La Philosophie du Coran
الفلسفة القرآنية
Genres
مقدمة
القرآن والعلم
الأسباب والخلق
الأخلاق
الحكم
الطبقات
المرأة
الزواج
الميراث
الأسر أو «الرق»
Page inconnue
العلاقات الدولية
العقوبات
الإله
مسألة الروح
القدر
الفرائض والعبادات
التصوف
الحياة الأخرى
خاتمة
مقدمة
Page inconnue
القرآن والعلم
الأسباب والخلق
الأخلاق
الحكم
الطبقات
المرأة
الزواج
الميراث
الأسر أو «الرق»
العلاقات الدولية
Page inconnue
العقوبات
الإله
مسألة الروح
القدر
الفرائض والعبادات
التصوف
الحياة الأخرى
خاتمة
الفلسفة القرآنية
الفلسفة القرآنية
Page inconnue
تأليف
عباس محمود العقاد
مقدمة
الدين لازمة من لوازم الجماعات البشرية.
ولم يكن الدين لازمة من لوازم الجماعات البشرية لأنه مصلحة وطنية، أو حاجة نوعية.
لأن الدين قد وجد قبل وجود الأوطان.
ولأن الحاجة النوعية «بيولوجية» تتحقق أغراضها في كل زمن، وتتوافر أسبابها في كل حالة، ولا يزال الإنسان بعد تحقق أغراضها، وتوافر وسائلها في حاجة إلى الدين.
وغرائز الإنسان النوعية واحدة في كل فرد من أفراد النوع، وكل سلالة من سلالاته، ولكنه في الدين يختلف أكبر اختلاف؛ لأنه يتجه من الدين إلى غاية لا تنحصر في النوع ولا تتوقف على غرائزه دون غيرها، وليس الغرض منها حفظ النوع وكفى، بل تقرير مكانه في هذا الكون، أو في هذه الحياة.
فالإنسان يتعلق من النوع بالحياة.
ولكنه يتعلق من الدين بمعنى الحياة.
Page inconnue
ولن يوجد إنسان ليس له نوع، أو غريزة نوع، أو آداب نوع؛ لأن وشيجة النوع ليست مما ينفصل عنه باختياره، ولكن قد يوجد إنسان يفوته معنى الحياة، وقد يوجد إنسان يفهم معنى الحياة على أنه إعراض عن الحياة الفردية، وعن الحياة النوعية، وتوجه إلى ضرب آخر من الحياة.
وقد يتحول الإنسان من عقيدة إلى عقيدة، فلا يقال إذن: إنه تحول من غريزة نوعية إلى غريزة نوعية؛ لأن هذه الغريزة لا تقبل التحول ولا التحويل، بل يقال إذن: إنه آمن بعلاقة جديدة بين الخلائق جميعا، وبين الحياة أو مصدر الحياة.
والإنسان إذا طلب من الدين الحياة الأبدية فهو لا يطلب ذلك لأنه فرد من أفراد نوع؛ فإن النوع قد يبقى ألوف السنين، وقد يقدر الإنسان أنه مكفول البقاء بغير انتهاء، ثم لا يغنيه كل ذلك عن طلب الأبدية؛ لأنه يريد لحياته معنى لا يزول، ويريد أن يتصل بحياة الكون كله في أوسع مداه. •••
وليست العقيدة لازمة من لوازم الجماعات البشرية؛ لأنهم يريدون منها دروسا علمية أو حيلا صناعية.
فإن قوة الصناعة والعلم كامنة في الإنسان، لا تلجئه إلى قوة خارج الإنسان.
وإن ألف إنسان قد يعلمون علما واحدا، ولا يعتقدون عقيدة واحدة، بل ينكر أحدهم عقيدة الآخر أشد الإنكار.
كما أن العلاقة بين العالم والمعلوم قد تكون علاقة غريب بغريب، وقد يعلم الإنسان أسرارا من الكون، وهو يشعر بأنه غريب عنه أو عارض فيه، فإذا اعتقد فإنما يعتقد لأنه يريد أن يشعر بأنه ليس في الكون بالغريب، ويؤمن بأنه موصول الحياة بحياته، وليس بالعارض فيه.
