وبناء على ذلك لا يكون كلامنا هناك عن حدوث المادة وحرية الخالق، ووجود الأسباب فيه وحده مقصورا على رجال الدين الإسلامي، بل هو يشمل جميع رجال الأديان؛ لأنهم كلهم يعتقدون ذلك الاعتقاد - وإن كانوا فيه درجات - وبما أننا سنعود إلى هذا الموضوع في الرد الأول على مقالة الأستاذ الأولى في الباب الثالث؛ فإننا ننتقل منه إلى الفقرة الثانية، ونحن واثقون بأننا شرحنا هذه النقطة في هذه الفقرة شرحا أزال الإشكال فيها.
الفقرة (2) المادة وخلق العالم
كل من طالع شيئا من كتب ابن رشد الفلسفية أو وقف على ما كتبه الفلاسفة عنه، علم أن فلسفته مبنية على أمرين: الأول؛ اعتقاده بقدم المادة، أي أزليتها. والثاني؛ مسألة العقول ووحدانيتها.
أما الأمر الأول وهو (أزلية المادة) فهو مسألة من أهم المسائل التي شغلت أفكار المفكرين. ولذلك وجه الأمير يوسف إلى ابن رشد أول مقابلته له السؤال الذي نشرناه في الصفحة (13) عنها. ومقتضى هذا الاعتقاد أن المادة الأولى التي صنع الكون منها كانت موجودة بذاتها منذ الأزل أي بدون ابتداء، وإلا وجب أن يقال بأن العالم صنع من العدم، وهذا قول لا يقبله العلم. ولذلك كان ابن رشد يفترض وجود هذه المادة افتراضا، إذ ليس في الإمكان إقامة الدليل على وجودها. وقد وقع ابن سينا قبله في هذه المشكلة أي العجز عن إقامة الدليل على وجود المادة قبل خلق الكون، ولكنه تخلص منها بقسمته العالم إلى قسمين: قسم ممكن وقسم واجب. فالقسم الممكن ما كان حدوثه ممكنا إذا افترض حدوثه، والقسم الواجب ما كان حدوثه واجبا بنفسه ولا يحول شيء دونه. وقد وضعت مادة الكون في القسم الممكن. ولذلك لما كان ابن رشد يبني فلسفته على أزلية المادة، ويعلل الخلق بها كان المتكلمون الذين يناظرونه يهدمون ذلك البناء بكلمة واحدة، وهي قولهم له أنك تبني على افتراض لا على برهان. ومع ذلك فإن ذلك الافتراض لا بد منه. وقد مر الآن على فلسفة اليونان والعرب عشرات القرون، ولا يزال الفلاسفة والعلماء يعتمدون على هذا الافتراض، حتى في هذا العصر لتعليل خلق الكون؛ لأن هذا الافتراض أقرب إلى العقل من قول القائلين بأن الكون مخلوق من العدم.
وقد كان ابن رشد يحج مناظرته في هذا الموضوع بقوله: «إن ظاهر الآيات الواردة في القرآن عن إيجاد العالم تثبت برأيه. فإن قوله تعالى:
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء
يقتضي بظاهره وجودا قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزمانا قبل هذا الزمان، أعني المقترن بصورة هذا الوجود الذي هو عدد حركة الفلك. وقوله تعالى:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات
يقتضي - أيضا - بظاهره وجودا ثانيا بعد هذا الوجود. وقوله تعالى:
ثم استوى إلى السماء وهي دخان
Page inconnue