبانية واليونان، إلخ، إلى معاناة دكتاتوريات ثقيلة، وليس وضع بلاد أوربة الأخرى أحسن من ذلك. وتحاول دويلات شبه جزيرة البلقان استئناف منازعاتها المتأصلة، وتخرب روسية تماما بتطبيق أحلام المتعصبين الذين يودون فرض دينهم الجديد.
ولا تزال فرنسة وإنكلترة وألمانية تقاوم الفوضى بفضل بنيانها القديم، ولكنها تقضم مقدارا فمقدارا بفعل أوهام الاشتراكية التي يعظم نفوذها يوما بعد يوم. وتقوم قوة أمريكة البالغة على قليل من المبادئ الصائبة التي يوجه بها سير أناس فوض إليهم توجيه مصيرها.
وكان يلوح بقاء أوربة مركزا للحضارة وارثة للإغريق ولرومة ولعشرين قرنا من الجهود، وتبصر أوربة بغتة ابتعادها عن أن تكون قطب العالم، ناظرة في النصف الآخر من الكرة الأرضية قيام عالم جديد يختلف في أفكاره ومشاعره ومختلف عناصر حياته عما لديها اختلافا تاما. •••
ويبدو العالم الحديث مثقلا بما لم يكن له عهد به من المعضلات بفعل تطور شروط الحياة الناشئ عن اكتشافات العلم، وسرعة وسائل النقل على الخصوص، وترى الشعوب - التي كان بعضها مفصولا عن بعض بحواجز يتعذر اقتحامها - اتحاد مصالحها أو تصادمها، وينحل بالتدريج مختلف عناصر المجتمعات المسنة التي وحدت بينها لزمن طويل سلطة الآلهة أو الملوك، أو العادات فقط. وبما أن أشد البلاد ثباتا نظم بماض لم يتغير قط فإنه يواجه أحوالا غير منتظرة.
ولما تعرف الأحزاب السياسية أن تلائم الضرورات التي نشأت عن تحولات العالم، ومن العبث محاولة الجذريين والاشتراكيين والمحافظين وغيرهم حل المعضلات الحديثة بصيغهم القديمة، وما فتئت المبادئ البسيطة تسيطر على الحياة السياسية، وبما أن مبدأ الدولة الربانية أكثر ما يسيغه ذكاء الجماعات الأوربية، فإن الحكومية قد امتد أمرها على صيغ مختلفة في نهاية الأمر، واليوم كل يطالب الدولة بما لا تقدر عليه من حل المشاكل.
أجل، إن العالم سيلائم في نهاية الأمر شروط الإنتاج والمبادلة الجديدة، غير أن الانقسامات العميقة باقية بيد دول أوربة حيث يتألف من طبقات كل بلد عامل تهديد بالانحطاط. ويقترح فريق من ذوي الفضل معالجة ذلك بإقامة اتحاد أوربي بين الحكومات التي تهدف إلى إيجاد نظام تضامن مادي وأدبي ثابت، ومن الصواب أن لوحظ أن مثل هذا الاتحاد يقوم فقط على تعميم شركة موجودة لبعض الخدم الأممية منذ حين، كالبريد والبرق والهاتف والطرق والقنوات والخطوط الحديدية ومسائل النقود، إلخ.
ولا تقوم صعوبة تحقيق هذا البرنامج الواسع على اقتحام الفروق النفسية التي تفصل بين الأمم فقط، بل تقوم على اختلاف المصالح الاقتصادية أيضا، ومع ذلك فإن الضرورة قوة نفسية بالغة من العظم، ما قد تنتهي به الأمم الأوربية إلى إدراكها وجوب تفاهمها في آخر الأمر، خشية أن ترى زوال حضارتها.
وهنالك مصاعب مختلفة - ولكن مع إمكان تذليلها - تعترض كذلك مشروع الاتحاد الفدرالي الجديد، ومن ذلك مثلا: أن إنكلترة تفضل على الوحدة الأوربية وحدة بريطانية، يؤلف بها بين مختلف أجزاء العالم الخاضع لنفوذها؛ ولذلك فهي تنظر بقليل عطف إلى مشروع اتحاد يمكن أن يؤدي إلى تخلي كل دولة عن قسم من سلطانها في سبيل الدولة العليا.
ولا يمكن أن ينشأ توحيد أوربة عن مناقشات كالتي تقع في جمعية الأمم، بل ينشأ عن جمعيات اقتصادية ذاتية عرض ما بينها من صلات صناعية أمثلة كثيرة.
ونتائج مثل تلك أعلى تماما من التي ظفر بها بعد جهود عشر سنين بذلها اثنان وخمسون ممثلا في جمعية الأمم، فهؤلاء إذ غاصوا في نظريات وهمية ظهر أنهم يجهلون ما يسير العالم من ضرورات.
وإذا عدوت هذا الاتحاد الاقتصادي بين الأمم الأوربية وجدت المناهج الوحيدة التي اقترحت حتى الآن لحفظ السلم مؤلفة من مشروعات نزع السلاح، بيد أنه لم يكن من الصعب أن يعترف أمام الأخطار التي تحيط بجميع الأمم بأنه لا يمكن أمة أن تبقى عزلاء من السلاح.
وعقدت مؤتمرات كثيرة في عواصم كثيرة بالتتابع، فأثبتت تعذر نزع السلاح فعلا، كما دلت على ضرورة استقرار نزع السلاح بالنفوس في بدء الأمر. •••
كان غليوم الصموت يقول: «لا ضرورة للأمل في الإقدام ...» وقد أثبت الفوز صحة هذا المثل.
ومما يزيد في تمني إقامة سلم دائمة في أوربة، كون كل حرب جديدة، تعتمد على تقدم الأسلحة الحديثة، تؤدي إلى تخريب عواصم العالم القديم الكبرى، وتدل على نهاية حضارته.
وكانت حروب الماضي تتم بأسلحة قليلة العدد لا يكترث لها غير قسم ضئيل من الأهلين، ولا تواجه الحروب الحديثة بين بضعة آلاف، بل تقابل بين ملايين من الآدميين، ولا تعتم أن تعم مختلف بلدان القارة.
وحتى الآن لم تسفر عن نتيجة جميع الجهود التي بذلها السياسيون وصولا إلى نزع السلاح في البر والبحر، واستبدالا للتحكيم بما يقع من نزاع مسلح. ومن الصواب قول رئيس جمهورية الولايات المتحدة: إن أمل الأمة العزلاء أو السيئة السلاح في ألا تهاجم ضعيف جدا. ومن الواضح مثلا كون روسية التي تحلم بوقوع حرب عالمية لتضمن نصرا لمبادئها، شديدة الخطر بجيشها المؤلف من ستمائة ألف رجل، على أوربة العزلاء من السلاح.
وفي معارفنا الحاضرة يقوم الأمل الوحيد في سلم دائمة على اكتشاف أسلوب في التخريب بالغ من السرعة ما لا تريد أمة معه أن تعرض نفسها لنتائجه، ومن ذلك مثلا: اكتشاف وسيلة لجمع الموجات الهرتزية في نقطة واحدة.
1
ومنذ زمن بعيد أبصر مونتسكيو - كما يظهر - هذه الاكتشافات الخطرة حينما قال: «أرتجف دائما من الانتهاء في آخر الأمر إلى اكتشاف شيء مكتوم يجهز بأسلوب وجيز، يهلك به الناس ويقضى به على جميع الأمم والشعوب.»