وليس مقياس العقيدة الصالحة مقياس الدروس العلمية والحيل الصناعية، وإنما حسب العقيدة الصالحة من صلاح أنها تنهض بالعقل والقريحة، ولا تصدهما عن سبيل العلم والصناعة، ولا تحول بين معتقديها وبين التقدم في الحضارة، وأطوار الاجتماع. •••
وينبغى أن يلاحظ في هذا الصلاح أن الجماعات البشرية لا تعيش عمر إنسان واحد، ولا تنحصر في طبقة واحدة.
فالعقيدة التي تصلح لعشرة أجيال يشترك فيها عشرة أجيال يختلفون في كثير من الأحوال والعادات.
Page inconnue
والعقيدة التي يدين بها الملايين يشترك فيها الخاصة والعامة والأعلياء والأدنياء، ولا تصاغ منها نسخة مستقلة لكل طبقة أو لكل فريق.
فالذي يطلب من العقيدة الصالحة أن تصلح لكل هؤلاء مجتمعين، وأن تصلح لأعمار بعد أعمار؛ لأنها ليس مما يخلع تارة بعد تارة، ولا مما يستبدل ببرامج السنوات ونصوص الدساتير.
وموضوع هذا الكتاب هو صلاح العقيدة الإسلامية - أو الفلسفة القرآنية - لحياة الجماعات البشرية، وأن الجماعات التي تدين بها تستمد منها حاجتها من الدين الذي لا غنى عنه، ثم لا تفوتها منها حاجتها إلى العلم والحضارة، ولا استعدادها لمجاراة الزمن حيثما اتجه بها مجراه. •••
كنا نتحدث مع بعض الفضلاء من أعضاء لجنة «البيان العربي» في موضوع الدين والفلسفة، فقلنا: إن العقيدة الدينية هي فلسفة الحياة بالنسبة إلى الأم التي تدين بها، وأنها لا تعارض الفلسفة في جوهرها، وأن الفلسفة تصلح للاعتقاد كما تصلح العقيدة للفلسفة! واستشهدنا على ذلك بآيات كثيرة من القرآن يستخرج منها المسلم فلسفة قرآنية لا تحول بينه وبين البحث في غرض من أغراض الفكر والضمير.
وأيا كانت العلاقة بين موضوع الفلسفة، وموضوع الدين، فليس في وسع فيلسوف صادق النظر أن ينسى أن الأديان قد وجدت بين جميع البشر، وأنها - من ثم - حقيقة كونية لا يستخف بها عقل يفقه معنى ما يراه من ظواهر هذه الحياة.
فاقترح علي بعضهم أن يكون هذا البحث موضوع كتاب، فألفت هذا الكتاب في هذا الموضوع، وسميته باسم الفلسفة القرآنية؛ لأنه أقرب الأسماء إلى بيان غرضه، وكان اسم «فلسفة القرآن» من الأسماء التي اقترحت في سياق ذلك الحديث، فخطر لي أن هذا الاسم قد يوحي إلى الذهن أننا نتخذ القرآن موضوعا لدراسة فلسفية كدراسة فلسفة النحو، أو البيان، أو التاريخ، وليس هذا هو المقصود مما كنا نتحدث عنه، وإنما المقصود منه أن القرآن الكريم يشتمل على مباحث فلسفية في جملة المسائل التي عالجها الفلاسفة من قديم الزمن، وأن هذه الفلسفة القرآنية تغني الجماعة الإسلامية في باب الاعتقاد ولا تصدها عن سبيل المعرفة والتقدم، وهي لذلك تحقق ضرورة الاعتقاد، وتمنع الضرر الذي يبتلى به من تصدهم عقائدهم عن حرية الفكر، وحرية الضمير.
وليس للعلماء ولا للفلاسفة أن يطلبوا من الدين غير هذا.
فمهما يكن من رأيهم في الإيمان بالله؛ فهم لا يجهلون - ولا يستطيعون أن يجهلوا - أن الإيمان - كما قدمنا - ضرورة كونية، لا تخلقها مشيئة أحد من الآحاد، ولو كان في قدرة الرسل والأنبياء.
