La Philosophie Anglaise en Cent Ans (Première Partie)
الفلسفة الإنجليزية في مائة عام (الجزء الأول)
Genres
Reality » بما هي كذلك ليست «روحية»، وإنما هناك في مقابل عنصر «الروح أو الذهنية
Mentality »، عنصر غير روحي يسميه بالمبدأ الآلي. وهكذا فالذهن ليس سيد الأشياء جميعا، كما أنه ليس من جهة أخرى ناتجا عرضيا لقوى آلية، وليس مطلقا ولا ثانويا، وإنما هو قوة دافعة عضوية تضفي النظام على العناصر المختلطة المتنافرة، وتبعث في العملية الكونية وحدة وانسجاما. والمعيار الرئيسي لكل نشاط روحي أو ذهني إنما يكون في الغرضية العاقلة، فالمبدأ الغائي يأخذ مكانه إلى جانب المبدأ الآلي، بحيث يشمل كل منهما الآخر ويفترضه مقدما، ويكشف كل منهما عن الحقيقة في وجه خاص من أوجهها. وهكذا فإن الفكرة الرئيسية في ميتافيزيقا هبهوس إنما تكون في هذا التفسير للحقيقة على أنها ليست آلية فحسب ولا غائية فقط، وإنما هي الاثنان معا، أي على أنها عملية نمو تقوم فيها بين المبدأين علاقة تبادلية وثيقة، ويكونان متداخلين
interwoven ، إن جاز هذا التعبير.
36
على أن التجربة تدلنا على أنه يوجد - إلى جانب المبدأين الآلي والغائي - مبدأ ثالث يساهم في تفسير الظواهر، هو المبدأ العضوي، والمقصود بالكائن العضوي وحدة تتحكم أجزاؤها أو أعضاؤها بعضها في البعض، ويكون الكل والأجزاء فيها متضايفين بدقة. وقد تبين لنا من قبل أن نسق المعرفة إنما هو تركيب عضوي كهذا، كما تكشف لنا الميتافيزيقا الآن أن نسق الواقع هو أيضا كذلك، فتكون النتيجة انسجاما أو تطابقا تاما بين النسقين. فالواقع إذا ما تأملته في مجموعه كان نسقا عضويا لا يقضى فيه على استقلال العناصر ووظيفتها المحدودة داخل الكل، على الرغم من الاعتماد المتبادل لأجزائه بعضها على البعض، والعلاقة المتبادلة بين الأجزاء وبين الكل، وإنما يحفظ هذا الاستقلال بفضل الوحدة التي تتجاوز هذه العناصر وتشتمل عليها، فلا يمكن أن يكون في الواقع جزء منفصل تماما عن بقية الأجزاء؛ وهذا يعني بتعبير آخر أنه لا يمكن أن يوجد عنصر غير معقول تماما. ومن الواضح أن مذهب هبهوس يتبدى - من وجهة النظر هذه - مثلما يتبدى في نواح أخرى عديدة، على أنه مذهب متمسك بالمعقولية، بل هو واحد من أورع مظاهر هذا الأسلوب في التفكير في الفترة الأخيرة؛ فهو في كل خطوة يوطد مكانة المبدأ العاقل في التفكير وفي الوجود، في مقابل الميول اللامعقولة المتعددة في عصره، ويدافع عن نفسه ضد الأمراض الفلسفية التي شاعت عندئذ، والتي تطعن في العقل وتضع محله بديلا لا عقليا كالغريزة أو الحدس.