ومع ذلك فإن اكتشافات مثل تلك حققت اليوم تقريبا ببعض المتفجرات، ومما لاحظه وزير إنكليزي أن من الممكن أن يتم تقويض الحضارات الأوربية نتيجة لها. •••
وفي أقل من نصف قرن أبصر العالم في ميدان العقل تقدما أعظم من جميع ما حقق منذ أقدم الأزمان، حين كانت ترسم الحضارات الأولى على ضفاف النيل وسهول كلدة.
وما حقق من تقدم في حقل المشاعر التي ما انفكت تسيطر باندفاعاتها على الناس كان ضعيفا جدا، وما كان العقل الذي يجب أن يوجه الأمم لينفع غالبا في غير تحقيق النواحي اللاعقلية لسيرها.
وأثبتت الحرب العالمية، التي خربت أوربة باندفاعات غريبة عن البديهيات العقلية، إثباتا جليا مقدار الشك في المبادئ السياسية والأدبية التي تصلح للحكم.
وإذا نظر إلى اختلاطات الساعة الحاضرة وجد تعذر كل شعور بالأطوار القادمة لتطور حضارتنا أو بما ستعانيه من أوجه الأفول. أجل إن من الممكن أن توجه حياة الأمم باكتشافات العلم توجيها شافيا ذات يوم، غير أن العلم لا يزال من الجدة ما لا تبصر معه نتائجه، ولا سيما حدوده، وليس مجهول قدماء الفلاسفة سوى حاجز موقت يتقهقر أمام العلم كل يوم، فنحن نعيش في عالم من الظواهر يظل تفسيرها الوهمي على حسب ذكائنا دائما.
ومع ذلك فإن من غير المفيد أن يبحث في مستقبل مجهول يقع متأثرا بعوامل خارجة عن عقلنا، أجل، إنه مشحون بما لا يعرف، ولكن مع الأمل أيضا، وقد زال الآلهة الذين عمروا السماء منذ فجر الحضارات واحدا بعد الآخر، والأمل هو الرب الوحيد الذي ظل باقيا، ولن يزول الأمل إلا مع آخر إنسان. وإذ يوحي الأمل بجميع الاكتشافات فإنه ينتقل من المعابد إلى المختبرات، ويدعم الجهود التي تنشأ عنها تحولات العالم الذي نرى كماله.
ويمكن أن يشعر من الآن بعظم التحولات القادمة، فلما وفقت، بعد جهود متصلة دامت عشر سنين، لإثباتي أن المادة الجامدة لم تكن في الحقيقة غير تكثيف عظيم لقوة لا جدال فيها، وأن من الممكن ذات يوم أن تنطلق الطاقة الذرية الكامنة، أعلن من فوق المنبر البرلماني أستاذ الاشتراكية الأكبر في هذا الزمن: أن نتائج مثل هذه المباحث قد تؤدي إلى تحول تام في أحوال الحياة الاجتماعية.
لا جرم أن العلم لا يزال في دور البحث، ولكنه يبصر الطريق التي يجب أن يسلكها بالتدريج، ويتطور العلم بفعل الاكتشافات المفاجئة بسرعة لا مثيل لها مطلقا، وقد تم للفكر البشري من التحولات في أقل من قرن أكثر مما تم له في ثمانية آلاف من سني التاريخ التي مرت قبله، وإذا ما حكم في الأمر بما تم من فتح حتى الآن، كشفت لنا المنطقة المجهولة التي يتقدم العلم فيها خطوة كل يوم عن أسرار يمكن أن تبصر عظمتها.
ولذلك يمكننا أن نحلم بإنسانية قادمة تختلف عن الإنسانية الحاضرة اختلاف هذه الأخيرة عن آدميي ما قبل التاريخ الابتدائيين، وهذا حلم لا ريب، ولكنه حلم أقرب إلى الحقيقة من الأحلام التي سيطرت على العالم حتى الآن، فلا ينبغي أن يطعن فيها ما رفعت الإنسان من الوحشية إلى الحضارة.
تعليقات ختامية
مختارات من رسائل تبادلها المؤلف وبعض أقطاب السياسة
مع نقل آراء لهم حول بعض المسائل التي جاءت في هذا الكتاب
أسس الحق الصحيحة
ناقش مسيو كليمنسو بالعبارة الآتية التي جاءت في كتابه «فرنسة أمام ألمانية» كلمة غوستاف لوبون القائلة: «إن الحق قوة تدوم»:
كان غوستاف لوبون قاسيا في تشريحه أحد آلهتنا الأخيرين حينما قال: إن الحق ليس غير قوة تدوم، فيا للتدنيس في تحليل الإنسان إلهه!
أوليس حق الخلق الآتي إله الإنجيل الحديث الذي لم يصنع غوستاف لوبون غير رده إلى مصدر جميع آلهة الأرض، وذلك بتوحيده مع قوة الأشياء الدائمة التي ينشأ عنها كل نظام للموجودات؟ ولم يمكن في المذهب الجديد أكثر مما في العلوم اللاهوتية الأخرى، تعيين غير المعين ومس ما لا يمس وبلوغ ما يفر وتثبيته.
مبادئ مختلفة حول كلمة «ديموقراطية»
سألت أقطاب السياسة الأفاضل: جورج كليمنسو، وموسوليني، وهريو، وجان دو كستلان عن تعريفهم كلمة: «ديموقراطية» إيضاحا لمختلف المبادئ التي يمكن أن تدور حولها، فاسمع أجوبتهم:
أستاذي العزيز، حقا إنك رجل باهر، ولكنك تسألني عما يقع وراء وسائلي، وأنت الذي تجد وقتا للتأمل ووضع كتب أمكنني أن أقوم بها كثيرا من أفكاري، وهذا ما أعرب لك به عن شكري.
أنت تطلب مني أن أعرف الديموقراطية، ولا تسألني أكثر من ذلك!
لقد اعتصرت دماغي، وإليك ما استطعت أن أجده: زيادة أقسام الذكاء في الأعلى مصفاة بزيادة الذكاء في الأسفل، رجوعا إلى نقطة انطلاقهما إلى جهات عامة مقبولة ميسورة في سبيل مجموع الأمة.
المعجب بك
ج. كليمنسو
أستاذي العزيز، بصفتي جذريا
1
أقول: إن الديموقراطية هي النظام الذي يبحث في المجتمع عن تقويم مبدأ العدل الذي أنعمت به الطبيعة، ولكن بالعقل، وإن شئت فقل إنه ذلك النظام الذي يجب أن يبحث به عن تقريب ما بين الأخلاق والسياسة حتى تمتزجا.
المجل لكم
هريو
أستاذي العزيز، أجيب عن كتابك، فالديموقراطية: هي الحكومة التي تمنح الشعب - أو تحاول أن تمنحه - وهم كونه سيدا. أجل، إن أدوات هذا الوهم كانت مختلفة باختلاف الأزمنة والشعوب، غير أن الأساس والأهداف لم تتغير قط. وهذا هو رأيي الصريح، وهذا يتيح لي فرصة تقديم تحياتي القلبية لك.
