La philosophie, ses types et ses problèmes
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
Genres
غير أن الموقف الطبيعي؛ إذ يقتنع بضرورة وجود خدعة في مذهب كهذا، يعود فيوجه هجوما جديدا. فكيف يستطيع باركلي أن يفسر اتساق عالمنا الإدراكي واتفاق الناس عليه؟ لو كان كل وجود متوقفا على الذهن، فكيف يحدث أن تتسق إدراكاتي الحسية المتعددة لتلك الشجرة بعضها مع بعض إلى هذا الحد؟ وكيف تدرك على الدوام على أنها شجرة صنوبر، مثلا، بدلا من أن تدرك أحيانا على أنها شجرة بلوط أو زان؟ وفضلا عن ذلك، فكيف تفسر تلك الأدلة العملية الكثيرة التي تثبت أنني أنا وأنت ندرك نفس الشجرة عندما نحول أعيننا إلى اتجاه معين؟ إذا كانت شجرتك وشجرتي متشابهتين إلى حد تدل معه كل الدلائل على أنهما شجرة واحدة، فلا بد أن يكون هناك مصدر مشترك واحد أو سبب لإدراكاتنا. وأين يمكن أن يكمن هذا السبب إلا خارج ذهني وذهنك؛ أعني في العالم الخارجي؟
يرد باركلي على ذلك بأن يذكرنا بأنه لا ينكر على الإطلاق وجود عالم خارجي وإنما هو ينكر فقط وجود عالم مادي يوجد مستقلا عن كل إدراك؛ أعني عالما لا يكون فكرة في ذهن ما. وهو يعبر عن رأيه هذا بقوله: «إنني لأذهب بالفعل إلى أن موضوعات الحس ليست إلا أفكارا يستحيل أن توجد ما لم تدرك. ومع ذلك فليس لنا أن نستنتج من ذلك أنها لا توجد إلا عندما ندركها نحن، فقد تكون هناك روح أخرى تدركها مع عدم إدراكنا نحن لها. ولا يلزم عن ذلك أن الأجسام تفنى وتخلق من جديد في كل لحظة، أو لا توجد على الإطلاق خلال الفترات الواقعة بين إدراكنا لها.» «قد تكون هناك روح أخرى تدركها مع عدم إدراكنا نحن لها.» ماذا يمكن أن تكون الروح الأخرى أو الذهن الآخر؟ من الواضح أن باركلي لو استطاع أن يثبت وجود هذا الذهن الآخر، لأصبح أقدر على مواجهة مقتضيات الموقف الطبيعي. ولا يحتاج المرء إلى وقت طويل لكي يدرك الاتجاه الذي يسير نحوه استدلاله: «ولكن مهما يكن لدي من قدرة على بعض أفكاري، فإني لا أجد أفكارا أخرى لا تتوقف كذلك على إرادتي. فعندما أفتح عيني في رائعة النهار مثلا، لا يكون في مقدوري أن أختار أن أرى أو لا أرى، أو أن أحدد ما أراه. ومثل هذا يقال عن السمع وغيره من الحواس. فالأفكار التي تنطبع على هذه الحواس ليست مخلوقات صنعتها بإرادتي. ومن ثم فهناك إرادة أو روح أخرى، أو عقل آخر، هو الذي أنتجها.
هذه الأفكار التي لا أستطيع التحكم فيها ؛ أعني هذه الأفكار الحسية، أقوى وأشد حيوية وأوضح تميزا من تلك التي أستطيع التحكم فيها. وهي تتميز أيضا بثبات ونظام وإحكام لا تتصف به تلك التي تنتج بإرادتي. وهي تنم بذلك عن كونها ناتجة عن ذهن أقوى وأحكم من أذهان البشر.
إن هناك حقائق قريبة من الذهن البشري وواضحة له إلى حد أن كل ما يحتاج إليه الإنسان هو أن يفتح عينيه ليراها. ومن قبيل هذه الحقائق في نظري، هذه الحقيقة الهامة، وأعني بها أن كل ما في قبة السماء وما تحمله الأرض؛ أي باختصار، كل الأجسام التي تكون الهيكل الجبار للعالم، ليس لها وجود بدون ذهن ما، وأن وجودها هو أن تدرك أو تعرف، وأنها بالتالي، ما لم أكن أدركها بالفعل، أو لم تكن موجودة في ذهني أو في ذهن أية روح مخلوقة أخرى، لا بد إما ألا يكون لها وجود على الإطلاق، وإما أن تظل قائمة في ذهن روح أزلية ما.»
