وفضلا عن ذلك؛ فإن علماء إيطاليا كانوا ميالين إلى آداب ذلك التمدن اليوناني القديم الذي كان بمثابة شمس أضاءت حينا ثم خمدت. فأخذوا يعودون إليها.
فنشأ عن كل ذلك حرب جديد أخذ يشتغل بآداب اليونان وعلومهم دون أن يعتمد في ذلك على شيء غير النصوص اليونانية نفسها. وكانوا يسمونهم الحزب الجديد. أم الحزب القديم؛ فهو حزب فلسفة العرب ومبادئ ابن رشد. فبعد أن كان الخلاف بين «رشديين وإسكندريين» على التخصيص أصبح الخلاف بين «رشديين ويونانيين» على الإطلاق.
وفي 4 أبريل من عام 1497 صعد الأستاذ نقولا ليونيكوس توموس إلى منبر التعليم في كلية بادو، وأخذ يلقي فيها لأول مرة فلسفة أرسطو باللغة اليونانية. فنظم يومئذ في ذلك بعض الشعراء أبياتا يقرظ بها هذا الأستاذ دلالة على أهمية هذه الحادثة. ومن ذلك الحين أخذت النهضة اليونانية في إيطاليا بالنمو. فكما أن بادو والبندقية وشمال إيطاليا عادت كلها إلى نص أرسطو الأصلي عادت فلورنسا إلى نص أفلاطون الأصلي - أيضا - فأصبحت البندقية وفلورنسا في ذلك بمثابة قطبي الفلسفة. فإن الأولى كانت عقلا يمثل التحقيق في البحث، والثانية كانت قلبا يمثل رقة الفلسفة وروحانيتها.
فاصطلت يومئذ نار الجدال بين «الرشديين» و«اليونانيين» فنشأ عن ذلك اختلاط غريب في فلسفة العرب واليونان والأوروبيين، ولما قام المذهب البروتستنتي في أوروبا انضم إليه كثيرون من أصحاب العقول المعتدلة الذين كانوا يخافون عافية التهور في مبادئ ابن رشد المادية، وباتوا يحاربون هذه المبادئ. فكأن الإصلاح البروتستنتي كان وسطا بينها وبين المبادئ اللاهوتية القديمة. ومنذ ذلك الحين ازداد فوز «اليونانيين». فلم تأت سنة 1631 - وهي السنة التي توفي فيها قيصر كريمونيني - حتى زالت فلسفة ابن رشد من طريق الفلسفة الأوروبية الحديثة، ودخلت في حيز التاريخ القديم. وكان كريمونيني هذا آخر زعيم لفلسفة ابن رشد في كلية بادو.
الفلسفة الحديثة
(وحلولها محل الفلسفة اليونانية)
وسبب زوال فلسفة ابن رشد والفلسفة اليونانية من طريق الفلسفة الحديثة يومئذ دخول هذه الفلسفة في طريق جديدة؛ فإن فلسفة ابن رشد تحملت هجمات أنصار أفلاطون واللاهوتيين ومجمعي لاتران وترانته، واضطهاد ديوان التفتيش وردت الجميع على أعقابهم خاسرين، ولكنها لم تستطع التغلب على الفلسفة الحديثة الجديدة المبنية على التجربة والامتحان والمشاهدة. وقد كان أبطال هذه الفلسفة ودعاتها المؤسسين ليوناردي فتسي وبروتو وساربي وأكونتريو وغاليله المشهور،الذي غير وجه الأرض باكتشافه دوران الأرض، وديكارت ولوك ولبنز ونيوتن وفرنسيس باكون.
وفرنسيس باكون هذا هو أول من بدأ بهدم الفلسفة اللاهوتية القديمة (السكولاستيك) لإقامة صرح العلم الوضعي الجديد المبني على المشاهدة والتجربة والامتحان. وقد كان من البديهي قيام قاعدة كهذه القاعدة بعد الاختلاط الغريب الذي كان في الفلسفة الأوروبية قبله؛ فإن علماء السكولاستيك كانوا في فوضى، بعضهم يعتمد على أرسطو العربي وبعضهم على أرسطو اليوناني، والاختلاف في التفسير والتأويل قائم بينهم على ساق وقدم. وكان مناظروهم من علماء الطبيعة في نضال ونزاع معهم، ولكنهم كانوا محتاجين إلى بوق جهوري الصوت يترجم عما في نفوسهم ويغطي صوته أصوات خصومهم. فكان فرنسيس باكون هذا البوق. بل كان الريح العاتية التي كنست الفلسفة القديمة كنسا، وذهبت بتعاليمها الجدلية وتصوراتها الخيالية.
وإليك تاريخ هذه الحركة الفلسفية التي انتهت بالقضاء على الفلسفة القديمة.
كانت الفلسفة الأوروبية مبنية من قبل على الفلسفة اليونانية التي وضعها أرسطو ونقلها إلى أوروبا ابن رشد وفلاسفة العرب. وكان يكفي أن يقال «قال أرسطو» لينحسم كل جدال. فكانت العقول خاملة لا تتصرف بشيء ولا تجترئ أن تحدث شيئا حذرا من الخروج عن القواعد المقررة. وكان رأس هذه القواعد «القياس» وهو المعروف «بإله أرسطو» أو ميزانه؛ لأن الحقائق لا تدرك بدونه. مثال ذلك: إذا أخذت النار ووضعت فيها ماء فإن الماء يتبخر. فكرر هذه التجربة عدة مرات فإذا تبخر الماء في كل مرة وجب أن تجزم بأن التبخر ناموس من نواميس الطبيعة. ثم أنك تقيس اللبن على الماء فتقول: بما أن اللبن سائل كالماء؛ فهو يتبخر أيضا مثله. وبناء عليه تكون قد عرفت طبيعة اللبن من قياسه على الماء، هذا هو القياس.
Page inconnue