موسوليني
وإلى التعريفات السابقة أضيف ما تفضل بإرساله إلي رئيس مجلس بلدية باريس المفضال، مسيو جان دو كستلان، فقد قال:
دلت التجربة على أن «الديموقراطية» الحقيقية كانت تقوم على الحكم في سبيل الأمة بواسطة صفوة تضيف إلى هبة السلطة محصلا من الفنية الكافية، وذلك أكثر مما على الحكم بالشعب لتعذر هذا.
وتزدهر ديموقراطيات المستقبل ضمن النطاق الذي تتكون به هذه الصفوة وتلقي به قيادها إليها.
جان دو كستلان
ولم أحتج إلى سؤال البلاشفة لأعرف أن دكتاتورية الصعلكة - أي: كون حكم الطبقات العليا من قبل الشعب - يلخص مبادئهم حول كلمة الديموقراطية.
مبدأ القوميات
يوجب مبدأ القوميات، الذي قسمت النمسة باسمه إلى دويلات منفصل بعضها عن بعض، نتائج جالبة للنوائب، ومن أشد هذه النتائج خطرا: توسع ألمانية كثيرا، بأن تضم إليها جمهورية النمسة التي ضعفت ببترها كثيرا لتبقى مستقلة.
وبما أن هذه النتائج لمعاهدة السلم تلوح واضحة لي فقد أطلعت مسيو كليمنسو على انتقاداتي، فاسمع جوابه:
أستاذي وصديقي العزيز، أعجب بألمعيتك المدهشة دائما.
ولكن كيف تستطيع ألا تبالي بما تنطوي عليه روح القوميات البعيدة الغور والكثيرة الصواب؟ أو لماذا تقول بها من أجل بعضهم وتتجاهلها لدى الآخرين؟
المجل لكم
ج. كليمنسو
أجل، كانت النمسة تشتمل على قوميات مختلفة كثيرا، ولكن فرنسة تشتمل أيضا على قوميات كالبريتون والنورمان والأفرنيين والبروفنسيين، إلخ، فهذه القوميات كثيرة الاختلاف، وإن كانت تنم على عروق أقل انفصالا من مختلف قوميات إمبراطورية النمسة على ما يحتمل، فلو تم النصر لألمانية فقسمت فرنسة باسم القوميات كما قسمت النمسة لقضي على عمل ألف سنة من التاريخ.
الانتفاع بالوثائق النفسية في حكومة الأمم
طبق جميع أعاظم أقطاب السياسة علم النفس تطبيقا غريزيا، غير أن هذا العلم بقي إلى حد كما كانت عليه الكيمياء قبل لافوازيه.
ومن ذلك مثلا كون مدرسة العلوم السياسية بباريس المشتملة على عدد كبير من كراسي التدريس لا تحتوي أي كرسي خاص بتعليم علم النفس.
ومع ذلك فقد أبصرت مقدار اكتراث رجال السياسة لعلم النفس بما رأيت من إقبال كثير منهم على مطالعة كتبي وترجمتها. وقد ترجم كثير من كتبي - ولا سيما: روح الجماعات والسنن النفسية لتطور الأمم - إلى كثير من اللغات الأجنبية، فنقل إلى العربية من قبل وزير العدل بالقاهرة فتحي باشا،
2
وإلى اليابانية من قبل سفير اليابان بباريس السيد موتونو، وإلى التركية من قبل مدير أهم صحف إستانبول، وإلى الروسية من قبل الدوك الأعظم قسطنطين الذي كان مديرا للمدارس الحربية، وإلى الهندوستانية من قبل رئيس وزراء نظام حيدر آباد، إلخ. «وروح الجماعات» على الخصوص هو أكثرها مدارا لتأمل أقطاب السياسة، ففي محادثة وقعت مع السنيور موسوليني ونشرتها «آفاق العالم» تجد العبارة الآتية:
لديكم في الحقل الفلسفي والعلمي رجال تفاخر البشرية بهم كثيرا، كغوستاف لوبون الذي قرأت جميع كتبه، ومما لا يحصى عدد المرات التي طالعت فيها كتابه «روح الجماعات»، فكنت أرجع إليه في الغالب.
وفي محادثة اخرى نشرتها «الأنال» في 8 من يونيو سنة 1924 عبر رئيس جمهورية الشيلي، دون أرتورو ألساندري عما في نفسه بما يأتي:
إذا أتيح لكم ذات يوم أن تتعرفوا بغوستاف لوبون، فقولوا له إن رئيس جمهورية الشيلي أشد الناس إعجابا به، فقد تغذيت بكتبه، وأطلب أن تبلغوه أنني ما فتئت أجد في عملي السياسي فرصة وقوفي على صحة ملاحظاته العجيبة.
ومثل هذا الرأي ما أبداه غير مرة رئيس جمهورية الولايات المتحدة السابق، مستر روزفلت حول كتب غوستاف لوبون، ولا سيما: «السنن النفسية لتطور الأمم»، هذا الكتاب الصغير الحجم الذي لم يفارقه قط في رحلاته، والذي كان يستوحيه في سياسته كما قال.
وقد كرر الادعاء نفسه في وليمة غداء أقامها له مسيو هانوتو في رحلة له إلى باريس.
وكذلك رجال السياسة الفرنسيون يعدون من القراء المواظبين على مطالعة روح السياسة، وذلك كما يدل عليه بوضوح ما تلقيته من رسائل أكثرهم فضلا.
ولا يحصى عدد معضلات علم النفس التي تعرض على رجال الحكم كل يوم، فيمكن أن تتوقف على حلها حياة الأمة. ومما ذكرته في كتاب آخر أن الصدر الأعظم العثماني كان قبيل الحرب قد عرض علي بواسطة سفيره بباريس أن أذهب إلى الآستانة لإلقاء عدد من المحاضرات في روح السياسة.
ومما أثار أسفي كثيرا كون حالتي الصحية لم تسمح لي بقبول هذا العرض، فهو يثبت على الأقل أن الترك لم يكونوا سيئي الوضع نحو فرنسة.
ومن الراجح جدا أنه لو وجد في الأسطول الفرنسي قائد بالغ من الإقدام ما يتعقب معه «غوبلن» و«برسلاو» حين إبحارهما إلى الآستانة لظل الترك محايدين ولكانت الحرب قصيرة الأمد.
تعيين التطور الاجتماعي بدراسة أحوال الأمم
جاء في تقريره لمسيو دلاتور تلي في مجمع العلوم الأدبية والسياسية في 16 من مايو سنة 1925 ما يأتي:
درس الدكتور غوستاف لوبون في أحد كتبه الأولى «الإنسان والمجتمعات وأصلهما وتاريخهما»، تطور الإنسان والمجتمعات منذ أصولهما البعيدة حتى أيامنا، ومما بحث فيه: كيف ولدت الصناعة والفنون والأسرة والمجتمعات ومبدأ الخير والشر، وكيف تكونت النظم والقوانين، وما علل تحولاتها مع الزمن، ثم كيف كان طراز تفكير كل دور وأمة ومعتقداتهما وأخلاقهما وحقوقهما ...
