Discussions en philosophie morale
مباحث في فلسفة الأخلاق
Genres
العرف في اللغة: التتابع، يقال: جاء القوم عرفا أي بعضهم خلف بعض، ومنه
والمرسلات عرفا ، ويستعمل في اصطلاح علم الأخلاق في مثل هذا المعنى، وهو متابعة الناس بعضهم لبعض في عادة أو عادات متابعة متكررة حتى تصير ثابتة راسخة.
وهذا المعنى وإن كان يوجد مثله عند بعض أنواع الحيوانات التي تعيش مجتمعة، لا يسمى عرفا عندنا، مثل النمل يخزن أقواته صيفا للتغذي منها شتاء ويفعل ذلك منذ خلق إلى أن ينقرض نوعه، والنحل ومتابعة جنيه للأزهار وإحالتها إلى عسل مصفى باستمرار، وهجرة بعض الطيور من إقليم إلى آخر في بعض فصول العام، وأكل دودة القز أوراق التوت وإفرازها حريرا ناعما تنسجه حول نفسها بشكل يودي بها.
كل هذه وأمثالها أعمال متكررة مستمرة من جيل إلى جيل، إلا أنها لا تسمى عرفا لصدورها من الحيوانات والطيور عن الغرائز وحدها دون إرادة أو اختيار؛ ولذلك نراها تترسم نهجا معينا لا تحيد عنه في تلك الأعمال، كما أنها وهي تقوم بها لا تشعر بالغايات النهائية لها. أما الأعمال المتعارفة لقبيلة أو أمة من الأمم فالمرء يعمل ما يعمل منها بإرادته واختياره؛ ولهذا قد يعدل منها في كثير من الأحايين، كما أنه يشعر شعورا تاما بالغايات التي تؤدي إليها. (7-2) أصل العرف
يرجع العرف، وهو كما قلنا: مجموعة العادات والتقاليد والسلوك لقبيلة من القبائل أو أمة من الأمم، إلى أصول مختلفة.
فبعض هذه العادات والتقاليد أعمال دعت إليها في الأصل غريزة من الغرائز، مثل أن يعمل شخص عملا مبعثه المحافظة على الذات فينقله عنه غيره وغيره حتى يصير متعارفا، وبعضها يرجع للحظ والمصادفة، كالتفاؤل من العمل في يوم معين والتشاؤم منه في يوم آخر، مرد ذلك إلى أن أسلافنا أصابوا حظا من القيام بعمل في يوم خاص، أو منوا بكارثة من القيام بمثله في يوم آخر، فاستنتجوا واهمين أن هذا العمل لو تكرر في مثل هذا اليوم نفسه كان له مثل نتيجته الأولى، ثم درج الأبناء على هذا الاعتقاد الفاسد جيلا بعد جيل حتى صار عرفا لهم.
وأخيرا، فبعض الأمور المتعارفة ترجع إلى تاريخ الأمة ودينها، فالأمم التي تسكن الثغور المهددة بالغارات تستحسن الشجاعة وعدم تهيب الأخطار، وبتوارث الخلف ذلك عن السلف صارت أعمال الشجاعة مألوفة متعارفة، ومن ذلك ما تعارف عليه المصريون القدماء من تحنيط موتاهم ودفن كثير من متاعهم معهم، مما كان أصله اعتقادهم بخلود الروح والبعث والرغبة في أن يبعث المتوفى سليم الجسم. ومن ابتناء العرف على الدين والتاريخ أيضا ما يقوم به المسلمون من التضحية في عيد الأضحى إحياء لذكرى فداء إسماعيل - عليه السلام - وما تعارفنا عليه في نهضتنا الحالية من تكريم الشهداء واتخاذ أيام خاصة وأعياد وطنية لذكرياتها المجيدة.
من أجل هذا كله يتبين أن العرف ليس مبناه دائما على العقل، بل قد يرجع في كثير من الأحوال إلى أمور لا دخل للعقل فيها، كالحظ والمصادفة والتفاؤل ونحوها.
ومهما يكن، فيجب أن نلاحظ الفرق بين العرف والعادة، هذه أسبق تاريخا، ويصير بعضها عرفا بالمحاكاة أو التقليد إذا كانت عادة لهذا أو ذاك ممن أوتوا الذوق الحسن والرأي الحكيم والنفوذ. وإذن، لا بد أن يستند العرف إلى أساس قوي من ضمير الجماعة واستحسانه له، وإلى أساس نفسي يتمثل في الاحتذاء والتقليد، حتى تتأكد العادة وتصير عرفا ثابتا يعتبر جزءا من تقاليد الأمة وعقائدها. (7-3) قوة العرف وسلطانه
للعرف على المرء سلطان كبير، فهو يتأثر بعادات قومه وتقاليدهم وإن كان لا يوافق على بعضها في قرارة نفسه، نرى المرء يسرف في أمور الزواج والمآتم استجابة لداعي العرف وهو ساخط، إلا أنه يخشى أن تصيبه المعرة إن خرج على ما تعارف عليه قومه، وما أكثر من يرى أن هذه العادة العرفية فيها مضرة لأمته وإساءة لسمعتها، فيحدث نفسه بالدعوة لنبذها، فيأخذ العرف على يديه حتى يقعد به عما أراد، ومن هذا إقامة الموالد المختلفة سنويا في نظر الكثيرين.
Page inconnue