ولنلاحظ أن المقولتين الآلية والغائية، وهما المقولتان الأوليان من بين المقولات الأساسية الثلاث التي تفسر بواسطتها الحقيقة، هما قوتان ميتافيزيقتان تتقابلان وتتعارضان بشدة، فالآلية، التي هي المسيطرة في الأصل، هي القوة التي لا تعرف تنوعا ، والتي تكون مختلطة ومضطربة، تتداخل فيها الطاقات ويقضي بعضها على البعض؛ لأن عدم وجود صلة بينها يجعل من المستحيل أن يقدم بعضها إلى البعض الآخر معونة متبادلة. غير أن هناك منذ البداية عنصرا ذهنيا تنطوي عليه كل ذرة من المادة، يزداد تأثيره كلما ازداد النظام والارتباط والانسجام في القوى الآلية، وعندما يبلغ النمو مرحلة أعلى، يزداد توحد هذه القوى في ترتيبات وتجمعات تبعا لقوانين وغايات عقلية، ويتم التطور بتقهقر العوامل الآلية دواما إلى الوراء، كلما امتد باستمرار زحف العناصر الغرضية المؤدية إلى إقرار النظام، وهدفه هو ذلك النسق المنسجم الذي تكون المهمة الغائية للذهن إيجاده بمضي الزمن. وهكذا فالذهن (أو الروح) المنتشر في الكون يعمل دواما على بعث الانسجام في العناصر المتعارضة، مهما كان بطء وتدرج المراحل التي يعمل بها.
أما المقولة الأساسية الثالثة، أي العضوية، فقد عرفها هبهوس على نحو أقل دقة بكثير من المقولتين الأخريين، وهو يرى على أية حال أنها أقرب إلى مقولة الغرضية منها إلى مقولة الآلية، وإن كانت تقبل الانطباق على كليهما معا، غير أنها لا تنطبق على الكون في مجموعه؛ إذ إن الكون لا يمكن أن يفسر إلا غائيا. وتبلغ ميتافيزيقا هبهوس قمتها في نظرته إلى الكون على أنه غائية مشروطة، من حيث إن مبدأ الغرضية لا يمكن أن يبلغ غايته أبدا، وإنما يقف دائما في تضاد مع العناصر المتنافرة للمادة الآلية، ولم يستطع هبهوس أبدا أن يصل إلى إيضاح نهائي للعلاقة بين العضوي والغائي. ولنلاحظ مدى تحول التجريبية إلى الإفراط في النظر العقلي الخالص في فلسفة هبهوس، ومدى ابتعاد هذه التأملات الرفيعة التحليق عن الأساس التجريبي الواسع الذي هو أصلها، وهذا مثل آخر للتأثير الهام الذي مارسته المثالية ذات الطابع الهيجلي، التي أضفت على الفكر الإنجليزي طابعا يتسم باتساع النطاق وعمومية النظرة على نحو ازداد جرأة وسموا عما كان موجودا من قبل بكثير.
أما الأخلاق عند هبهوس، التي عرض وجهها الأقرب إلى الطابع التجريبي في كتابه «الأخلاق في تطورها» ووجهها الأقرب إلى الطابع الفلسفي في «الخير المعقول»، فتتفق في جميع النقاط الأساسية مع المبدأ الأساسي لفلسفته، فهو هنا أيضا يبدأ بتقديم بيان عن التطور التاريخي لوقائع الأخلاق مبني على استقصاء تجريبي واسع النطاق، أعني نوعا من تعقب «نسب الأخلاق»، ثم ينتقل إلى تفسيره الفلسفي الخاص لهذه المادة التجريبية، وهنا أيضا تكون النتيجة النهائية أخلاقا عقلية لا تجريبية، مهمتها إيضاح وظيفة العقل في مجال السلوك العلمي، وهو هنا أيضا يرد على الحملة على المعقولية، ويقف في وجه تيارات اللامعقولية التي ترى أن الدوافع الوحيدة لسلوكنا إنما تكون في الاندفاع الغريزي وفي الشعور وفي العاطفة. وهو يبين أن العناصر العقلية - كالغرض والتفكير المتدبر - تلعب دورا لا يقل عن دور الشعور الغريزي