وبدراسة الحضارات الأولى يطلع على الأطوار القديمة لنظمنا وعاداتنا ومعتقداتنا. ... وفي كتاب عن: «روح الأزمنة الحديثة»، نشر في سنة 1920، ذكر الدكتور غوستاف لوبون كون معظم المسائل السياسية والحربية والاقتصادية والاجتماعية من نطاق علم النفس، وكون الألمان خسروا الحرب عن جهل به، وكون خطئهم في روح الشعوب أقام ضدهم أمما لم تطلب غير البقاء على الحياد. (أثر غوستاف لوبون)
الاشتراكية معتقد ديني
أثبت غوستاف لوبون منذ زمن طويل كون ما تنطوي عليه الاشتراكية من قوة عظيمة ناشئا عن أنه يتألف منها دين جديد قريب من النصرانية في أوائلها، لا عن أنها أمر سياسي.
واليوم عم هذا الرأي تماما بعد أن كان موضع جدل، ويمكن أن يحكم في هذا بالكلمات الآتية التي اقتطفت من مقالة نشرت في «صديق الشعب»:
طاف ابن مستر رمسي مكدونلد بعد أبيه في الولايات المتحدة فصرح أمام أعضاء النادي الاشتراكي في جامعة شيكاغو قائلا: «ليس مذهب اشتراكيي إنكلترة وعملهم السياسي لعبا أو عرضا، بل دين.» وليست الكلمة جديدة، فقد قالها غوستاف لوبون منذ من طويل، وذلك «أن الاشتراكية معتقد ديني أكثر من أن تكون نظرية عقلية بدرجات ...» ويتألف من الاشتراكية والبلشفية خطر عظيم لانتشارهما على نمط الأديان، «من غير دليل وبالتوكيدات والخيالات والوعود الوهمية.» كما قال غوستاف لوبون.
عجز المنطق العقلي تجاه بعض القوى الجماعية
يبرز بين المصاعب العظيمة للسياسة الحديثة حركات رأي ناشئة عن حساسية الكرامة الجماعية.
ومن أطرف الأمثلة على مثل هذا الصدام: ما وقع في المؤتمر البحري بلندن في يناير سنة 1930 لنقص التسلح.
وكل يعلم أن محادثات ثلاثة أشهر انتهت بحبوط تام.
وقد استندت إلى مبدأ عجز العقلي عن مناهضة الحساسيات والبطلانات الجماعية، فأتيح لي منذ افتتاح المؤتمر أن أنبئ سفير إنكلترة في فرنسة بأن حبوطه سيكون تاما، على الرغم من جميع جهود السياسيين.
حتى إن إيطالية وجدت من مقتضيات نفوذها ألا توافق بأي ثمن كان على رفض حقها النظري في أن يكون لها أسطول مساو لأسطول فرنسة.
فأمام كلمة «المساواة» البسيطة تحطمت جميع جهود أرفع سياسيي العالم.
مبادئ التاريخ الممكنة
تبلغ معارفنا عن العالم والموجودات من التجزؤ والتحول ما يفيد معه دائما أن يعرف ما يصوغه مختلفو الأمزجة من تفسير حول الكون.
وإذ تصلح العوامل العقلية والعوامل الوجدية أساسا لهذه التفاسير فإنك تجدها ملخصة في الرسالتين الآتيتين، اللتين تبادلهما المؤرخ المفضال غبريال هانوتو وغوستاف لوبون نتيجة لسؤال وضعه هذا الأخير:
فليولا روكبرون كاب مارتن (ألب ماريتيم)
في 15 من فبراير سنة 1930
صديقي العزيز، أتخذ كلمة «الحكمة الإلهية» وكلمة «صادر عن الحكمة الإلهية» ضمن المعنى الذي كان يتخذهما بوسويه وبسكال.
هذه ضمانات!
ولا أزعم أنني أمثل «المؤرخين المعاصرين»، ولكن التاريخ علمني أنه لا يوجد تمدن إلا عند الأمم التي تحتفظ بالإيمان على أنه مثل إلهي عال، أي: بالإيمان بخالق صانع للناموس الأدبي.
وهل حرر العلم من غوامضه هذا الأمر الخفي أو ذاك؟ أي أمر الخلقة وأمر الروح؟ ...
ولا أدري أهذا عن عدم علم، ولكن بما أنني أقتصر قبل كل شيء على الانسجام العام والأدبي فإنني أظل مخلصا لما اختاره آباؤنا، وللمعتقدات التي أقامت المجتمعات البشرية والتي تحفظها.
أخاف موسكو.
صحة وعافية، فتعمق إذن في هذه المعضلات! ولا تخف! وثق بأنني صديقك البالغ الإخلاص.
هانوتو
والتأملات الآتية هي ما أثاره هذا الكتاب لدى المرسل إليه:
باريس في 17 من فبراير سنة 1930
صديقي العزيز، إدراكك للتاريخ سهل جدا، ولكنه يبتعد كثيرا عما قال به كثير من العلماء.
فالعالم عند هؤلاء العلماء يتعقد كلما أريد التبحر فيه.
وقد قام مقام مبدأ الخلقة مبدأ كون لا نهاية له، أي: عالم لا أول له ولا آخر.
يفصلنا سبعون مليون سنة عن الدور الذي نشأت فيه على السديم المبرد خليات دقيقة تعد أول الموجودات، فكان آخر نسل لها أولئك الأجداد الوضعاء الذين ظهروا قبل حضاراتنا التي هي بنت ستة آلاف سنة، وذلك في أثناء ما قبل التاريخ الذي دام مائة ألف سنة.
وأما الناموس الأدبي الذي تتكلمون عنه فإن من المستحيل أن يتصور كما كان يصنع في زمن كنت، ولكن كضرورة اجتماعية تلاحظ في جميع المجتمعات، حتى الحيوانية.
ولم يعرف مجتمع بشري أدبا أشد من الذي يسيطر على بعض مجتمعات الحشرات، وليس الأدبي غريزيا فقط ما اختلف باختلاف مقتضيات الوقت، أي: بهذه الظاهرة التي هي من مميزات العقل.
وتجدون في كتاب زميلكم الأستاذ في الموزيوم، بوفيه، صفحات ممتعة عن حياة الحشرات الاجتماعية ، حتى إنه انتهى إلى النتيجة القائلة بأن الإدراك لدى الحشرات مماثل لما عند الإنسان.
وهكذا ترانا أيها الصديق بعيدين من الحكمة الإلهية، كما أنك ترانا بعيدين من الأسباب الأولى للأشياء.
وترى العالم الذي كان يسهل إدراكه في زمن بوسويه معقدا كثيرا في هذه الأيام.
إن اختلافنا حول فلسفة التاريخ كبير كما ترون، ومع ذلك فهو غير تام لاتفاقنا على الأمر القائل بضرورة وجود مثل عال لتوجيه حياة الأمم.
ومع ما ينطوي عليه المثل الديني الأعلى من أوهام فإنه بقي الأقوى حتى الآن.
والواقع أن التاريخ يعلم أن الحضارات الجديدة تولد مع الآلهة الجدد، وأن هذه الحضارات لا تبقى حية بعد موت آلهتها.
صديقكم القديم
غوستاف لوبون
مختارات من كتب المؤلف السابقة حول بعض المسائل التي جاءت
في هذا الكتاب
يتضمن التاريخ معرفة مختلف العلوم التي لم يكن غير جمع لها في الحقيقة، ولو قصر على بصر سطحي بالأمور المدونة في الكتب.