فإذا أجمع الناس على الاعتقاد كيفما كان اختلافهم في الجنس، والزمن، والموطن، والمصلحة - فليس هذا عمل فرد، ولا هو مما يقع بين الحين والحين عرضا واتفاقا من فعل الحيلة والتدبير، ولكنه باعث من صميم قوى الكون، لا يفلح الرسل والأنبياء في نشر دعوته ما لم يكن في تلك الدعوة مطابقة لحكمة الخلق، وسر التكوين.
وكل اعتراض يعترض به المنكرون على حقائق الأديان لا يقام له وزن في مواجهة هذه الظاهرة الواقعة التي لا شك فيها.
Page inconnue
بل هو لا ينفي الوحي الإلهي كما تخيلوه، أو كما يمكن أن يتخيلوه، ولا يبطل ضرورة الاعتقاد بين الجماعات البشرية بحال من الأحوال.
إنهم يتخذون من عقائد بعض العامة، أو عقائد بعض الخاصة دليلا على أنها أمور لا تصدر من عند الله، الذي يصفه أصحاب الأديان بالعلم، والحكمة، والقدرة على هداية العقول إلى الصواب في الكبير والصغير.
فإذا كان هذا هو المبطل للوحي الإلهي؛ فكيف يثبت الوحي الإلهي في قياس أولئك الفلاسفة أو العلماء؟
أيثبت بعقيدة يدين بها العامة كما يدين بها الخاصة، وتطابق الدروس العلمية اليوم كما تطابقها عندما تنقض نفسها بكشف جديد؟!
أيثبت بعقيدة تدخل المعمل الصناعي - أو العلمي - كل سنة أو كل بضع سنوات للفحص والامتحان؟!
أيثبت بعقيدة ليست بعقيدة ولكنها مجموعة من الأزياء الموسمية التي يغيرها الإنسان تارة بعد تارة، ولا يمزجها ببواطن الضمير؟!
كلا؛ فإن الوحي الإلهي - متى ثبت - لا يثبت على النحو الذي تخيلوه، بل على النحو الذي عهدنا عليه الأديان، مع اختلاف العقول واختلاف الأجيال واختلاف المعلومات.
عقيدة هي عقيدة، وإيمان هو إيمان، وبعد ذلك موافقة لدواعي الحياة ومطالب الفكر، وخلجات الشعور، وهكذا تصح العقيدة، إن صحت على الإطلاق، وهكذا يكون الإيمان، إن كان إيمان.
وقد رأيت أناسا يبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه، ولا يستغنون عما فيه من عنصر الإيمان والاعتقاد، التي لا سند لها غير مجرد التصديق والشعور، ثم يجردونه من قوته التي يبثها في أعماق النفس؛ لأنهم اصطنعوه اصطناعا، ولم يرجعوا به إلى مصدره الأصيل.
فالمؤمنون بهذه الفلسفة المادية يطلبون من شيعتهم أن يكفروا بكل شيء غير المادة، وأن يعتقدوا أن الأكوان تنشأ من هذه المادة، في دورات متسلسلة، تنحل كل دورة منها في نهايتها؛ لتعود إلى التركيب في دورة جديدة، وهكذا دواليك، ثم دواليك إلى غير انتهاء.
Page inconnue
ويطلبون منهم أن ينتظروا النعيم المقيم، على هذه الأرض، متى صحت نبوءتهم عن زوال الطبقات الاجتماعية؛ فإن زالت الطبقات الاجتماعية في هذه السنة أو بعدها ببضع سنوات فتلك بداية الفردوس الأبدي، الذي يدوم ما دامت الأرض والسماوات، وتنتهي إليه أطوار التاريخ كما تنتهي بيوم القيامة في عقيدة المؤمنين بالأديان.
ولا يكلف دين من الأديان أتباعه تصديقا أغرب من هذا التصديق، ولا تسليما أتم من هذا التسليم.
ولا يخلو دين الفلسفة المادية من شيطانه؛ وهو «الرأسمالية» الخبيثة العسراء.
فكل ما في الدنيا من عمل سوء، أو فكرة سوء، فهو كيد من هذا الشيطان الماكر المريد.
وكل ما فيها من عمل سوء أو فكرة سوء يزول ويحول، وتحل في مكانه بركات الفلسفة المادية ورضوانها، متى صار الأمر إلى ملائكة الرحمة، وذهب ذلك الشيطان إلى قرارة الجحيم.