وهكذا فإن الفرض الذي يقول به باركلي لا بد له، لكي يرضي الموقف الطبيعي للإنسان، من أن يسلم بوجود ذهن معين غير ذهننا (وأعظم منه). فليس ثمة وسيلة أخرى تحفظ وجود الكون، وليس ثمة وسيلة أخرى تتيح تفسيرا كافيا لإحكام إدراكاتنا واتساقها. وهكذا ربط باركلي مذهبه كله بذلك المفهوم الواحد، مفهوم «الله». فإدراك الله يحفظ للكون وجوده، سواء أكانت أية أذهان بشرية تقوم بواجبها الإدراكي أم لا. وذهن الله يضمن أيضا اطراد إدراكاتنا: فعندما ننظر من نفس النافذة كل يوم نرى نفس الأشجار والمباني في الخارج؛ لأن وجودها الحقيقي يتوقف على الوعي الإلهي بها. إننا نحن قد نذهب ونجيء، وننظر من النافذة أو لا ننظر، غير أن الله يحفظ باطراد وجود كل الأشياء الطبيعية التي تمر بتجربتنا مرورا عارضا غير منتظم ولا دائم. والواقع أننا مهما نقل عن إله باركلي، فمن المؤكد أنه ليس متهاونا أو مهملا في الاضطلاع بواجباته الإدراكية! فهو مواظب على القيام بالعمل، أربعا وعشرين ساعة في اليوم، كل يوم من أيام السنة. وبطبيعة الحال، فإنه لما كان ذا علم محيط، فإنه يدرك كل ما يوجد، وضمنه الكثير مما لم يره الناس ولن يروه قط.
الدور الرئيسي لله في مذهب باركلي : لن نكون مغالين إذا قلنا إن لله من الأهمية في مذهب باركلي ما له في أي بناء لاهوتي؛ ذلك لأن باركلي، حين استعان بالذهن الإلهي ورصيده اللامتناهي من الإدراكات، قد ضرب عدة عصافير بحجر واحد: (1) فهو علل وجود العالم الخارجي كما يطلب الموقف الطبيعي. (2) وفسر استمرار إدراكاتنا واتساقها (فالذهن الإلهي يتولى العمل عندما ننام أو ننشغل بإدراكات أخرى، وبذلك يحفظ وجود الأشياء جميعا، ويجهزها لكي تدركها الأذهان المتناهية عندما تستيقظ من جديد أو تتحول مرة أخرى إلى هذا الاتجاه)، (3) وفسر التشابه في إحساساتنا عندما ندرك شيئا واحدا مشتركا (ما دام الشيء يوجد بوصفه فكرة واحدة في الذهن الإلهي، فليس من المستغرب أن ندركه كلنا على نفس النحو): (4) وحطم المادية بالقضاء على العالم المادي المستقل عن الفكرة، (5) وفند الإلحاد بأن جعل الله حقيقة لا غناء عنها في كل وجود. وليس من شك في أن بركلي كان يؤمن بإخلاص بأن محو فكرة الله من الذهن سيؤدي إلى تدمير الكون - ناهيك بتدمير مذهب باركلي ذاته.
وإذن فقد اعتقد باركلي أنه تمكن من تفسير كل هذه الأمور وإثباتها. وكان لا بد للفلسفة أن تنتظر جيلا آخر حتى يبين هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي الشكاك اللامع، أن منطق باركلي سلاح ذو حدين، يبتر من هذا الجانب ومن ذاك. ذلك لأننا إن لم نبدأ بالإيمان بوجود الله، فليس ثمة وسيلة لإثبات أن إدراكاتنا لها ركيزة موضوعية في الذهن الإلهي. فمثلا، لو كان وجود أي شيء يتوقف على كونه مدركا، فمن أين يأتي وجود الله، ومن الواضح أنه ليس موضوعا إدراكيا إلا بالطبع إذا شنقنا أنفسنا بالمنطق فأكدنا أن الله يستطيع أن يولد ذاته بإدراك ذاته؟!
وأيا كان تقديرنا النهائي لمذهب باركلي، فإننا نستطيع أن نرى بوضوح سبب إطلاق اسم «النزعة الذاتية» عليه، وسبب اعتماد كل المذاهب المثالية التي تطورت عنه على المنطق ونظرية المعرفة اعتمادا كبيرا. فكل هذه المذاهب تبني نظرتها إلى العالم على حقيقة لا تنكر هي أن كل شيء يوجد، يبدو مرتبطا بإدراكنا له ارتباطا لا ينفصم. ومن هذه المقدمة يعتقد المثالي أن من المنطقي أن نستنتج أن الوجود بما هو كذلك يتوقف على الإدراك
Esse est Percipi
على أن صاحب هذه النظرية الواقعية في المعرفة، كما سنرى في فصل تال - يجد هذا الاستدلال فاسدا. ومع ذلك فإن الأقرب إلى تحقيق غرضنا، عند هذه النقطة من العرض الذي نقدمه، هو أن نناقش بإيجاز ما يسمى «بمأزق التمركز حول الذات»، الذي ظهر أصلا بوصفه حجة ضد النزعة الذاتية، ولكن من الممكن تقديمه من زاوية محايدة على نحو يبدو معه الموقف المثالي أقرب إلى الفهم، وربما أجدر بأن يقبل.
Page inconnue