الفقرة (3) اتصال الكون بالخالق
أما رأي ابن رشد في اتصال الكون بالخالق فينطوي تحته أمران: الأول؛ «أن السماء حيوان مطيع لله تعالى بحركته الدورية»، كما قال في كتابه (تهافت التهافت). والثاني؛ «أن الله يعلم أنواع الأشياء في العالم لا مفرداتها». وتحت هذين الأمرين تنطوي مسألة الاختيار التي هي من أهم مسائل الفلسفة.
أما قوله: إن السماء حيوان حي مطيع لله بحركته الدورية؛ فقد تقدم تفسيره في الفقرة الثالثة. ومنه يظهر أن العالم إنما هو عبارة عن أجرام تدور في الفضاء في أفلاك خصوصية وحركات دورية. وبما أن هذه الحركات الدورية لا تنشأ إلا عن نفس تحركها وتديرها، وإلا كانت الحركة أفقية أو عمودية؛ فقد وجب أن يكون هنالك نفس محركة، ولكن ما هي هذه النفس المحركة. هل هي الله نفسه سبحانه وتعالى.؟ كلا.. لأن الله منزه عن الاتصال بالكون. وإنما هذه النفس هي ما يسمونه العقل الأول. فالعقل الأول هو محرك العالم وأول ما خلقه الله في العالم. وقد استشهد ابن رشد على ذلك بما جاء في القرآن، من أن الروح هي أول مخلوقات الله. وقال: إن هذه الروح هي العقل الأول، ومن هذا العقل تفرعت العوالم. وهذا العقل متصل بها يصدر القوة والحركة إليها. فالكون إذن متصل به لا بالله. وإنما المتصل بالله العقل الأول الذي يستمد القوة منه. فالله يقبض عليه وهو يقبض عليها.
وبناء على ذلك لا يكون لله علم بالجزئيات التي تحدث في العالم، وإنما يكون له علم بكلياته أي إجمال الأشياء وأنواعها لا مفرداتها. بل إن الله يعلم الجزئيات، ولكنه يعلمها «بعلم غير مجانس لعلمنا بها»، كما قال في كتابه (فصل المقال). وذلك؛ لأن «علمنا معلول للمعلوم به؛ فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره وعلم الله بالوجود على مقابل هذا فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود. فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة، وذلك غاية الجهل». انتهى قوله في (فصل المقال). ومفاد ذلك أن الفيلسوف لا يعتقد في علم الله بالجزئيات ما يعتقده جميع الناس اليوم.
وإذا كان الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعلم غير مجانس لعلمنا فذلك دليل على أنه لا يدبر العالم مباشرة. فشأنه في ذلك شأن حاكم المدينة، فإنه مصدر النظام فيها، ولكن ليس له مداخلة في كل شأن من شئونها مباشرة. ولو كان الله سبحانه وتعالى يدبر العالم مباشرة أي يدير بنفسه كل حركة من حركاته الجزئية والكلية، فإن الشر في العالم يكون صادرا عنه (تعالى الله عن ذلك). فأعظم إكرام وتقديس لله تعالى هو إذن اعتبار عنايته بالكائنات من قبيل الناموس الثابت الموضوع لها. ففي هذا الافتراض يكون كل خير في العالم صادرا عن الله؛ لأنه أراده وسن السنن الطبيعية له. وكل شر في العالم يكون صادرا عن المادة التي خالفت سننه، أو الإنسان الذي عصاها.
وهذا الفكر الأخير هو لباب فكر أرسطو.
الفقرة (4) الاتصال
إن موضوع الاتصال أي اتصال الإنسان بالباري مسألة من أهم المسائل التي دارت عليها فلسفة ابن رشد والمتكلمين. وهي تقسم إلى مسألتين: المسألة الأولى؛ اتصال الإنسان بالعقل الفاعل بطريق الفكر. والمسألة الثانية؛ اتصاله به بطريق الحواس.
وإيضاحا لهاتين المسألتين نذكر رأي موتك ورنان فيهما، هو مستخلص من كتاب ابن رشد (في ما وراء الطبيعة).
قال ابن رشد: في الكون مادة وعقل: «والعقل نوعان نوع فاعل عام ونوع منفعل. فالعقل الفاعل العام جوهر منفصل عن الإنسان، وهو غير قابل للفناء ولا الامتزاج بالمادة. بل هو الشمس الذي تستمد منه كل العقول. والعقل المنفعل هو عقل في الإنسان مستمد من العقل العام الفاعل الذي تقدم ذكره. وبما أن العقل المنفعل مستمد من العقل الفاعل؛ فهو ميال دائما «للاتصال» به والانضمام إليه. ولذلك تنزع نفس الإنسان إلى الباري، ولكن ميل العقل المنفعل (أي الإنسان) على الاتصال بالعقل العام لا يكفي وحده لحدوث هذا الاتصال. فإن العقل المنفعل لا يتصل بذلك العقل العام بمجرد قواه الطبيعية، بل يجب تعليمه طريق هذا الاتصال. نعم إن العقل المنفعل يصل على العقل العام، وهو ما يسمونه العقل المكتسب أو المستفاد، ولولاه لما قدر الإنسان أن يعلم شيئا، ولكن هذا العقل المكتسب ليس سوى نتيجة ميل العقل المنفعل على العقل العام، ونزوعه إلى الامتزاج به. وإنما الطريق الذي يستطيع به العقل العام ونزوعه إلى الامتزاج به. وإنما الطريق الذي يستطيع به العقل المنفعل الوصول إلى العقل العام والاتحاد به أي معرفته حق معرفته - العلم وحده
Page inconnue