ولما طبقت هذه العقيدة في البلاد الروسية - على أيدي أصحاب الفلسفة المادية - خيل إليهم أنهم ظفروا بحقيقة الحقائق واستغنوا بها عن كل ما اعتقده الإنسان في جميع الأزمان، ولا سيما عقائد الأديان والأوطان.
وادخروها للزمن كله، بل للأبد كله ... ولكنهم لم يصطدموا صدمتهم الأولى في الحرب العالمية الأخيرة حتى أفلست «عقيدة الأبد» كل الإفلاس، ولجئوا إلى الوطن يستعيدون مثله، وإلى الديانة يستجدونها ويتمسحون بها، فنادوا «بالجهاد القومي» ورحبوا بالصلوات في المعابد، وشجعوا المصلين على ارتيادها، واجتمع رؤساء القساوسة في حضرة زعماء المذهب الشيوعي؛ ليعلنوا العودة بمجلس الكنيسة إلى نظامه القديم.
وفحوى هذه العبرة البالغة أن أسرار العقيدة أعمق وأصدق مما يدور بأوهام منكريها، وأنها ذخيرة من القوة وحوافز الحياة تمد الجماعات البشرية بزاد صالح لا تستمدها من غيرها، وأن هذه الذخيرة «الضرورية» خلقت لتعمل عملها، ولم تخلق ليعبث بها العابثون، كلما طاف بأحدهم طائف من الوهم، أو طارت برأسه نزعة عارضة، لا تثبت على امتحان. •••
وفي هذا العصر الذي تتصارع فيه معاني الحياة بين الإيمان والتعطيل، وبين الروح والمادة، وبين الأمل والقنوط، تلوذ الجماعات الإسلامية بعقيدتها المثلى ولا تخطئ الملاذ؛ لأنها عقيدة تعطيها كل ما يعطيه الدين من خير، ولا تحرمها شيئا من خيرات العلم والحضارة.
وهذا الذي نرجو أن نبينه في هذا الكتاب.
Page inconnue
القاهرة في أكتوبر سنة 1947/ذي القعدة سنة 1366.
عباس محمود العقاد
القرآن والعلم
تتجدد العلوم الإنسانية مع الزمن على سنة التقدم، فلا تزال بين ناقص يتم، وغامض يتضح، وموزع يتجمع، وخطأ يقترب من الصواب، وتخمين يترقى إلى اليقين، ولا يندر في القواعد العلمية أن تتقوض بعد رسوخ، أو تتزعزع بعد ثبوت، ويستأنف الباحثون تجاربهم فيها بعد أن حسبوها من الحقائق المفروغ منها عدة قرون.
فلا يطلب من كتب العقيدة أن تطابق مسائل العلم كلما ظهرت مسألة منها لجيل من أجيال البشر، ولا يطلب من معتقديها أن يستخرجوا من كتبهم تفصيلات تلك العلوم، كما تعرض عليهم في معامل التجربة والدراسة؛ لأن هذه التفصيلات تتوقف على محاولات الإنسان وجهوده، كما تتوقف على حاجاته، وأحوال زمانه.
وقد أخطأ أناس في العصور الأخيرة؛ لأنهم أنكروا القول بدوران الأرض واستدارتها؛ اعتمادا على ما فهموه من ألفاظ بعض الآيات.
وجاء أناس بعدهم فأخطئوا مثل خطئهم حين فسروا السماوات السبع بالسيارات السبع في المنظومة الشمسية، ثم ظهر أنها عشر لا سبع، وأن «الأرضين السبع» - إذا صح تفسيرهم - لا تزال في حاجة إلى التفسير.
ولا يقل عن هؤلاء في الخطأ أولئك الذين زعموا أن مذهب التطور والارتقاء ثابت في بعض آيات القرآن؛ كقوله تعالى:
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ،
1
Page inconnue
أو قوله تعالى:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
2
لأن الآيتين تؤيدان تنازع البقاء، وبقاء الأصلح، ولكن مذهب التطور والارتقاء لا يزال بعد ذلك عرضة لكثير من الشكوك والتصحيحات، بل عرضة لسنة التطور والارتقاء التي تنتقل به من تفسير إلى تفسير.