ويدل البحث، الذي هو أعمق من الذي رضي به الإنسان في ألوف سني الحضارة الست، على أن العالم بالغ التعقيد، ومما وفق له هذا البحث على الخصوص إيجاد بعض صوى
1
ساطعة في غابة الحوادث المظلمة.
وتعد معرفة تفسير العالم الصادرة عن المختبرات أمرا ضروريا لإدراك التاريخ.
ومباحث على النفس - أي: العلم الذي يفسر به تكوين الأعمال - هو ما يجب ذكره على الخصوص؛ ولذلك وجدنا من المفيد أن ننقل بعض مختارات من الكتب التي نشرناها حول فصول مختلفة من هذا العالم.
القوى الموجهة للعالم وإيضاح الحوادث «يلوح العالم، البسيط إلى الغاية في الزمن الذي كان الآلهة يسيطرون فيه على مجراه، أكثر تعقيدا مقدارا فمقدارا، وذلك كلما بحث العلم عن الأسباب، فقد أصبحت الحوادث البسيطة ظاهرا، كسقوط الحجر وكهربة قضيب من الصمغ، مسائل يتعذر على العالم حلها.» «ويعدل العلم الحديث عن اكتشاف عنصر ثابت في العالم، أي: صورة ثابتة في مجرى الحوادث، وكل شيء زال مناوبة، حتى إن المادة، التي هي آخر عنصر كان يعتقد إمكان الاعتماد عليه، خسرت أبديتها، وهكذا يعقب الثبات عدمه، فتقوم تقلبات التوازن الدائمة مقام السكون.» «ويتقهقر السبب الأول للأشياء في لانهاية منيعة، والصلات بين الحوادث وحدها هي ما يمكن أن يعرف.» «والعلم إذ يترك الإيضاحات الكثيرة الاختصار يقيم الآن تجمع ما لا حد له من العلل الدقيقة إلى الغاية مقام النواميس العامة الكبرى، والعلم يعلم أن العالم الفزيوي والعالم البيولوجي والعالم الاجتماعي من عمل ذاتيات بالغة الصغر تكون غير مؤثرة إذا بقيت منفردة، ولكنها تكون قوية جدا عندما تقترن. ومن الدقائق التي لا حد لصغرها ظهرت القارات ونبتت الغلات وقامت الحياة، ويبقى مختلف الذاتيات كالذرات الفزيوية والخليات الحية والوحدات البشرية، إلخ، لا عمل له إذا لم تأت قوى موجهة لتوجب أعماله وتقني أفعاله.» «ولا يهم كثيرا كون العناصر المقصودة من الحقل الفزيوي أو الحقل البيولوجي أو الحقل الاجتماعي، فلا بد من وجود عوامل مدبرة لتوجيهها دائما، وتتحول العناصر الفردية إلى غبار لا طائل فيه عندما تعود غير متأثرة بهذه العوامل.» «وفي خليات الجسم العضوي ينطوي التوجيه المدبر على الحياة، وينطوي سكونه على الموت، وعين هذه السنة أمر وحدات الموجود الاجتماعي.» «وفي الدائرة النفسية نرى تعاقب القوى الموجهة، كالمعتقدات والمثل الأعلى، إلخ، وذلك من غير أن تزول مطلقا.» «أجل، يمكن أن تغير اسمها، ولكن مع بقائها دائما ولا بد في التوجيه بالإيمان، من السيف أو العلم أو الفكر في جميع وجوه التاريخ، فحرمان المجتمع قوى موجهة أو إخضاعه لقوى تابعة للهوى مترجحة دائما، يعني الحكم عليه بالهلاك» (روح السياسة).
غير المنتظر في التاريخ «يسيطر غير المنتظر على التاريخ.
أجل، كان يمكن الرجل البصير أن ينبئ قبل الحرب بانحلال النمسة، وكذلك بانحلال روسية وتركية على ما يحتمل، ولكن كيف كان يمكنه أن يتصور مصيبة ألمانية الهائلة بغتة؟ كانت ألمانية قد بلغت أوج القدرة، وكان العالم يلوح مهددا بمعاناة سلطانها، ثم غلبت في كل مكان فانهارت في بضعة أسابيع بين الخزي والحزن.» «ويؤدي توالي الانقلابات هذا إلى غد هائل لا ريب، ولكن ما يكون هذا الغد؟ وفي النمسة ما يصبح مثلا هذا النقع من الأمم الصغيرة المتخاصمة التي خرجت من الدولة العظمى بعد أن جمعت بينها في قرون من الجهود كثيرة؟» «وإذا كانت دروس الماضي صالحة لتكون دليلا أمكن أن يقال إن أوربة مهددة بحروب تذكرنا بما اشتعل منذ القرون الوسطى، وذلك ليؤلف من الدول الصغيرة ما انحل اليوم من الإمبراطوريات العظيمة.» «بيد أن العالم بلغ من التطور ما لا تكفي معه سنن ماض بسيط جدا لإيضاح مستقبل كثير التعقيد، وقد ظهر بعض المبادئ الجديدة، وباسم هذه المبادئ ستعاني النظم والمعتقدات تحولات غير منتظرة لا ريب» (روح الأزمنة الحديثة).
العوامل النفسية «تتحول جميع العوامل الخارجية التي تؤثر في الناس كالعوامل الاقتصادية والتاريخية والجغرافية، إلى عوامل نفسية في آخر الأمر.» «ويسيطر على هذه العوامل أنواع للمنطق مختلفة.
وما حدث من عدم قدرة على حل ما بين هذه الأنواع من تأثير متقابل أساء كثير من المؤرخين به إيضاح بعض الأدوار، ولا سيما دور الثورة.» «والواقع أن العنصر العقلي الذي يذكر على العموم كوسيلة للإيضاح كان أضعف عملا، فهو وإن أعد الثورة الفرنسية لم يبد في غير أوائلها.» «ولسرعان ما توارى العامل العقلي أمام عامل العنصرين: العاطفي والديني.» «وهنالك أصبح شأن العوامل الدينية عظيما، فقد ألقت بذور التعصب في الجيوش ونشرت المعتقد الجديد في العالم.» «ولا تجد في حياة البشر دورا قدم سلسة تجارب كهذه جمعت في وقت بالغ ذلك القصر.» «وتسوغ المجالس الثورية جميع ما تعرفه روح الجماعات من سنن، فالجماعات إذ تندفع وتخاف فإنه يسيطر عليها عدد قليل من الزعماء، وتسير غالبا على ما يخالف عزائم كل واحد من أعضائها على انفراد.» «وكان المجلس التأسيسي ملكيا، فقضى على الملكية القديمة، وكان المجلس الاشتراعي إنسانيا، فأغضى عن وقوع مذابح سبتمبر، وكان مسالما فألقى فرنسة في حروب هائلة. ووقع مثل هذه المتناقضات في زمن مجلس العهد، فقد كانت أكثريته الساحقة ترفض العنف، وكانت مؤلفة من فلاسفة عاطفيين يمجدون المساواة والإخاء والحرية، ومع ذلك فقد أدى هؤلاء إلى استبداد هائل.» «ومن النادر - كما قال بوسويه - ألا يعمل الفكر البشري لغايات تباين مقصده فضلا عن سبقها إياه.» «وعلى الرغم من تناقض الظواهر لا تكون منازعات المستقبل صراعا بين المصالح الاقتصادية فقط، بل مصادمة بين الأوهام النفسية أيضا» (روح الثورات).
