La philosophie, ses types et ses problèmes
الفلسفة أنواعها ومشكلاتها
Genres
4 (3) المذهب الحدسي والإلزام
يذكر القارئ أن هناك مشكلتين كبريين تحتلان في البحث النظري للأخلاق مكانة رئيسية، وتتساويان في أهميتهما وتعقيدهما. هاتان المشكلتان تتعلقان بطبيعة الخير ومصدر الإلزام. وأغلب الظن أنه لم يكن هناك مفر، بعد أن شاع الاعتراف بالنظرية الحدسية في الخير، من أن تظهر نظرية موازية لها في الإلزام. ولقد كان أشهر المدافعين عن هذه النظرية مفكر إنجليزي آخر، ه. أ. برتشارد
H. A. Prichard . فقد نشر من سنوات طوال، في عام 1912م، مقالا من أكثر مقالات الأخلاق الحديثة إثارة للجدل تحت عنوان مشوق هو «هل ترتكز الفلسفة الأخلاقية على خطأ؟»
5
ويبدأ برتشارد بالاعتراف بفردانية الخير، بنفس لهجة «مور» القاطعة، ولكنه بعد ذلك ينكر أن يكون الخير هو العامل الوحيد في الأخلاق، أو أن يكون من الممكن استخلاص الواجب أو الإلزام من الخير. فكما ينكر الحدسيون إمكان استخلاص «ما هو خير» «مما هو موجود»، فكذلك ينكر برتشارد بدوره إمكان استخلاص الواجب من الخير. وكذلك لا يمكن استخلاص الإلزام من أي شيء آخر؛ فهو بدوره غير قابل للرد، مستقل بذاته، فريد في نوعه.
والواقع أننا نبدأ في إدراك مدى التغيير الجذري الذي يمثله موقف برتشارد عندما نتريث لحظة ونتأمل كيف أننا نبث بانتظام في نفوس الصغار من أفراد مجتمعنا الفكرة القائلة إنه ينبغي أو لا ينبغي لهم أن يفعلوا أشياء معينة؛ لأن هذه الأفعال (1) تساعد الآخرين أو تضرهم (2) تجعل الآخرين سعداء أو تعساء، (3) تجعلهم هم أنفسهم سعداء أو تعساء (4) تؤدي إلى استحسان المجتمع أو استهجانه، (5) تنطوي على إطاعة أو عصيان لأوامر الله، بل إن الأمر المطلق ذاته عند (كانت)، وإن يكن قريب الشبه ما نحن بصدده إلى حد بعيد. يبدو أقل تطرفا لأن «كانت» قد أوضح بعد ذلك أن خرق الأمر «افعل واجبك لأنه واجبك» ينطوي على تناقض منطقي، كما رأينا في الفصل الثالث عشر، بل إن برتشارد يخالف التراث على نحو أكثر تطرفا عندما ينكر أن الالتزام بأداء فعل يتوقف على خيرية شيء متضمن في الفعل - كإطاعة القانون مثلا. فالفعل يكون خيرا لأنه يؤدى بوصفه واجبا؛ أي إن سبب أداء الفعل هو الذي يمكن أن يجعله خيرا، لا نتائجه.
كذلك تعتمد نظرية الإلزام هذه على إحساس بالإلزام يتصف بأنه مباشر، غير متوقف على العقل، هو الذي يكشف لنا عن واجبنا. فإذا كنا واعين لكل الوقائع في موقف معين، فعندئذ ندرك الإلزام إدراكا كاملا مباشرا. ويشبه برتشارد هذا الفهم بفهم العلاقات الرياضية، ويرى أن الموقفين يتضامنان إدراكا لحقائق واضحة بذاتها. وكما يقول هو ذاته في المثل الذي يضربه، فإذا لم نكن واثقين أننا أتينا بالحل الصحيح لمسألة رياضية، فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نحلها مرة أخرى. فليس في استطاعتنا أن نلجأ إلى مصدر خارج عن الرياضيات لكي نتأكد منه. وهكذا الحال في المواقف الأخلاقية المتعلقة بالواجب: فإذا لم نكن واثقين من أن هناك واجبا، فكل ما نستطيع أن نفعله هو أن نعيد حل المسألة الأخلاقية - أرى أن نعيد النظر في الوقائع الأخلاقية.
ولا يستطيع برتشارد أن ينكر أن هناك أشخاصا يجدون صعوبة في إدراك الالتزامات، مثلما أن هناك أشخاصا يجدون أن من العسير عليهم فهم العلاقات الرياضية. ولكن، مثلما أننا عندما ندرك العلاقة آخر الأمر في الرياضيات، نعجب كيف غابت عنا من قبل، فإننا عندما ندرك الإلزام في النهاية قد نعجب كيف فاتنا من قبل - وكيف لا يزال يوجد من يعجزون عن رؤيته. وفي كلتا الحالتين تصبح الحقيقة مطلقة واضحة بذاتها، كما تصبح مكتفية بذاتها من حيث إن أي شيء من خارج الموقف لا يلزم لجعلها صحيحة.
المذهب الحدسي والعلوم الاجتماعية : من الواضح أن هذه المواقف الحدسية تمثل رد فعل على العلم الاجتماعي، وذلك على الأقل بالنسبة إلى ما قد يكون لهذا العلم من تأثير في مجال الأخلاق. ومن الواضح أيضا أنها تشكل رد فعل مماثل لرد فعل المتمسكين بأساسيات الدين (
Religious Fundamentalist ) على العلم الجيولوجي والبيولوجي؛ أعني أن رد فعلها هو الدحض والتفنيد. فالمذهب الحدسي في الأخلاق هو في أساسه رفض للتعامل مع العلوم الاجتماعية، بإنكار إمكان وجود أية صلة لعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والاقتصاد والعلوم السياسية والتاريخ بالأخلاق. وهكذا فإن الحدسي؛ إذ يرفض أن يدع الأخلاق «تتلوث» بمثل هذه المؤثرات، يحفظ «للخير» و«الواجب» نقاءهما. أما كونه يجعلهما عقيمين نتيجة لموقفه هذا أم لا، فتلك مسألة ما زالت موضوع مناقشة في الأوساط الأخلاقية. فمن الواضح إذن أن الموقف الحدسي مضاد للنسبية، وعلى الرغم من أن أنصاره يتجنبون عادة إدراج أنفسهم ضمن القائلين بمذهب المطلق، فإن خصومهم يجدون من اليسير أن يصفوهم بهذا الوصف.
Page inconnue