(رده على فلسفة ابن رشد وصورته معه)
وقد قلنا إن القديس توما كان أكبر خصوم فلسفة ابن رشد. ولم نرد بذلك أنه كان أشدهم تطرفا وغلوا في الطعن على حكيم قرطبة، بل نعني أنه كان أقواهم حجة وأقدرهم على نقد فلسفته. أما المتطرفون في الطعن على ابن الوليد فسيرد ذكرهم. ولقد كان القديس توما يعتبر ابن رشد حكيما من الحكماء الأجانب . قال رنان: وفي الإمكان أن نقول إن القديس توما كان أكبر تلامذة ابن رشد؛ فإنه بصفته فيلسوفا فهو مديون بكل شيء للشارح العربي (ابن رشد).
ومما استدل به رنان على أن القديس توما كان تلميذا لابن رشد (أي آخذا عنه) شرحه أرسطو على الطريقة التي شرحه بها ابن رشد، ونقله من فلسفته أقوالا مطابقة لكتابات أبي الوليد.
وكان القديس توما أعظم فلاسفة اللاهوت في العصور المتوسطة، بل هو أعظم حكيم قام في الكنيسة الغربية.
أما نقضه الفلسفة العربية والرشدية فلم يتكلف له عناء شديدا على ما يظهر؛ لأن الهدم سهل. وقد صرف همه في هذا الرد إلى المسائل العليا المبنية عليها الفلسفة العربية. وهي أولا أزلية المادة وعدم المقدرة على وصف حقيقتها. ثانيا ارتباط المبادئ الأولى التي صدر العالم عنها بعضها ببعض. ثالثا كون العقل الأول الذي صدر عن المبدأ الأول أي الخالق عز وجل واسطة بينه وبين العالم الذي صدر عنه أي عن العقل. ووحدة هذا العقل. رابعا إنكار العناية الإلهية كما يتصورها العامة. خامسا استحالة الخلق أي الإيجاد من العدم بلا واسطة التولد والنمو.
ومما هو جدير بالذكر أن القديس توما لم يعتمد على الفلسفة اللاهوتية القديمة في الرد على فلسفة ابن رشد، بل أخذ من المبادئ الأرسطوطاليسية سلاحا لمحاربة هذه الفلسفة. وأول شيء وضعه أن أرسطو أخطأ في شيء، والعرب الذين جاءوا بعده زادوا على فلسفته أشياء، فازداد الخطأ بذلك، ولكن لباب فلسفة أرسطو صحيح. وقد قال القديس توما بصحتها؛ لأنه استطاع أن يستخرج منها مسألة خلود النفس التي هي مسألة المسائل. وذلك أنه أثبت من كتب أرسطو أن هذا المعلم كان يعتقد بأن النفس جوهر قائم بذاته.
أما رد القديس توما على فلسفة ابن رشد في خلق العالم؛ فقد كان بمثابة تخلص لا يرده العقل؛ فإنه قال: إن خلق العالم لم يكن عبارة عن حركة - كما يقول ابن رشد وأرسطو - وأن هذه الحركة تقتضي شيئا تحركه، بل كان عبارة عن صدور وفيضان، ولكن لا يجب أن نعتبر أن أرسطو وابن رشد قد خدشا الإيمان بهذا القول؛ فإنه قول صحيح بالنظر إلى الحالة الحاضرة. ذلك أنه لا يحدث الآن شيء جديد في العالم بدون حركة ومادة، ولكن في بدء الخلق كانت الحالة على غير ما هي عليه اليوم. أي أن وجود الشيء كان عبارة عن صدور وفيضان بلا احتياج إلى مادة يصنع منها. ولقد أخطأ أرسطو خطأ شديدا بقوله بأزلية الزمان والحركة، ولكن لم يكن يجوز لابن رشد أن يستنتج من هذا الخطأ القول باستحالة الخلق.
أما في مسألة وحدة العقل؛ فقد كان الحكيم توما يتحمس أكثر من تحمسه في مسألة الخلق. فقد كان يقول إن القول بوحدة العقل في الإنسانية خطأ عظيم؛ لأنه يفضي إلى الاعتقاد بأن القديسين والأبرار لا فرق بينهم وبين باقي الناس. ورغبة في نقض هذا الجانب الضعيف في فلسفة ابن رشد نقضا تاما، رجع القديس توما إلى حكماء المتقدمين من يونان وعرب فقال: إن هذه المسألة لم يقل بها أحد لا أرسطو ولا اسكندر دفروزياس شارحه اليوناني ولا ابن سينا ولا الغزالي ولا ثيوفراستوس ولا ثميستيوس؛ فإن جميع هؤلاء الحكماء كانوا يعتبرون العقل قابلا للانقسام في البشر. وتوصلا لتأييد هذا القول أثبت القديس توما أن مبدأ الشخصية هو عبارة عن مادة موجودة خلافا لقول ابن رشد أن الشخصية هي صورة لا غير.
وقد قال رنان: لا ريب أن القديس توما مصيب في إثباته شخصية الإنسان وإنكار كونها صورة؛ فإن العقل يقول «أنا» ويعرف أنه موجود مستقل، ولكن أرسطو لا يقول إن الشخصية هي عبارة عن صورة بل يقول إنها عبارة عن صورة وهيولى. ولو كان لكل إنسان عقل مخصوص لوجب أن يكون في الكون عدة أنواع من العقل، وتحتم أن يخلق الله عقولا في كل يوم إلى ما لا نهاية له. فالأبسط من ذلك كله أن يقال أن عقل الإنسان ينمو بنمو جسمه، وشأنه في ذلك شأن باقي الأعضاء.
وقد رد القديس توما على ابن رشد قوله في مسألة اتصال العقل الفاعل بالعقل المنفعل، واتصال العقل المفارق بالإنسان. فقال إننا لا نرى شيئا ولا نفهم شيئا، بل انعكاس صورته عن ذهننا. ولذلك يستحيل على المادة إدراك العقل المفارق لها، ولكن أحد تلامذة القديس توما وهو بييردوفرن لم يتابع معمله فأيد بناء على تعليم القديس دنيس الأربو باجيثي أن العقل الإنساني يمكنه أن يرى الخالق. ورأيه في ذلك موافق لرأي ابن رشد.
Page inconnue