La philosophie, ses types et ses problèmes
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
Genres
تتميز هذه العلاقة الأساسية الأخرى بين الفلسفة والعلم بأنها أقرب إلى الطابع الفني المتخصص بكثير من العلاقة الأخرى التي ناقشناها من قبل. ومع ذلك فإن لها أهمية اعظم بكثير بالنسبة إلى العلاقات اليومية المتبادلة بين الميدانين. ولذا كان من الضروري أن نلم على الأقل ببعض المعلومات عن المناهج والنتائج المتعلقة بهذا الموضوع. ولقد حاولنا، في مناقشتنا للعمليات التركيبية التي تقوم بها الفلسفة إزاء نتائج الكشوف المعملية، أن نعطي القارئ فكرة مؤداها أن العمل الأكبر للفيلسوف هو أن يجمع الأجزاء معا، على حين أن العالم مهتم أساسا بتجزيء الواقع الفيزيائي إلى أجزاء أصغر فأصغر. ومن هنا فلا بد من قدر من التهيؤ الذهني لكي نتحول إلى هذه العلاقة الثانية بين الميدانين؛ إذ إن الفلسفة الآن هي التي تقوم بالتحليل، وتمضي في عملية التجزيء أبعد بكثير من العلم ذاته.
مشكلة التعريف : هذا الموقف الذي ينطوي على مفارقة، يحدث في مجال «التعريف» و«صياغة المفاهيم». ولهذا المجال أهمية في الأوساط العقلية تفوق بكثير كل ما يخطر ببال المرء لو اقتصر على قراءة الألفاظ المجردة التي تعبر عنه. فللعلم (وكذلك للعلوم المنفصلة كل على حدة) ألفاظ أساسية متعددة يستخدمها في القيام بعملياته - وهو في ذلك مشابه لكل ميدان كبير آخر من ميادين الفكر. هذه الألفاظ تمثل المفاهيم الأساسية التي يشيد عليها البناء العقلي الضخم. وجميع المسلمات والبديهيات والمصادرات و«المبادئ العامة» لهذا الميدان يعبر عنها بهذه الألفاظ؛ ومن هنا لم يكن مما يدعو إلى الدهشة أن تتكرر هذه الألفاظ مرارا وتكرارا كلما بدأت المناقشة تصل إلى القاع الذي يكمن من وراء جانب خاص معين من جوانب البناء العلمي. وأهم الأمثلة في ميدان العلم العام هي المادة، والطاقة، والقوة، والزمان، والمكان، والقانون، والنظام، والعلة (وهذه الأخيرة أهمها جميعا). فأي شخص قرأ كتابا مدرسيا بسيطا في الفيزياء أو الكيمياء المقررة على طلبة المدارس الثانوية لا بد أن يذكر مدى تكرار ظهور هذه الألفاظ. فهي أساسية للعلم إلى حد بعيد واستخدامها أصبح مميزا لهذا الميدان إلى حد أن أي قارئ مثقف لا بد أن يعرف فورا، عندما يلقي نظرة إلى هذه القائمة، أن المناقشة ذات طابع علمي.
الدور الأكبر الذي أسهمت به الفلسفة في العلم : لقد اكتشفت الفلسفة منذ وقت طويل أن كل مشتغل بالعلم يستخدم هذه الألفاظ؛ ومن ثم فالمفروض أنه يعرف معناها. ولكن الأمر الذي كان واضحا في أحيان كثيرة، لسوء الحظ، هو أن الألفاظ لم تكن تعني دائما نفس الشيء حتى عندما كان الشخص الواحد يستخدمها في أوقات مختلفة. ومن ثم بدأ الفيلسوف يتساءل عن مدى «الحقيقة الموضوعية» التي يستطيع أي ميدان أن يدعيها لكشوفه إذا كانت الألفاظ الرئيسية المستخدمة في صياغة هذه الكشوف تفتقر إلى أية معان موحدة. فعلى الرغم من الدقة العقلية الكبرى التي يتسم بها العلم، فإن دقته في استخدام الألفاظ لم تكن دائما على نفس هذا المستوى، بل إن الموقف هنا كان مماثلا إلى حد بعيد لما نجده في الحديث المعتاد، حيث نفترض عادة أن كل الأفراد المشتركين فيه يستخدمون الألفاظ والمفاهيم بطريقة واحدة؛ أي إننا نتصور أن كل شخص قد وافق على التعريف الدقيق لهذه الألفاظ والمفاهيم قبل أن تبدأ المناقشة. ولكن الذي يحدث عادة هو أننا نكتشف بعد المناقشة أن الأمر ليس كذلك. فبعد قدر معين من الجدل، وربما بعد استخدام بعض التعبيرات العنيفة، يتفق الطرفان على أن يعيدوا الكرة بادئين بتعريف الألفاظ وإيضاح المفاهيم.