ومن الخطأ كذلك أن يقال: إن الأوروبيين أخذوا من القرآن كل ما اخترعوه من السلاح الحديث؛ لأن القرآن الكريم جاء فيه؛ حثا للمسلمين:
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل
3
فقد يقال لهم: إن المسلمين سمعوا هذه الآيات مئات السنين فلم يخترعوا تلك الأسلحة، وإن الأوربيين لم يسمعوها فاخترعوها.
فهل الإسلام إذن لازم أو غير لازم؟ وهل يضير الأوروبيين أن يجهلوه أو ليس بضارهم أن يخترعوا ما اخترعوه ولم يتبعوه؟
وخليق بأمثال هؤلاء المتعسفين أن يحسبوا من الصديق الجاهل؛ لأنهم يسيئون من حيث يقدرون الإحسان، ويحملون على عقيدة إسلامية وزر أنفسهم، وهم لا يشعرون.
Page inconnue
كلا، لا حاجة بالقرآن إلى مثل هذا الادعاء؛ لأنه كتاب عقيدة يخاطب الضمير، وخير ما يطلب من كتاب العقيدة في مجال العلم أن يحث على التفكير، ولا يتضمن حكما من الأحكام يشل حركة العقل في تفكيره، أو يحول بينه وبين الاستزادة من العلوم، ما استطاع حيثما استطاع.
وكل هذا مكفول للمسلم في كتابه، كما لم يكفل قط في كتاب من كتب الأديان.
فهو يجعل التفكير السليم، والنظر الصحيح إلى آيات ما في خلقه وسيلة من وسائل الإيمان بالله:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .
4
وهو يحث المسلم على أن يفكر في عالم النفس كما يفكر في عالم الطبيعة.
أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى .
5
وهو يعظ المخالفين والمصدقين عظة واحدة؛ وهي التفكير الذي يغني عن جميع العظات:
قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا .
Page inconnue
6
كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .
7
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
8
ونفصل الآيات لقوم يعلمون .
9
قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون .
10
ولا يرتفع المسلم بفضيلة كما يرتفع بفضيلة العلم:
Page inconnue
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .
11
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
12
ولا يسأل المسلم ربه نعمة هي أقوم وألزم من العلم:
وقل رب زدني علما .
13
إنما يخشى الله من عباده العلماء .
14
فالقرآن الكريم يطابق العلم، أو يوافق العلوم الطبيعية بهذا المعنى الذي تستقيم به العقيدة، ولا تتعرض للنقائض والأظانين ، كلما تبدلت القواعد العلمية، أو تتابعت الكشوف بجديد ينقض القديم، أو يقين يبطل التخمين.
Page inconnue
وفضيلة الإسلام الكبرى أنه يفتح للمسلمين أبواب المعرفة، ويحثهم على ولوجها والتقدم فيها، وقبول كل مستحدث من العلوم على تقدم الزمن، وتجدد أدوات الكشف ووسائل التعليم، وليست فضيلته الكبرى أنه يقعدهم عن الطلب، وينهاهم عن التوسع في البحث والنظر؛ لأنهم يعتقدون أنهم حاصلون على جميع العلوم.
الأسباب والخلق
من المتفق عليه اقتران الحوادث بالأسباب، يقول بذلك العلماء والفلاسفة كما يقول به عامة الناس في أقوالهم التي تجري مجرى العادة.
فالأسباب موجودة لا خلاف فيها من أحد، ولكن الخلاف الأكبر في السبب: ما هو؟ وماذا يعمل؟ وهل الأسباب العاملة عنصر مستقل في الكون، والحوادث المعمولة عنصر آخر يخالفه في الكنه والقوة؟ وهل السببية قوة تنتقل بين الأشياء والحوادث، أو هي قوة خاصة ببعض الأشياء والحوادث؟
لكل شيء سبب، ما في ذلك خلاف.
ولكن ما هو السبب؟
هل هو موجد الشيء الذي خلقه ولولاه لم يخلق؟
أو هو حادث سابق للشيء، أو مقترن به يلازمه كلما حدث على نسق واحد؟
أما أن السبب هو موجد الشيء فيمنعه في العقل اعتراضات قوية كأقوى ما يكون الاعتراض في المسائل الفكرية.
فكل ما يقرره العقل وهو واثق منه أن سبب الشيء يسبقه، أو يقترن به كلما حدث على نسق واحد.
