La philosophie, ses types et ses problèmes
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
Genres
ربما كانت مسألة التعريف أكثر المشكلات الفلسفية دواما وإثارة للمتاعب. صحيح أن كل ميدان للنشاط العقلي يتعين عليه أن يصارع مع مشكلة تقديم تعريف واف لمصطلحاته، غير أن الفلسفة تواجه مع هذه المشكلة وقتا عصيبا بوجه خاص. ومن الأسباب التي يرجع إليها ذلك أن الفيلسوف - كما قلنا من قبل - هو عادة شخص ذو نزعة فردية متطرفة؛ إذ إن من المستحيل أن يجعل أي شخص من الكون كله، ومن التجربة البشرية بأسرها، مشكلة عقلية، لو لم يكن ذا نزعة فردية صارمة. ومع ذلك فإن هذا الخلط يرجع في الأغلب إلى طبيعة الموضوع. فالفيلسوف لا يتعامل إلا مع تصورات معظمها شديد التجريد. ومن ثم فإنه يشتغل في جو عقلي أثيري، يبلغ الهواء فيه من الرقة حدا لا يكاد يحتمل معه نشاطا.
فإذا ما انتقلنا إلى تحليل الذهن، لصادفتنا مشكلة التعريف هذه بكل ضخامتها. وهذا أمر يدعو إلى الأسف الشديد؛ إذ إن «الذهن» من أهم المقولات في الفلسفة. فهو يشكل واحدة من أهم نقاط الارتكاز في هذا الميدان، بل إن من العسير أن نجد نقاط ارتكاز أشمل منه، يمكنه أن يرتبط بها بدورها، وأن يعرف من خلالها. وهكذا نكون إزاء مقولة أو فئة رئيسية للتجربة، تبلغ من التفرد حدا يجعلها توجد فيما يشبه الفراغ الميتافيزيقي. فالذهن، كما يقول عالم المنطق، هو شيء فريد في نوعه، يؤلف فئة قائمة بذاتها. ولكن لما كان مفهوم الذهن أساسيا في مجال المصطلحات الفلسفية، فلا بد لنا من الوصول إلى نوع من الفهم لمعناه.
التمييز بين الذهن والمخ : يلاحظ أولا أن الطلاب يخلطون على الدوام تقريبا في تحديد العلاقة بين «الذهن» و«المخ» بدقة. ومن حسن الحظ أنه ليس من العسير على أذهاننا فهم هذا التمييز، من حيث ما يتضمنه من مصطلحات. ولنضرب لذلك مثلا: فالجملة السابقة قد تضمنت لفظ «أذهاننا»، ومن غير المحتمل أن يجد القارئ أية صعوبة في فهم عبارة «ليس من العسير على أذهاننا فهم هذا التمييز». ولو كانت هذه الجملة قد تضمنت لفظ «مخنا» لكان من المؤكد أن يشعر القارئ بشيء من الدهشة؛ ذلك لأن المخ عضو مادي، وهو موجود في الزمان، وله وزن يقدر بحوالي خمسين أوقية (في الذكر البالغ)، كما أن له علاقة وظيفية محددة ببقية التركيب المادي للكائن العضوي. ولقد رأى معظمنا أمخاخا، محفوظة في زجاجات على رفوف المعامل، أو في مكانها الطبيعي من تجويف جمجمة ضفدعة أو قطة يجري تشريحها في درس البيولوجيا. وبالاختصار فالمخ شيء مادي، يتميز بأنه ملموس و«موضعي» شأنه شأن الكرسي أو الحجر. وهو بهذا الوصف خاضع لكل القوانين التي تؤثر في الأشياء المادية (كالجاذبية)، فضلا عن تلك التي تسري على المادة العضوية (كالتحلل). وهكذا تكون الجملة السابقة قد تضمنت معنى هزيلا جدا لو كانت قد تحدثت عن ضرورة «فهم مخنا لهذا التمييز»؛ ذلك لأننا لا نفهم التمييزات بواسطة أشياء مادية، ولكن نوضح التمييزات المتعلقة بالأشياء المادية. أما إذا كانت الجملة قد ذكرت شيئا عن «ثقب في المخ»، فإن الجملة عندئذ يكون لها معنى.
