Philosophie des sciences au vingtième siècle : origines, récoltes et perspectives futures
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
لقد آمن علماء العرب بأن قواعد القياس قابلة للتطبيق في كل العلوم، طالما هي معنية بصورة الفكر دون مضمونه. ولما كان الإسلام بمرجعه النصي الثابت (القرآن الكريم) ضاما لمجمل الإطار الحضاري ومحددا لمعالم الأبنية الثقافية، فإن إيمان العلماء التجريبيين العرب بالقياس الأرسطي كان بعدا من أبعاد اعتماد فقهاء الدين له، فكان المنهج التجريبي مضمرا في إطار حضارة سادها النص والقياس عليه كمنهج وأسلوب للبحث.
وفي هذا يمكن القول: إنه من الناحية الواقعية الفعلية، استفاد الإسلاميون من القياس الأرسطي أضعاف استفادة لاهوتيي الكنيسة منه، وذلك بسبب جهاز الشريعة المهيب في الإسلام، وضرورة استنباط الأحكام الجزئية من قواعده العامة. لقد اتخذ الأصوليون أربعة أسس لوضع الفتاوى والأحكام، هي: أولا القرآن الكريم، وثانيا السنة والحديث، وثالثا إجماع المسلمين، أما الأساس الرابع فهو القياس الفقهي بمعنى الحكم على فرع لثبوت ذلك الحكم على أصل مشابه أو مشارك. وبالطبع المصادر الثلاثة الأسبق، القرآن أولا وقبل كل شيء ثم السنة والحديث، ثم الإجماع - هذه المصادر الثلاثة أهم وأكثر مرجعية من المصدر الرابع، أي القياس، ولا يلتجأ إلى القياس أصلا إلا إذا تعذر الخروج بالحكم الشرعي من هذه المصادر الثلاث، ولم نجد له نصا صريحا في القرآن أو الحديث، والقياس الصحيح بدوره هو ما وافق الكتاب والسنة. بيد أن النصوص ثابتة وقاطعة ومحددة، وإجماع المسلمين أيضا لم ينعقد إلا على وقائع معدودة. وفي مقابل هذا نجد القياس الفقهي إمكانية ولود متجددة، يمكنها التعامل مع كل واقعة مستجدة بقياسها على أصل مشابه، ولا شك أن الفقهاء في صوغهم لأسس ومناهج القياس الفقهي قد استفادوا كثيرا من قياس المناطقة الأرسطي. لا غرو إذا أن تبارى فقهاء الإسلام في إسباغ الألقاب الرنانة على المنطق الأرسطي، فهو : معيار العلم، محك النظر، القسطاس المستقيم، فيصل التفرقة بين الخطأ والصواب، الفاروق بين الحق والباطل، آلة العلوم، أداة العقل، علم قوانين الفكر الثابتة ... أو هكذا اعتبروه، فيقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي (450-505ه/1059-1111م) عن المنطق، أو بالتحديد عن كتابه المدرسي في المنطق الأرسطي والقياس، والذي أسماه «معيار العلم» ... يقول الغزالي: ... معيارا للنظر والاعتبار، وميزانا للبحث والافتكار، وصقلا للذهن، ومشحذا لقوة الفكر والعقل، فيكون بالنسبة إلى أدلة العقول كالعروض بالنسبة إلى الشعر والنحو، بالإضافة إلى الإعراب؛ إذ كما لا يعرف منزحف الشعر من موزونه إلا بميزان العروض، ولا يميز صواب الإعراب عن خطئه إلا بمحك النحو، كذلك لا يفرق بين فاسد الدليل وقويمه، وصحيحه وسقيمه، إلا بهذا الكتاب، فكل نظر لا يتزن بهذا الميزان ولا يعاير بهذا المعيار، فاعلم أنه فاسد العيار غير مأمون الغوائل والأغيار.