Page inconnue
ولكن السبق لا يستلزم الإيجاد، ويضربون لذلك مثل النور والصوت في قذيفة المدفع؛ فإن العين ترى النور قبل أن تسمع الأذن صوت القذيفة، ولا يقول أحد: إن النور هو سبب الصوت! أو إنه هو سبب القذيفة! وإن تكررت رؤيته وسماع الصوت بعده مئات المرات أو ألوف المرات، وكذلك صياح الديكة قبل طلوع النهار، ووصول قطار الصبح قبل قطار الضحى، ودخول المرءوسين في الصباح قبل دخول الرئيس إلى الديوان، وغير ذلك من المتلاحقات التي تقترن على ترتيب واحد، ولا يستلزم تلاحقها أن يكون السابق منها موجدا لما لحقه؛ بأي معنى من معاني الإيجاد.
كذلك يعترض العقل على السببية على المعنى المتقدم بأن التلازم بين الأسباب والنتائج في وقائع الطبيعة ليس تلازما عقليا كتلازم المقدمة والنتيجة في القضايا العقلية، وإنما هو تلازم المشاهدة والإحصاء، وغاية ما نملكه فيه أن نسجل هذه المشاهدة أو هذا الإحصاء.
فحدوث الصوت من القذيفة يقع على التواتر كما نسمعه، ولكن لا يلزم عقلا من تسلسل الحوادث التي تقع مع القذيفة أن نسمع ذلك الصوت، وإنما تستلزم حدوثه؛ لأنه قد حدث قبل ذلك مرات، ولا زيادة على ذلك في دواعي الاستلزام.
فكل ما هنالك - مما يسمى بالأسباب الطبيعية - إنما هو مقارنات في الحدوث، ولا تفسير فيها أمام العقل لتعليل الإيجاد.
قال الإمام الغزالي يرد على الفلاسفة:
إن الخصم يدعي أن فاعل الاحتراق هو النار فقط، وهو فاعل بالطبع لا بالاختيار، فلا يمكنه الكف عما هو طبعه، ولكن هذا غير صحيح؛ إذ إن فاعل الاحتراق هو الله تعالى بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، وأما النار فهي جماد لا فعل لها، وليس للفلاسفة من دليل على قولهم إلا مشاهدة حصول الاحتراق عند ملاقاة النار، والمشاهدة تدل على الحصول عنده، ولا تدل على الحصول به.
ويقرب من رأى الغزالي هذا قول نيوتن صاحب مذهب الجاذبية في ملحق التعريفات.
فإنه يضرب المثل بجسم يتحرك من ألف إلى باء، ومن باء إلى جيم، ومن جيم إلى دال، فلا يمكن أن يقال في هذه الحالة: إن حركة الجسم من ألف إلى باء هي سبب حركته التالية من باء إلى جيم أو من جيم إلى دال! ويشبه هذا المثل مثل أصحاب ديكارت عن ساعة تدق، وساعة أخرى تدق بعدها على الدوام، فلا يمكن أن يقال: إن دقات الساعة الأولى هي سبب منشئ لدقات الساعة الثانية! وهكذا كل تلاحق في الحوادث والمشاهدات.
وقد ظهر الفيلسوف الإنجليزي دافيد هيوم بعد هؤلاء فبسط القول في مسألة السببية بسطا وافيا يفسر هذه الآراء المجملة، ولا يخرج عن فحوى ما قدمناه.
وإذا نظرنا إلى أصول الأسباب الكبرى تعذر على العقل أن ينسب الظواهر الطبيعية إلى هذه الأسباب التي تلازمها ثم يقف عندها، فمن العسير على العقل أن يسلم أن الظواهر المادية هي أسباب الحوادث بطبيعة مستمدة منها ملازمة لها، مستقرة فيها؛ لأن التسليم بهذا تسليم بوجود مئات أو ألوف من المادات كلها خالد، وكلها موجود بذاته، وكلها مع ذلك مؤثر في غيره، وهو مستحيل.
Page inconnue
فهل هناك ألوف من المادات، أو هناك مادة واحدة؟ إن كان هناك ألوف من المادات كلها خالد بصفاته وطبائعه، فمن العجيب في العقل أن يكون الخالد مؤثرا في خالد مثله، وأن يوجد الشيء منذ الأزل بطبيعته وخصائصه؛ ليؤثر في شيء آخر موجود مثله منذ الأزل بغير تلك الخصائص وغير تلك الصفات.