الأعمى، إن لم يفقه بالفعل، فالتفكير الواضح لا يقل ضرورة في السلوك عن الشعور الصحيح، «وأقل البشر حساسية لا يتجه إلى الفعل بحكم الاندفاع الغريزي وحده فحسب.» وفضلا عن ذلك فإنه لا يميل إلى وضع تضاد شديد بين عالم الشعور وعالم الفكر، فأصل الاثنين واحد، وهو الطبيعة البشرية، ومن المحال فصلهما إلا بتجريد مصطنع. وهو يرى بوادر المعقولية الأخلاقية حتى في ذلك السلوك الواعي الهادف الذي يتمثل في أدنى مراحل الحياة الأخلاقية مثلما يتمثل في أعلاها، ووظيفة العقل العملي تسير في طريق مواز تماما لطريق العقل النظري؛ إذ إنه على حين يهتم الأخير بربط الوقائع والإدراكات المنفصلة عن طريق التلاؤم الكامل لنسق منسجم، فإن مهمة الأول هي توحيد دوافع ونوازع واتجاهات منفردة في الكل المنسجم للشعور. وهنا أيضا يستحيل أن يظل العنصر الواحد - أي النزوع الواحد في هذه الحالة - منعزلا، وإنما يشير إلى خارج ذاتها متجها إلى إدماج ذاته في الكل الأعلى الذي هو جزء منه، وهكذا تكون مهمة الإرادة هي القيام بتأليف بين الاتجاهات الإرادية المنفردة، مثلما تكون مهمة هذه الاتجاهات هي توحيد النوازع المنفردة، وفي كل هذه المراحل يوجد عنصر عقلي يلعب دوره، ويتمثل آخر الأمر بوصفه «الخير». وكما أن الإيمان بانتصار الحقيقة وسيادة العقل قد أدى إلى النزعة العقلية في المجال النظري، فكذلك يؤدي الاعتقاد بالقدرة الشاملة للخير إلى التفاؤل في المجال العملي، وفي كلا المجالين تمدنا فكرة الخير بالقوة الدافعة التي تحقق بها المعقولية ذاتها على مستويات تتزايد علوا، وتساعد على انتصار الحقيقة في ميدان المعرفة والخير في ميدان السلوك. أما التحقق الكامل للخير فليس أكثر إمكانا من التحقق الكامل للحق، غير أن السعي وراءه يظل مستمرا على الدوام، شأنه شأن التقدم الموازي الذي لا ينقطع للمعرفة، وهكذا فإن مبدأ المعقولية يطبق في الأخلاق، مثلما يطبق في العلم، بوصفه النزوع الدائم التجدد نحو انسجام مكتمل، لا بوصفه البلوغ النهائي لهذا الهدف.
وقد أمد هبهوس أخلاق الانسجام هذه بعناصر من النظريتين التجريبية والمثالية، مثلما فعل في نظرية المعرفة والميتافيزيقا. وقد أشار هو ذاته إلى أن موقفه هذا مرتبط ارتباطا وثيقا بمبادئ مذهب المنفعة عند مل من جهة، وبالمثالية الأخلاقية عند جرين من جهة أخرى؛ ففكرة الانسجام تتفق مع مذهب المنفعة بقدر ما تكون السعادة العامة عنصرا أساسيا متضمنا فيها. ومن جهة أخرى يقر هبهوس نقد جرين لمذهب اللذة في تحليله النفساني لمنابع السلوك، وينزع عن مذهب المنفعة طابع التركز حول اللذة، ويتحول مبدأ تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من الناس إلى مصادرة الكل الاجتماعي المنسجم. وليس من واجبنا أن نخوض هنا تفاصيل نقط التقاء هبهوس بالأخلاق المثالية، غير أن النقطة التي انحرفت فيها الأخلاق عند هبهوس انحرافا واضحا عن الأخلاق عند جرين أو كانت، هي القول بأنه ليس من الواجب النظر إلى العقل العملي على أنه يحلق بعيدا فوق حياة الشعور والنزوع، ولا من الواجب النظر إلى هذين الأخيرين على أنهما كم مهمل، بل ينبغي إدراجهما أو ضمهما على نحو ما في مركب الخير العقلي.