فما هو «الذهن» إذن؟ إن لفظ «الذهن» من أكثر الألفاظ استخداما في المناقشات العقلية، وقد أوردنا وصفا لنظرة إلى العالم (هي المثالية) ترتكز على الذهن بوصفه الحقيقة النهائية. فإن لم يكن الذهن يشمل مكانا، أو له ثقل، ولم يكن يتأثر بالقوانين الآلية أو الفيزيائية، ولا يمكن تحديد موقعه في بقعة مكانية محددة، فما هو إذن؟ وأين هو؟ وما علاقاته بعالم الأشياء المادية، وضمنها الجسم والعالم الطبيعي بأسره؟
هذه المسائل، ومعها عدة مسائل ثانوية، هي موضوع الفصل الحالي. فسوف نبدأ أولا ببحث الآراء الرئيسية في طبيعة الذهن ذاته. ثم ننتقل إلى مشكلة العلاقات بين الذهن والجسم، ولا سيما ذلك الجزء من الجسم، الذي يعرف بالجهاز العصبي المركزي، والذي يشمل المخ. وبعد ذلك ينبغي علينا أن نستكشف منطقة الحدود الواقعة بين مشكلة الذهن ومشكلة المعرفة، وهي المنطقة التي تعد أهم مشكلاتها هي العلاقة بين الذهن وبين العالم الخارجي الذي يمر بتجربة الذهن. وأخيرا ينبغي أن نكون ميتافيزيقيين لفترة وجيزة، ونتأمل نظريا في العلاقة بين الذهن وبين الواقع بوجه عام. وكما هو واضح، فإن أمامنا فصلا بأكمله لمعالجة هذا الموضوع. (1) النظرة الجوهرية إلى الذهن
كانت هناك آراء متعددة حول طبيعة الذهن، ما زالت كلها تقريبا تجد لها أنصارا بين جماعات كبيرة أو صغيرة من المفكرين. ومن حسن الحظ - فيما يتعلق بالتحليل الذي نقدمه - أن هذه الآراء المتعددة يمكن أن ترد بشيء من السهولة إلى أربعة مواقف أو خمسة، وحسبنا في مدخل إلى الفلسفة كهذا أن نكون فكرة واضحة عن هذه الآراء، أو هذه الآراء، وأهمها من الوجهة التاريخية، هو النظرة الجوهرية.
1
وكما توحي هذه التسمية، فهي تنظر إلى الذهن على أنه جوهر؛ أي شيء أو كيان. على أن المفهوم العام للجوهر لا يتضمن الوجود المادي وإنما الوجود المستقل ، كما رأينا في الفصل السابق، فالجوهر هو ما يوجد في ذاته وبذاته، لا بوصفه حالا لشيء آخر. فهو ما يتلقى التعديلات ولكنه لا يعتمد على هذه التعديلات (أو على أي نوع من العلاقات) لكي يستمد منها وجوده. وإذن، فمهما تكن علاقات الذهن بالجسم أو بالعالم الخارجي. فإنه (تبعا لهذا الرأي الجوهري) لا يعتمد على هذه العلاقات في وجوده. فهو، بوصفه جوهرا روحيا، مكتف بذاته وموجود في ذاته.
هذه النظرة إلى الذهن كان لها من التأثير في الفكر الغربي ما يسمح لنا بالتنبؤ بأن تسعة على الأقل من كل عشرة طلاب يكونون مؤمنين بها عند بدء دراستهم للفلسفة أو علم النفس. فهي تمثل الموقف التقليدي للمسيحية، وهي تنسجم مع ذلك الموقف الذي سنرى بعد قليل أنه أكثر المواقف الميتافيزيقية شيوعا، وهو «ثنائية الموقف الطبيعي
Common-Sense Dualism » (الفصل العاشر)، بل إننا نكون منطقيين تماما لو أطلقنا على هذا الرأي اسم «المذهب الجوهري للموقف الطبيعي»: إذ إننا بطبيعتنا ننظر إلى ذهننا على أنه كيان لا مادي يوحد بين تجاربنا التي تحدث من لحظة لأخرى. فنحن ننظر إلى الذهن على أنه ما تكون لديه هذه التجارب المتعددة؛ أي ما يدركها أو يفكر فيها أو يريدها. ونحن نتصوره كيانا يكمن من وراء كل الحوادث الذهنية، وفاعلا تحدث بواسطته وتنتمي إليه. والذهن، في لغة الحديث اليومي، هو «ما يمر بالتجارب». فمما يتفق مع الموقف الطبيعي أن نعتقد أن هناك لبا ثالثا لا يتغير أساسا، تكمن فيه هذه التجارب وتتوحد بواسطته. ويستخدم دعاة الجوهرية عادة لفظ «النفس»، بدلا من لفظ «الذهن» الأحدث عهدا، غير أن المفهوم ذاته متشابه إلى حد بعيد، سواء أكان من يستخدمه هو أفلاطون أم المثالي الحديث. وهكذا فإن الألفاظ الرئيسية التي يشيع استخدامها في هذه المدرسة هي ألفاظ المفارقة للجسم، والوحدة، والجوهرية، ويضاف إلى هذه الألفاظ الثلاثة عادة لفظ رابع مستمد منها منطقيا، هو الخلود.
Page inconnue