أنواع المنطق المسيطرة على التاريخ «يوجد - خلافا لما يشتمل عليه علم النفس الكلاسي من معارف - أنواع للمنطق تختلف عن المنطق العقلي اختلافا كبيرا، ومنها المنطق الديني والمنطق العاطفي على الخصوص.»
و«وتبلغ هذه الأنواع من الاختلاف ما لا يمكن معه الانتقال من أحدهما إلى الأخرى.» «وعلى المنطق العقلي تبنى جميع أشكال المعرفة، ولا سيما العلوم الصحيحة.» «وعلى المنطق العاطفي والمنطق الديني تبنى معتقداتنا، أي: أهم العوامل في سير الأفراد والأمم.» «ويهيمن المنطق العقلي على منطقة الشعور، حيث يؤتى بتفسير أفعالنا.» «وفي منطقة اللاشعور التي تسيطر عليها المؤثرات العاطفية والدينية تنضج عللها الحقيقية.» «وتدل المشاهدة على أن المجتمعات تقاد بالمنطق العاطفي والمنطق الديني على الخصوص، وأن المنطق العقلي لا يؤثر فيها ولا يحولها مطلقا» (روح السياسة).
الإرادة الشاعرة والإرادة غير الشاعرة «إن الحوادث التي تدرك بالشعور هي انعكاس لكيان نفسي باطني لا نعرفه، وفي هذا الكيان تنضج أهم بواعث السير.
وتنشأ الإرادة عن نضج البواعث هذا، وهي تبدو على شكلين: الإرادة الشاعرة، وهي التي قال بها علماء النفس، والإرادة غير الشاعرة.» «وتنطوي الإرادة الشاعرة على التفكير الحر وعلى النقاش في الدوافع الخارجية، واللاشعور في الإرادة اللاشاعرة هو الذي يفكر من أجلنا، وهنالك ينتهي الحكم تام التكوين إلى ميدان الشعور الذي يتقبله على العموم وإن كان يستطيع رفضه.» «وتتجلى الإرادة الشاعرة على شكل شهوات واندفاعات تعد أدلاء اعتيادية للسير، وبما أنه ليس لدى معظم الناس دليل غير إرادتهم اللاشاعرة، فإن هذه الإرادة هي التي يجب أن يؤثر فيها لتسييرهم.» «وإذا ما استقرت الإرادة غير الشاعرة لدى الشعب بما فيه الكفاية منحته قوة عظيمة. ومما أحسنت ملاحظته كون جميع الأمم يقاد بالقوى الغريزية التي تشتق من عرقها.» «فبإحداث عزائم غير شاعرة في روح الجماعات يوجه قادة الناس الجموع كما يشاءون» (معارف نفسية عن الحرب).
شأن اللاشعور في حياة الأمم «يعد اللاشعور في معظمه بقية موروثة عن الأجداد، وتقوم قوته على كونه يمثل تراثا لسلسلة طويلة من الأجيال، يضيف كل واحد منها شيئا إليه.» «ويكون اللاشعور دليلا لنا في معظم أفعال حياتنا اليومية، وتقوم التربية على ترويض اللاشعور خاصة، ومنه يتألف رأس مال نفسي حقيقي.» «وعن اللاشعور تصدر المعاينة التي هي أصل الإلهامات العبقرية» (الآراء والمعتقدات).
صفات الجماعات الأساسية «يجب أن يذكر بين صفات الجماعات سرعة تصديقها الذي لا حد له، وحساسيتها البالغة وعدم تبصرها وعجزها عن التأثر بالبرهان، ويتألف من التوكيد والعدوى والتكرار والنفوذ وسائل وحيدة لإقناعها تقريبا، ويمكن أن تحمل الجماعة على تصديق كل شيء، فليس لديها شيء مستحيل.» «والإنسان في الجماعة يهبط كثيرا في سلم الحضارة، فهو يصير من البرابرة، ويظهر ما يتصفون به من عيوب ومحاسن، أي يبدي عنفا خاطفا كما يبدي حماسة وبطولة.» «والجماعة في الحقل العقلي تكون دون الإنسان وهو منفرد دائما، والجماعة في الحقل الأدبي والعاطفي قد تكون أعلى منه.» «والجماعة تأتي عملا إجراميا بعين السهولة التي تأتي بها عملا زهديا.» «وتأثير الجماعات عظيم في الأفراد الذين تتألف منهم، ففيها يصبح البخيل مبذرا والملحد مؤمنا والصالح مجرما والجبان بطلا.» «والأمثلة على مثل هذه التحولات كثيرة في التاريخ، ولا سيما في دور الثورات.» «وتؤدي الروح الفردية والروح الجماعية إلى أعمال شديدة الاختلاف، فالأثري يصبح إيثاريا باندماجه في جماعه، فيضحي بحياته في سبيل قضية اعتنقتها الجماعة التي يكون جزءا منها.» «والجماعات لا تتمثل الحكومات إلا على شكل استبدادي، وفي هذا سر هتافها للطغاة دائما.» «ثم إن الحكومة الشعبية لا تعني حكومة يقوم بها الشعب، بل حكومة يقوم بها زعماؤه.» «وتبعد الحكومات الحاضرة في معظم البلدان من أن تكون شعبية حقا، فهي تمثل حكومة من الزعماء فقط.» «والدولة العصرية مهما يكن رئيسها ورثت في نظر الجماعات وزعمائها ما كان يعزى إلى قدماء الملوك من سلطان ديني، وذلك عندما كانت الإرادة الإلهية متجسدة فيهم.» «وليس الشعب وحده هو المشبع من الاعتماد على قدرة الحكومة، فجميع مشترعينا مشبعون منه أيضا.» «ولم ينته سياسيونا إلى إدراكهم أن النظم إذ كانت معلولات لا عللا لا تنطوي على فضيلة في ذاتها» (روح الثورات).
استعمال الأسلحة النفسية «تشتمل الأسلحة النفسية على قدرة أرفع من المدفع في الغالب، غير أن استعمالها صعب.» «ولا يمكن استعمال مفتاح العوامل النفسية إلا بكثير من المهارة.» «وما كان من عجز الألمان في الحرب الأخيرة عن استعمال الأسلحة النفسية أدى إلى قيام أعظم الأمم ضدهم، وفي مقدمتها إنكلترة التي كان من السهل ضمان حيادها، ثم إيطالية والولايات المتحدة.» «ومن أفظع الأغاليط النفسية التي اقترفها الألمان هو اعتقادهم أن جميع الناس يخضعون لعوامل واحدة، ولم يكن لما تتألف منه أسلحتهم النفسية المهمة من تهديد وهول ورشوة نتيجة غير تدفق ثلاثة ملايين متطوع من الأرض الإنكليزية، وغير نسف حياد الولايات المتحدة الذي كان على ألمانية أن تعمل على حفظه بأي ثمن كان» (روح الأزمنة الحديثة).
تأثير الماضي في حياة الأمم «لتغيير النظم السياسية تأثير ضعيف إلى الغاية في حياة الأمم، فمزاج الناس النفسي، لا نظمهم، هو الذي يعين تاريخهم.» «وبما أن الحال الحاضرة لأي موجود كان معينة بتراث أحواله الماضية، فإن ما يمكن تحقيقه من تحول في كل جيل ضئيل في كل وقت.» «وليست التغيرات المطلقة التي تحلم بها الأحزاب السياسية أمرا يمكن تحقيقه» (تقلبات الساعة الحاضرة).