أما النظرية السياسية عند هبهوس فهي خارجة عن مذهبه إلى حد ما، بقدر ما كان في هذا الميدان يحصن نفسه عن وعي وقصد من هجوم الأفكار المثالية ، بحيث إنه يلتزم هنا حدود التراث القومي تماما، أي إنه يمثل بكل وضوح الفكرة الليبرالية الديمقراطية الفردية عن الدولة كما نجدها في المذهب الذي يمتد في تيار واحد متصل من لوك إلى مل، ولكن من رأيي أن أفكاره في هذا الموضوع ينبغي ألا تعزى إليها نفس المكانة التي تعزى إلى الأجزاء الأخرى من تعاليمه؛ إذ إن نظرية هبهوس السياسية كما عرضها في كتابه الذي كان جدليا في أساسه «النظرية الميتافيزيقية للدولة» لا تنبع من الدراسة العلمية الموضوعية التي تميز بقية أعماله، وإنما من جو الحرب العالمية المسموم المفعم بالكراهية، وهو الجو الذي فرض تأثيره حتى على مفكر له من الحكم المتزن الموضوعي ما كان لهبهوس، فهو لم ير في نظرية الدولة عند هيجل، وفي النظرية التي أحياها جرين في أعماله على التربة الإنجليزية، ولكن بحماسة فاترة، وأحياها بوزانكيت على نحو أدق وأشد تحمسا؛ سوى أنها أدت إلى تكوين تلك العقلية الرجعية التي أدت (في رأيه)، من خلال سياسة القوة التي اتبعها بسمارك، إلى النزعة العسكرية الألمانية وإلى الحرب العالمية. فالدولة المطلقة عند هيجل لا تعني، في نظر هبهوس، خرق حرية الفرد واستقلاله فحسب، وإنما تعني إخضاع الأخلاق للسياسة؛ مما يؤدي إلى إلغاء الروابط الأخلاقية بين الشعوب وإحلال القوة السافرة محل الحق، وعلى العكس من ذلك يقول هبهوس بأن الفردية قيمة مطلقة عليا، لا ينبغي أن تستنفدها الدولة دون باق، فلا يمكن أن يكون تنظيم الدولة غاية في ذاته، وإنما ينبغي أن يكون دائما وسيلة، أي صورة واحدة من بين الصور العديدة الممكنة التي يتجمع بها البشر بحرية لكي يتمكنوا من تنمية إمكانياتهم وتحقيق التزاماتهم الأخلاقية، والفرد وحده هو الذي ينبغي أن يعد غاية في ذاته، أما جميع صور المجتمع - ولا سيما الدولة - فيجب أن تستهدف رخاء الأفراد ومصالحهم، والدولة مسئولة أخلاقيا أمام الدول الأخرى، مثلما يكون الفرد مسئولا إزاء الآخرين. وليس في وسع أية نظرية أن تعفيها من هذه المسئولية، وهنا نرى نوعا واضحا من الليبرالية البورجوازية، التي تدافع عن نفسها ضد اكتمال سلطة الدولة؛ لأنها تشعر بأن الأخيرة تهدد حريتها، وهو يتخلى في هجومه على الهيجلية عن كل إنصاف وموضوعية. وهكذا فإنه بدلا من أن يتعمق مفهوم الدولة عند هيجل، يزركش صفحاته بعبارات وحجج مقتطعة من سياقها، ومتولدة عن حرارة اللحظة وانفعالها فحسب، والأكثر من ذلك مدعاة للأسف أنه اتخذ مثل هذه الحجج وسيلة لإثبات نظريته الخاصة في الدولة، مع أن جزءا غير قليل من مصادر قوته إنما يرجع إلى نفس تلك المثالية التي ناصبها هذا العداء المرير.
Page inconnue