أما إن كانت هذه الخصائص تحولات ترجع إلى مادة واحدة في القدم فقد بطل أنها هي أسباب الحوادث بطبعها، وتعين أن تكون عارضة مؤثرة بما أودع فيها على حسب تلك التحولات، والتي ترجع في النهاية إلى مصدر واحد لا تعدوه.
فالعقل ينتهي في مسألة الأسباب إلى نتيجة واحدة تصح عنده بعد كل نتيجة؛ وهي أن الأسباب ليست هي موجدات الحوادث، ولا هي مقدمة عليها بقوة تخصها دون سائر الموجودات، ولكنها مقارنات تصاحبها ولا تغني عن تقدير المصدر الأول لجميع الأسباب وجميع الكائنات.
وهذا هو حكم القرآن الكريم.
هناك سنة في الطبيعة:
سنة الله في الذين خلوا .
1
ولن تجد لسنة الله تبديلا ،
2
ولا تجد لسنتنا تحويلا .
Page inconnue
3
ولكن الخلق كله مرجعه إلى إرادة الله، أو إلى كلمة الله.
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ،
4
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ،
5
سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون .
6
وكل شيء في السماء والأرض بإذن الله.
وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون .
Page inconnue
7
والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه .
8
لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين .
9
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله .
10
والذي ينساق عندنا في مساق العقل أن الحوادث، كبيرها وصغيرها، لا يمكن أن تحدث إلا بأمر الخلق المباشر من إرادة الله.
فلا ينساق عندنا في مساق العقل أن الحادثة تحدث بفعل الأسباب أو النواميس، ثم بفعل الإرادة الإلهية؛ لأن الناموس لا يملك وحده قدرة الانطلاق والتوافق التي يسبب بها ألف حادث على نسق واحد، ولا بد له من القدرة التي يتابع بها هذا التسبب مرة مرة، وحادثا حادثا، بلا فرق هنا بين الجملة والتفصيل.
فلا فرق هنا بين الحادث الذي يقع مرة واحدة، والحادث الذي يقع ملايين ملايين المرات؛ فكلها تتوقف في بادئ الأمر على إرادة الخلق والإنشاء:
Page inconnue
كن فيكون .
11
وإنما
كن فيكون
تقريب إلى الذهن في المجاز، والأمر أهون من ذلك جدا في إرادة الخلاق.
وإنما يهال الذهن المغلق بهذا التقدير؛ لأنه يظن أن مسألة الخلق مسألة حمل وانتقال، وتحريك أثقال، وحيرة بين الأرقام والمقادير الموزعة في آفاق الفضاء السحيق، وهي - على هذا الظن - شيء تختلف فيه القدرة على القليل، والقدرة على الكثير.
ولكننا نحن - معشر البشر - قد رأينا بأنفسنا أن الموجودات المادية تنتهي في حسابنا إلى معان ومعادلات رياضية، فالإيجاد إذن بالنسبة لصاحب الوجود المطلق هو مسألة معقولات تقع لأنها قائمة في العقل المحيط بجميع الكائنات، ولا فرق بين ما يقع منها كثيرا متواترا، أو يقع قليلا نادرا، ولا بين البعيد منها والقريب؛ لأنه لا بعيد في العقل المطلق ولا قريب، ولا حاجة إلى انتقال ولا حمل أثقال! •••
وتأتي هنا مسألة المعجزات: فما هي المعجزات؟ وما هو موقعها من التفكير السليم؟
موقعها على ما قدمناه أنها شيء لا يخالف العقل، ولكنه يخالف المألوف والمتواتر في المحسوس.
فإذا كان كل عمل من الأعمال خلقا مباشرا في إرادة الله فلا فرق في حكم العقل بين وقوع المعجزة، ووقوع المشاهدات المتكررة في كل لحظة، ولا يكون الاعتراض على المعجزة أنها شيء يرفضه العقل، ولا يجوز في التفكير، وإنما يكون الاعتراض الصحيح: هل هي وقعت فعلا أو لم تقع؟ وهل هي لازمة أو غير لازمة للإقناع؟
Page inconnue