ثبات المركبات النفسية التي تتألف الأخلاق منها وتحول هذه المركبات «يمكن المركبات التي تتألف الأخلاق منها أن تكون شديدة الارتباط أو ضعيفة الملاط.» «ويطابق المركبات المتينة أقوياء الأفراد الذين يثبتون على الرغم من تقلبات الأحوال، كالإنكليز مثلا.» «ويطابق المركبات السيئة الملاط ذوو الأمزجة النفسية الرخوة المترددة المتقلبة كالصقالبة مثلا.» «حتى إنها تتغير في كل ساعة بفعل أخف العوامل إذا لم توجهها بعض مقتضيات الحياة اليومية كما تقني ضفاف النهر مجراه.» «والذاتية بلا صلابة تكون بلا ثبات، والذاتية بلا ليان تعجز عن ملاءمة تحولات البيئة الناشئة عن تقدم الحضارة.» «وفرط الليان في الروح القومية يحفز الأمة إلى ثورات متصلة، وفرط الصلابة يحول دون تقدمها ويسوقها إلى الانحطاط، وتزول الأنواع الحية كما تزول العروق البشرية عندما تثبت في ماض طويل ثباتا عظيما، فتصبح عاجزة عن ملاءمة شروط الحياة الجديدة.» «وقليل من الأمم من استطاع إقامة توازن محكم بين الصفتين المتناقضتين: الصلابة والليان.»
انتشار المعتقدات والعدوى النفسية «تتألف من العدوى النفسية ظاهرة نفسية تكون نتيجتها تقبل بعض الآراء والمعتقدات قبولا غير إرادي، وبما أن اللاشعور مصدرها فإنها تتم من غير أن يشترك فيها أي برهان كان.» «وتلاحظ العدوى لدى جميع الموجودات المترجحة بين الحيوان والإنسان، ويسيطر عملها الواسع على التاريخ، والواقع أنها تمثل العنصر الجوهري في انتشار الآراء والمعتقدات.» «وتكون قوتها من العظم في الغالب ما تحمل الإنسان معه على العمل ضد أكثر مصالحه وضوحا.» «وهي تحول الأشخاص المسالمين إلى محاربين باسلين، وهي تحول أبناء الطبقة الوسطى الهادئين إلى متمذهبين طاغين.» «وليس تماس الأفراد ضروريا ليؤدي إلى العدوى النفسية، فيمكن أن تنشأ عن الكتب والجرائد البرقية، وعن الشائعات وحدها أيضا ...» «وتنتقل المشاعر الحسنة والسيئة بالعدوى، وفي هذا سر أهمية القرين في التربية.» «وتكون العدوى النفسية من القوة الكافية ما تعبد معه جميع العقول ...» «ومتى عرف نظامها معرفة جدية امتلك أحد المفاتيح المهمة لعوامل التاريخ الأساسية» (الآراء والمعتقدات).
المثل الأعلى والعقل في حياة الأمم «تغيير مبدأ سعادة الفرد أو الأمة، أي مثله الأعلى، يعني تغيير مبدئه في الحياة، ومن ثم تغيير سيره.» «وليس التاريخ غير قصص الجهود التي يبذلها الإنسان لإقامة مثل عال ثم لهدمه عندما يبلغه فيبصر بطلانه.» «ويعد الشك، الممكن لدى بعض الأفراد، شعورا لا عهد للجماعات به، فالجماعات تحتاج إلى مثل عال مبدع للآمال.» «ويحتاج قيام المجتمع على أساس متين إلى حيازة مثل عال مشترك، سواء أكان هذا المثل الأعلى دينيا أم عسكريا أم شيئا آخر، وهنالك فقط تولد الروح القومية، وتبقى الأمة حتى تكوينها نقعا من البرابرة يستطيع أن يلتحم لوقت تحت إمرة رئيس، ولكن من غير تماسك دائم.» «ويتم الانتقال من البربرية إلى الحضارة باعتناق مثل عال مشترك.» «وتعود الأمم إلى البربرية عند انحلال الروح القومية، فقد هلك الرومان حينما زالت من قلوبهم عبادة رومة والنظم التي عينت عظمتها.» «وفي أيامنا أضاعت المثل العليا القديمة سلطانها، فقد استبدل بها حقد حسد على جميع الأفضليات، وبالتدريج تمثل الأماني الشعبية صراعا ضد تفاوت الذكاء والثراء.» «وفي كل وقت كان شأن العقل في حياة الأمم دون شأن المثل الأعلى، وفي كل وقت جعلت هذه الخاصية خادمة لأقل ما يدافع عنه من الاندفاعات العاطفية والدينية.» «ولم تقم الآراء والمعتقدات التي تألف منها مثل عال ضد العقل، بل قامت مستقلة عن كل عقل» (الآراء والمعتقدات).
العوامل الحديثة في تطور الأمم «مميزات الزمن الحاضر الحقيقة هي؛ أولا: إقامة سلطان العوامل الاقتصادية مقام سلطان الملوك والقوانين. ثانيا: اشتباك المصالح بين الأمم التي كانت منفصلة، فلم يكن عند بعضها ما تستعيره من بعض.» «ويصبح تأثير الحكومات العظيم في الماضي أكثر ضعفا في كل يوم أمام العوامل الاقتصادية التي تزيد أهمية، والآن تخضع الحكومات للضرورات الحاضرة وعادت لا تقود.» «وولد مع تقدم العلم والصناعة والصلات الأممية سادة بالغو القدرة يجب على الأمم وملوكها أن يطيعوهم» (روح السياسة).
مقتضيات العدد «لا تعرف الأمزجة النفسية الابتدائية جورا ولا باطلا ولا مستحيلا، وبما أن الأكثرية تتألف منها فإن الإنسان يلزم بمعاناة أهوائها التي يفسرها عبيد العدد» (روح السياسة).
نزاع حديث بين الجماعة والصفوة «لم يمكن الاعتناء في الزمن القديم إلا بإفقار الأمم الأخرى، كما صنع الرومان.» «ومن الصعب في الوقت الحاضر أن يغتني الإنسان من غير أن يزيد الرخاء العام في الوقت نفسه، وهذا الاغتناء الجماعي مدين لنفوذ الصفوة، فما كانت الحضارات الحديثة التي أوجدها خيار الناس لتعيش وتنمو بغيرهم.» «وما كان هؤلاء الأخيار ألزم في زمن لزومهم في الوقت الحاضر، ومع ذلك فإنهم لم يحتملوا بصعوبة احتمالهم في الوقت الحاضر.» «ومن المشاكل الحاضرة أن ينتهى في وقت واحد إلى إعاشة الأخيار الذين لا يستطيع بلد أن يبقى بغيرهم، مع أن عددا كبيرا من العمال يود لو يسحق هؤلاء الأخيار بصولة كالتي أبداها البرابرة لتخريب رومة فيما مضى ...» «ويزول الخلاف يوم تشعر الجماعات بمصالحها الحقيقية، فتبصر أن تواري الخيار أو ضعفهم يؤدي بسرعة إلى فقرها أولا ثم إلى هلاكها ثانيا» (روح السياسة).