إن لكل من العلوم مفاهيمه الرئيسية ومسلماته الأساسية التي يأخذها المشتغلون في هذا الميدان قضية مسلمة إلى حد بعيد. وفضلا عن ذلك فإن كل العلوم تفترض مقدما، دون سؤال تقريبا، قدرة أذهاننا على اكتساب معرفة موثوق منها - وذلك على الأقل عن طريق مناهج البحث العلمي. فالعالم، بما أنه عالم، لا يناقش بعمق حدود المعرفة البشرية أو مدى صحتها، بل إن من النادر أن يسأل أي مشتغل بالعلم هذا السؤال الذي تعده الفلسفة أهم الأسئلة في هذا المجال بأسره؛ وأعني به: ما هو الشيء الذي تتعلق به المعرفة العلمية؛ أعني: ما الذي نحصل عليه بالفعل عندما نكتسب هذه المعرفة؟ هل نحصل على صورة للواقع، ونسخة طبق الأصل للطبيعة كما هي، مستقلة عمن يلاحظونها من البشر؟ أم أن من المحتم علينا ألا نحصل إلا على تمثيل تقريبي لا بد أن تشوهه أجهزة الإنسان الحسية وتركيب أعصابه؛ أعني تمثيلا لا بد أن يكون متجها إلى تحقيق مصالحنا بوصفنا مخلوقات بيولوجية تحاول البقاء والتكيف في بيئة معينة؟
فإذا أصبح العالم المتعمق في الفكر شاعرا بمشكلات المعرفة؛ أي إذا تجاوز الموقف الطبيعي الساذج فلسفيا، الذي تأخذ فيه أذهاننا وقدراتها على جمع المعلومات قضية مسلمة - فالأرجح أنه سينتقل إلى موقف آخر لا يقل عن السابق افتقارا إلى الروح النقدية، وهو الموقف الذي يسلم فيه بأن كل المشكلات الإبستمولوجية (أي المشكلات المتعلقة بطبيعة المعرفة وحدودها وصحتها) هي مشكلات قابلة للحل. فأغلب الظن أنه سيؤمن بأن تحليلا بسيطا للموقف المعرفي. بالإضافة إلى قليل من الصبر وحسن النية من جانب كل من يهمه الموضوع، سيؤدي فورا إلى حل الصعوبة. غير أن الفيلسوف، الذي يعرف أن مشكلات المعرفة ظلت قرونا عديدة موضوعا للتحليل والنقد والخلاف، لا يمكن أن يقنع بهذا الفرض الساذج. فقد يكون في وسع أي من العلوم أن يدعي معرفة ما هو واقعي وما هو حقيقي، غير أن الفلسفة قد اكتشفت أن هذا الادعاء، إن كان مباحا على الإطلاق، لا يمكن التقدم به إلا بعد تحليل طويل للذهن البشري وعملية البحث عن المعرفة بأسرها لديه.
وهكذا نشأ ذلك البحث الذي يعد دون شك أعظم خدمة تؤديها الفلسفة للعلم، وأعني به التحليل النقدي للأدوات العقلية المستخدمة في ميدان العلم، وشحذ هذه الأدوات من آن لآخر. وبينما العالم كان في بعض الأحيان يقدم أدلة يحاول بها الدفاع عن طريقته الخاصة في استخدام مفهوم معين أداة في بحثه، فقد كان على وجه العموم يشعر بالامتنان لهذا التحليل، بل لقد ظهر اتجاه متزايد من جانب العالم لترك هذه المهمة طواعية لصديقه المحلل، معترفا بأنها ستكون في أيد أمينة؛ ذلك لأن الفيلسوف قد اكتسب خبرة طويلة في معالجة الألفاظ المجردة - بل إنه نادرا ما يتعامل مع أي شيء غيرها - ومن هنا فهو قادر على القيام بهذا التحليل بوصفه خبيرا متمكنا.