38
على هذا النحو كان المنطق الأرسطي وقياساته منهج بحث مهيمن ومعبر عن روح العصر في الحضارة الإسلامية الوسيطة والمشرقة، وأكثر من هذا في الغرب المسيحي طوال ما يقرب من عشرين قرنا من الزمان. كانت الحضارة الإسلامية أكثر عقلانية واستنارة وتوثبا ومرونة، فاتسع إطارها الثقافي لفعاليات المنهج التجريبي وحمل لواء الحركة العلمية - كما أشرنا - وكان ذلك لعوامل كثيرة لا يتسع لها المجال وليست موضوعنا الآن؛ لأننا معنيون الآن بسياق الحضارة الغربية التي أنجبت العلم الحديث في العصر الحديث، بعد أن كان المنطق الأرسطي كمنهاج للبحث يحكم قبضته عليها، حتى كادت أن تختنق، فكيف كان هذا؟ كيف انتقلت الحضارة الأوروبية من وضع يسوده القياس الأرسطي العقيم، إلى وضع يرفع لواء المنهج التجريبي فينطلق منه عملاق العلم الحديث؟
في الإجابة على هذا السؤال نلاحظ أن القياس الأرسطي طوال العصور الوسطى المسيحية لم يكن هو المنهج الملائم فحسب، بل أيضا المنهج الأوحد الذي ينبغي أن ينفرد بحلبة البحث ويستأثر بشتى الجهود العقلية، فكيف نترك الحقائق الكلية الإلهية اليقينية في الكتب المقدسة لننشغل نحن البشر الخطائين المضللين بإعمال عقولنا الفانية الزائلة لنصل إلى حقائق مشكوك في صوابها عرضة للخطأ، أو على أفضل الفروض حقائق قاصرة محدودة؟! وكما يقول جورج سارتون: «آنذاك لم يكن فن الملاحظة العلمية قد تطور بعد، وبينما بدت الحقائق العلمية القائمة على الملاحظة والخبرة مزعزعة الأركان، فإن الأنساق الدينية كانت راسخة.»
39
فحسبنا ممارسة الاستنباط القياسي الذي لا يدانيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه ما دامت مقدماته يقينية، وهي بالقطع هكذا، أليست إلهية؟! وإذا كان المنهج القياسي الأرسطي مصادرة على المطلوب ولا يأتي بجديد، فما الحاجة إلى الجديد؟ أو إلى أي علم كسبي بعد أن ظفرنا بالحقيقة في الدارين؟! وإذا كان منهجنا لا يمس الطبيعة المتأججة من حولنا، فما ضر هذا؟! «ألم يجد رجل هذه العصور في الله وقصة الخلق وعقيدة الإرادة الشاملة تفسيرا كاملا عن كيفية نشوء العالم وتوجيهه وأساليب ذلك وأهدافه؟ فلماذا يبني الإنسان في كد وجهد بناء متشابكا كائنا هناك منذ البداية، وواضحا وظاهرا للجميع؟!»
40
وهذا التفسير الخاطئ للرسالة الدينية الذي ساد أوروبا في عصورها الوسطى المظلمة، إذا أضفنا إليه دأب المسيحية على التحقير من شأن المادة واعتبارها أصلا لكل شر وخطيئة، بل وتأثيم الانشغال بها، تبين لنا أن سيادة المنهج الأرسطي قد تأكدت بأن السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها لم يكن مطروحا آنذاك.
وإقصاء السؤال عن الطبيعة في العصور الوسطى الأوروبية يعود إلى أصول أعمق، ثم عضدتها الكاثوليكية وأعطتها الصياغة النهائية؛ إذ إنه بعد الفلاسفة الطبيعيين السابقين على سقراط - رواد التفكير العلمي حقيقة - اتجهت الفلسفة بفعل سقراط ثم التأثير الناجع لأفلاطون وأرسطو إلى الأخلاق والسياسة والميتافيزيقا، وأقصيت العقول عن التفكير في الطبيعة وتقلص السؤال عنها . واحتياجات الإمبراطورية الرومانية فيما بعد جعلتها تفعل المثل وينصب اهتمامها على القانون. ثم بدأت الحقبة التالية من تاريخ الحضارة الغربية في العصور الوسطى المسيحية التي كرست العقول الموهوبة والطاقات الذهنية من أجل اللاهوت، وانحطت الطبيعة أكثر لتغدو مجرد خادمة من خدم اللاهوت، تلبي ما تستطيعه من مطالب علومه. المفكرون لا يرون فيها إلا شيئا خلقه الرب، الطبيعة صنيعة الخالق، والتساؤل عنها وعن العالم المادي بمعزل عن الرب بدا لرجال ذلك العصر هراء لا طائل من ورائه. هكذا تراجع السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها إلى أقصى الحدود، إن لم يتوار نهائيا، فلا يعود ثمة احتياج لمناهج تجريبية تنصب عليها. وبالتالي ينفرد القياس الأرسطي بميدان البحث ليبدأ من يقين وينتهي إلى يقين.
Page inconnue