شأن الرأي العام في حياة الأمم «سيطر الرأي العام على العالم دائما، ولكنه لم يسيطر عليه في زمن كما في الوقت الحاضر.» «وكان نابليون قد أبصر تأثير الرأي العام العظيم، وعنده أن للرأي العام سلطانا لا يقهر ولا يقاوم كما لسلطان الدين.» «ومن يصبح سيدا للرأي العام يمكنه أن يسوق أمة إلى أكثر الأعمال بطولة، كما يمكنه أن يسوقها إلى أكثر المغامرات مخالفة للصواب.» «وعرف أعاظم أقطاب السياسة في كل وقت أن يوجهوا الرأي العام، ويقتصر محترفو السياسة الوضعاء على اتباعه» (روح الأزمنة الحديثة).
تأثير الروح الشعبية في الحكومات «اليوم يتملق الشعب ذو السيادة كما كان يتملق أسوأ المستبدين، وتجد شهواته الصاخبة ورغباته الطائشة معجبين وعابدين.» «وعند محترفي السياسة الخادمين للعوام لا وجود للوقائع، ولا قيمة للحقائق، فيجب على الطبيعة أن تخضع لأهواء العدد» (روح السياسة).
الروح الجذرية والروح اليعقوبية «الروح الجذرية الحديثة قريبة تماما من الروح اليعقوبية في زمن الثورة الفرنسية، فاليعقوبي ليس عقليا في الحقيقة، بل مؤمن، ويبعد اليعقوبي من إقامة معتقده على العقل، فيكسب براهينه العقلية في معتقده، ولا يتأثر اليعقوبي بالمعقول مطلقا مهما كان هذا المعقول صائبا.» «وبما أن نظره إلى الأمور قصير إلى الغاية دائما فإنه لا يبيح له مقاومة ما يسيره من الاندفاعات العاطفية القوية.» «والواقع أن اليعقوبي متدين أقام آلهته الجدد مقام آلهته المسنين، وإذ إن اليعقوبي مشبع من قدرة الكلمات والصيغ فإنه يعزو إليهما سلطانا دينيا، وهو لا يتقهقر مطلقا أمام أعنف التدابير خدمة لهؤلاء الآلهة الكثيري الاطلاب» (روح الثورات).
تطور المبادئ الثورية الكبرى تقدم الاستبداد الحديث «لم يدخل الإنسان في دور من الحرية ولا الإخاء، وبما أن الحرية نبذت من قبل الاشتراكيين وأنصار الحكومية، فإنها عادت لا تمثل غير رمز حائر، وبما أن الحرية دحرت من قبل جميع المدافعين عن نزاع الطبقات فإن الإخاء يبقى وهما بلا نفوذ.» «وبين الثالوث الثوري المنقوش على جدرنا دائما ترى المساواة أن سلطانها وحده هو الذي يعظم، وبما أن المساواة أصبحت إله الأزمنة الحديثة فإنها ستستمر لا ريب على طرد الملوك من عروشهم وطرد الآلهة من زونهم،
2
وذلك إلى اليوم الذي تهلك فيه بدورها لعجزها عن تحقيق أماني الأمم.» «وما انفك جميع الخطباء السياسيين منذ أوائل الثورة الفرنسية حتى أيامنا، يعلنون في خطبهم حقدهم على الاستبداد وحبهم للحرية.» «وعلى العكس يكشف تاريخ هذا الدور عن مقت عظيم للحرية، ولا سيما حرية الآخرين، كما يكشف عن ميل إلى الاستبداد.» «وتدور جميع المعارك السياسية حصرا تقريبا حول معرفة أي الأحزاب سيمارس هذا الاستبداد وأية طبقات من المواطنين ستحتمله» (روح السياسة).
خلاصة عامة
بالشواهد السابقة ينتهي هذا الكتاب الذي حاولت أن أثبت فيه بعض مناحي التاريخ العظيمة والضرورات التي توجه مجراه.
وتحول العالم مرات كثيرة منذ الزمن البعيد الذي لم يكن فيه للإنسان - الغائص في ظلمات ما قبل التاريخ - دافع للعمل غير احتياجه إلى الغذاء والتناسل، وبالتدريج أضيفت عوامل سير أخرى إلى شروط الحياة الأولى التي وجهت الإنسانية في فجرها، والتي تبقى وحدها موجهة لمعظم الناس في كل حين، وكانت الأوهام النافعة أو الضارة أقوى هذه العوامل التي وجهت الأمم بتعاقب الأجيال. •••
وعلى ما ألقاه كثير من الاكتشافات من نور يبقى تفسير الحوادث التاريخية العظيمة ناقصا، ويظل معظم المسائل بلا جواب، فكيف وفق أعاظم المتهوسين الخالقين للأوهام لإيجاد آلهة شتى تولد العزائم الشعبية وتتحول؟ وما السبب في أن شأن الأغاليط الجماعية في حياة الأمم أعلى من شأن العقل؟
وإذا كان التاريخ مملوءا إبهاما وتفاسير وهمية فلأنه ليس في الحقيقة غير تعبير باطني عن بعض الحوادث الوجدية التي تتألف الحياة من مجموعها، فدراسة الحياة أمر ضروري لفهم التاريخ؛ ولذلك رأينا أن نتكلم في هذا الكتاب عن السنن التي تسيطر عليه.
والتاريخ الذي هو قصص لبعض مظاهر الحياة يصدر إذن عن منطقة حافلة بالأسرار دائما، وذلك لأن جميع الحادثات المترجحة بين تكوين خلية بسيطة ونمو الفكر الدماغي تظل غير مدركة من هذه الناحية، فيتعذر صوغ فرضية لتفسيرها، ويفوق إدراك حياة أحقر عضو وسائل الذكاء كثيرا.
ومع ذلك فلا يجوز أن يقنط من النفوذ ذات يوم في هذه المنطقة المستغلقة، فما يدرك اليوم مؤلف من غير المدرك بالأمس.
ودراسة مثل هذا التطور تحتمل مرحلتين مختلفتين، ففي الأولى تحقق الحوادث فقط، وهي تدرك في الثانية، ودرجات المعرفة المختلفة هذه تلاحظ بسهولة في سواء الفكر الحديث، ولا بد له من القول ببعض الإيضاحات التي لا يمكنه إدراكها بعد، ومن ذلك مثلا: انتشار فكرة كون دائم التحول، فلا يوجد له أول ولا حد ولا آخر، وتضاف إلى الأبدية القائمة أمامنا، والسهل إدراكها نسبيا، أبدية قائمة وراءنا فيلوح أن النفس ملزمة بقبولها، ولكن من غير أن تتمثلها، وتقوم الهندسة نفسها على تعريفات ألزم العقل بقبولها من غير أن يدركها، كما أثبت ذلك منذ زمن طويل.
ولا ينبغي لمن يريد تعمقا في معرفة التاريخ أن يفصل الإنسان عن بيئته، بل يجب عليه أن يربطه بسلسلة الموجودات الطويلة التي يعد متما لها وبالكون الذي لا يمثل غير واحد من مظاهره.
وهكذا سيرنا إلى دراسة موضوعات يلوح بعدها من التاريخ، وإن كانت أسسه الحقيقية.
Page inconnue