وسوف تتاح لنا الفرصة في فصل تال، عندما نبحث في العلوم البيولوجية عامة وفي نظرية التطور خاصة، للقيام بتحليل كامل لمفهومين رئيسيين للعلم (هما «الحياة» و«التطور»). والأفضل ألا نحاول تقديم أي مثال للعملية التحليلية حتى نصل إلى هذه المرحلة في العرض الذي نقدمه. ذلك لأن أي مثال نأتي به في هذه الآونة لا بد أن يطيش عن هدفه. إذ سيبدو بسيطا إلى حد التفاهة في نظر الطالب ذي التكوين العلمي المتين، كما أنه سيبدو على الأرجح مفرطا في التجريد إلى درجة الاستغلاق التام في نظر الطالب الذي يفتقر إلى أي تكوين علمي. ومع ذلك فليس من المحتمل أن ينتهي أي قارئ من هذا الكتاب دون أن يكون قد فهم ما نعنيه عندما نتحدث عن الفيلسوف بوصفه ناقدا أعلى أو محللا أعلى؛ ذلك لأننا، ابتداء من الفصل القادم، سنقوم بتحليلات كهذه طوال الكتاب، على حين أن القسم الأخير الخاص بالله والخلود سيكون بأكمله ذا طابع تحليلي. وحسبن الآن أن يكون القارئ قد كون في ذهنه فكرة معينة عن الوظيفتين المتضادتين اللتين تؤديهما الفلسفة في علاقتها بالعلم. ولا بد أن تؤدي الصفحات القليلة التي تمس المشكلات المشتركة بين الفلسفة وبين جاريها الرئيسيين إلى تعميق هذا التضاد وإيضاحه.
الفصل الثالث
المثالية: العالم ملائم لنا
لا بد أن القارئ قد أدرك الآن أن الفلسفة ليست بالموضوع الهين. فهو قد اكتشف أنه حالما تبدو المشكلة وكأن حلها بات وشيكا، فإن فروعا جديدة تظهر لها. وهذه تؤدي فورا إلى مشكلات أخرى لم تكن تخطر من قبل ببال أحد ثم تؤدي هذه إلى غيرها. ولقد وصف الفيلسوف «بالرجل الذي يسأل دائما السؤال المقبل»، وبأنه هادم اللذات يحطم كل حل يبدو قريبا بقوله: «نعم، ولكن ...» أو «ومن جهة أخرى ...» أو «هذا صحيح، ولكن ألا يترتب عليه ...؟» والواقع أن الفلسفة بالفعل موضوع معقد، وربما كانت أعقد مما يتصوره القارئ. وفي وسعنا عند هذه النقطة أن نعكس عبارة هاملت المشهورة «في السماء والأرض، يا هوراشيو، أمور تزيد على ما تحلم به فلسفتك» بحيث تصبح في الفلسفة أمور تزيد على ما يحلم به معظم الطلاب المبتدئين. فالفلسفة، بوصفها تلك الدراسة العامة أو العلم العام الذي يسعى إلى أن يدمج في ذاته كل الدراسات والعلوم الأخرى ويلخصها في داخله، لا تجد لها مفرا من أن تكون معقدة. فإذا شئنا أن ندرك على نحو صائب مدى ثراء هذا الموضوع وتعقده، فسيكون من الضروري القيام ببعض التبسيطات التمهيدية الشديدة. فلا بد لنا من أن نخاطر بإغضاب الفلسفة؛ وذلك بأن نتجاهل الفوارق ونغفل التمييزات، بحيث لا نبقي إلا الهيكل اللازم للتصنيف؛ ذلك لأننا الآن على استعداد لخوض ذلك البحر الواسع المتلاطم من «المدارس» الفلسفية. ولقد كنا حتى الآن حريصين على ألا نورد - إلا في حالة الضرورة القصوى - أية إشارة إلى وجود هذا البحر العاصف الذي كنا نتبادل الحديث ونحن واقفون على شاطئه. ولكن هدير الأمواج المتلاطمة وتيارات الفكر المتصارعة قد أصبح الآن ملحا إلى حد لم يعد من الممكن معه الاحتفاظ بموقف التجاهل إزاء صراعها هذا.
Page inconnue