Piliers de la philosophie politique
ركائز في فلسفة السياسة
Genres
وبكل هذا الركام من الأخطاء يشكل ماركس أيديولوجية صارمة لمجتمع مغلق، أيديولوجيا تحدد سلفا أسلوب حل كل المشاكل ومواجهة كل المواقف، فلا يقبل المجتمع أية ديمقراطية ولا تبادل آراء ولا حتى محاولة التوصل لحل أصيل مرن لمشكلة طارئة.
إن الماركسية نظرة كلية، تفترض أنها بضربة واحدة - هي الثورة الدموية - ستقلب التطور التاريخي إلى المرحلة اليوتوبية الشيوعية، التي يتصور ماركس أنها نهاية التاريخ وخاتمة العالم.
وعلى هذا نتفهم سر دعوى «نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما التي ترددت وعلا صيتها في العقد الأخير من القرن العشرين، فقد كان الاتحاد السوفيتي أقوى وأمضى تمثيل لتطبيق النظرية الماركسية، وتمثيلا عينيا للسير في طريقها؛ وشهد النصف الثاني من القرن العشرين استعار أوار الحرب الباردة بين اليمين وتمثله رأسمالية وليبرالية الولايات المتحدة الأمريكية والسائرون في فلكها، واليسار وقد انبرى له الاتحاد السوفيتي والسائرون في فلكه، الزاعمون أن المستقبل ملك لهم، أوليست الشيوعية آتية لا ريب فيها؟! وعلى حين غرة انهار الاتحاد السوفيتي، فخرج فرنسيس فوكوياما - المفكر الأمريكي اليميني المتشدد ذو الأصول اليابانية - ليعلن أن هذا هو النصر المؤزر لليمين الليبرالي والقضاء المبرم على غريمه اليسار الاشتراكي، مما يعني أن نهاية التاريخ لن تكون الشيوعية كما زعم ماركس بل هو تلك الليبرالية والرأسمالية التي تجدد نفسها، والإصلاحات المتوالية.
لسنا الآن بصدد مناقشة فوكوياما الذي تثير رؤيته حفيظة العقلاء؛ لأن التاريخ ببساطة لم ينته بعد، غير أن الإصلاح مثل النقد من الأفضل أن يكون على مراحل وقائما على أساس هندسة اجتماعية جزئية تتعامل مع المؤسسات الاجتماعية كل على حدة، بالأسلوب الذي يناسبها، وليس بأسلوب محدد سلفا. الاتجاهات الكلية التي تريد الإصلاح بضربة واحدة قاصمة فاصلة قد لا تصلح شيئا، وقد تؤدي إلى خراب أو فساد شامل، ثم إن النزعة الكلية الاجتماعية مستحيلة منطقيا، فكل تحكم جديد في العلاقات الاجتماعية من شأنه أن يخلق مجموعة جديدة من العلاقات الاجتماعية التي تحتاج هي الأخرى إلى التحكم فيها، وهكذا في سلسلة بغير نهاية؛ لذلك أعلن فلاديمير إيلتش لينين القائد السوفيتي المبرز أن الحزب الشيوعي السوفيتي بمجرد أن تولى السلطة لم يجد في النظرية الماركسية أية تكنولوجيا اجتماعية أو خطط للإصلاح الاجتماعي، فكل بحوث ماركس كانت مكرسة لخدمة نبوءاته التاريخية التي فشلت. •••
ولكن مهما اختلفنا مع ماركس، ومهما كان وضوح الأخطاء في النظرية الماركسية ومواطن الزلل فيها، فإن أحدا لا يستطيع إنكار أن ماركس كان واحدا من أعظم أقطاب الفلسفة، وأن هناك الكثير مما يسجل له.
حاول مخلصا أن يطبق المنهج العلمي العقلاني على أكثر مشاكل الحياة العملية إلحاحا، كانت رغبته متأججة لمساعدة المطحونين المقهورين، وبإخلاص نادر بذل حياته قولا وفعلا من أجل تحسين أحوالهم، ضرب عرض الحائط بفرص حياة عريضة كانت مفتوحة أمامه غير نادم ولا آسف، ولم يلق من دعوته إلا العنت والفاقة التي تسببت في موت نفر من بنيه.
وحين هاجر إلى لندن هربا من الاضطهاد الذي لاقاه في وطنه ألمانيا وفي أوروبا عموما، كان يستجدي من رفيقه وتابعه الوفي فردريك إنجلز رجل الأعمال الثري، وأحد أقطاب صناعة النسيج في معقلها آنذاك، في بريطانيا. أما ماركس فقد كان شغله الأول مكتبة المتحف البريطاني، يقضي فيها جل ساعات يومه بلا ملل ولا كلل، قرأ بنهم محموم كل ما وقع في يديه من بحوث ومراجع وهوامش، ربما كما لم يقرأ أحد مثله، وليس هذا غريبا من شخصية جبارة مثله. كان قد درس التاريخ والفلسفة في جامعة برلين، وحصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة برسالة موضوعها أكاديمي خالص هو: «المذهب المادي بين ديمقريطس وأبيقور». وبتأثير من المحامي المثقف أوستفالن - والد زوجته المحبوبة - اطلع بحماس على الآداب الكلاسيكية القديمة والفكر الإنساني، ولما انتقد عام 1840 لأنه يحاول تنظيم الاقتصاد وتخطيطه في حين أنه لم يدرس الاقتصاد بما يكفي، انكب بعزيمة حديدية على دراسته ثماني سنوات، فلما جاء العام 1848 كان ماركس أعلم علماء عصره بالاقتصاد.
وهو في كل هذا لم يكن يرى في المعرفة إلا وسيلة لدفع تقدم الإنسان وتحسين أحواله، أحوال الكادحين؛ وإن كان مسار التاريخ قد أثبت أن ماركس أخطأ أكثر مما أصاب.
هذا عن ماركس، أما عن ماركس الفيلسوف فإن الحديث يطول، ويكفي أنه قلب النظرة الوضعية الإستاتيكية للمجتمع والتاريخ، وعلمنا أصول النظرة الحركية الديناميكية التي تنظر إلى مسار التاريخ الإنساني من حيث التغيرات الحدية فيه.
ولا شك أن ثمة مثلا عليا لا ينكرها إلا مكابر منغلق على ذاته غير مبال بالصالح العام، كالعدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروات في المجتمع وتحقيق التقارب الطبقي والحياة الكريمة للجميع مهما كانت أعمالهم ومهما تواضعت قدراتهم، وتقديس قيمة العمل كحق للجميع وواجب عليهم وشرف لهم، ونبذ استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ... إلخ، وهي مثل قد تتحقق في المجتمع الاشتراكي أكثر مما تتحقق في المجتمع الرأسمالي الليبرالي، ولا شك أيضا أن ماركس فعل لهذه القيم ما لم يفعله سواه، وأنه جعل الاشتراكية من أهم نقاط التحول في مسار التاريخ البشري الحضاري والفكري، ومن أهم تيارات الفلسفة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
Page inconnue