La philosophie, ses types et ses problèmes

Fouad Zakaria d. 1431 AH
148

La philosophie, ses types et ses problèmes

الفلسفة أنواعها ومشكلاتها

Genres

فالفرض الحتمي أولا يتفق مع مسلمة من أهم مسلمات العلم. هذه المسلمة ضرورية بصفة مطلقة بالنسبة إلى كل العلوم، بل إنه ليقال عادة إن البناء الكامل للعلم الحديث مرتكز على مفهوم العلية. ويذهب القائل بالمذهب الحتمي إلى أن أي مبدأ له مثل هذه الأهمية، وينتشر تطبيقه على مثل هذا النطاق الواسع، يمكن افتراض أنه يسري على جميع الظواهر - ليس فقط على تلك التي يدرسها العلم، وإنما على كل حوادث الكون. وباختصار، فالحتمية لا يمكنها قبول الرأي القائل إن الإرادة البشرية تقوم في فراغ خال من العلل، بل إن مبدأ العلية ذو نطاق شامل، ولا يمكن أن يعد الإنسان استثناء له. والواقع أن الكشف العلمي لا يكون ممكنا إلا لأن في استطاعة العالم أن يفترض عالما منظما عاقلا، يوجد فيه كل حادث بوصفه طرفا في علاقة علية.

3 (2)

وفضلا عن ذلك فإن علم النفس - وهو أقوى العلوم ارتباطا بمشكلات السلوك البشري - قد حقق كل ما أحرزه من تقدم بالارتكاز على مصادرة العلية. والأمر الأكثر من ذلك إقناعا هو أن علم النفس قد تمكن من تحليل فعل الاختيار، وكشف هذا التحليل عن أن الاختيار أو القرار يحدث دائما نتيجة لشروط معينة. فعندما تتوافر هذه الشروط، يحدث اختيار، وعندما تغيب، لا يكون هناك اختيار. وبالاختصار فإن كل القرارات إنما هي نتيجة لدوافع، والدافع الأقوى هو الذي تكون له الغلبة دائما.

4

وينتهي صاحب المذهب الحتمي من ذلك إلى قوله إنه لما كان التحليل النفساني عاجزا عن كشف أي مثال لاختيار لا دافع له (أي غير مسبب)، فلنا أن نقول إنه لا يوجد اختيار كهذا. (3)

كذلك يعتقد صاحب المذهب الحتمي أن موقفه هو أساس كل سلوك معقول. فكلما ازدادت معرفتنا لأي شخص وثوقا، استطعنا أن ندرك على نطاق أوسع أن من الممكن الوثوق بسلوكه والتنبؤ به في آن واحد. وفضلا عن ذلك فإن من الممكن، بوجه عام، الوثوق من سلوك الناس إلى حد معقول، كما يتضح من أن كل مجتمع مبني على الثقة المتبادلة بين أعضائه بعضهم وبعض. فنحن نتوقع من الناس أن يسلكوا بطرق معينة؛ لأننا اكتشفنا أن منبهات (أو عللا) معينة تؤدي إلى استجابات (أو معلولات) محددة. وعندما يخيب الناس أملنا يكون ذلك دائما استثناء من الطابع العام لسلوكهم. ولولا هذه النسبة الغالبة من القابلية المأمونة للتنبؤ، لما كان الاتصال الاجتماعي العادي عشوائيا تماما فحسب، بل لما وجدت علوم كعلم الاجتماع وعلم النفس. (4)

وأخيرا، فإن اللاحتمي على خطأ عندما يقول إن المسئولية الأخلاقية تفترض حرية كاملة للإرادة؛ إذ كيف يكون لنا الحق في أن نعد الشخص مسئولا عن أفعاله إذا كانت ناتجة عن قرار اعتباطي اتخذ في لحظة الاختيار؛ أعني قرارا لا صلة له بشخصيته أو عاداته أو تجاربه السابقة؟ إنه لا يمكن أن يمتدح عليها أو يلام، ويثاب أو يعاقب، إلا بقدر ما تكون قراراته صادرة عنه هو، ومرتبطة بذاته الكاملة ارتباطا لا ينفصم. وهكذا فإن الأخلاقية والتشريع الاجتماعي معا يفترضان الحتمية، من وجهة النظر العملية. فالتشريع الاجتماعي مثلا مبني على افتراض إمكان التحكم في السلوك البشري بالوسائل الصحيحة، إلا فلم كنا نسن القوانين لو لم نكن نفترض أنها ستؤثر في سلوك الناس؟ ولنضرب مثلا آخر: فما هو التعليم الرسمي، إن لم يكن عملية طويلة باهظة لتدريب الفرد (أو «تكييفه»، إذا شئنا استخدام هذا اللفظ الأثير لدى عالم النفس)، بحيث يستجيب بطرق مرغوب فيها لكثير من المنبهات التي لا بد أن تأتي إليه من التجربة اليومية، ولم نكرس للتعليم كل هذا الوقت والجهد إن لم نكن واثقين - بدرجة معقولة - من أن عملية التكيف هذه ستنجح؛ أي ما لم نكن متأكدين من أن في استطاعتنا إيجاد نمط سلوكي يكون له ثبات نسبي، ويكون من الممكن الاعتماد عليه؟ ولو كان في استطاعة الفرد، بعد سنوات من التحاقه بالمدارس، أن يدير ظهره للنمط الذي استحدث ويسلك بطريقة اعتباطية، وعلى نحو مستقل تماما عن الاستجابات التي تعلمها، فأي مبرر يكون للتعليم عندئذ؟

مشكلة المسئولية القانونية : هناك نقطة أخرى للخلاف بين الحتمية واللاحتمية، مترتبة على الحجج المتعددة التي قدمناها الآن. تلك هي مسألة المسئولية القانونية والعقوبة القانونية. فحجة اللاحتمية في هذا تسير دائما على نحو يقرب من هذا: إذا كان الإرادة محتومة فعندئذ لا يكون هناك مبرر للعقوبة القانونية؛ إذ إن المجرم، الذي تتحكم فيه قوى خارجية لا سلطان له عليها، أو عوامل وراثية تحددت قبل ميلاده، لا يستطيع أن يفعل غير ما فعل. ومن ثم، فأية عدالة يمكن أن تكون للعقوبة تبعا للرأي الحتمي؟

على أن أنصار مذهب الحتمية لا يجدون صعوبة في الرد على هذه الحجة. فهم يشيرون أولا إلى أن هذه الحجة اللاحتمية ترتكز على فهم عتيق عفى عليه الزمان لمعنى العقوبة القانونية؛ إذ هي تفترض أن الغرامة، والسجن، إلخ، لها مقصد انتقامي؛ أي إن المجتمع يلجأ إليها لكي يثأر من المجرم. على أن هذه الفكرة الهمجية لا مكان لها في فلسفة العقوبة الحديثة المستنيرة، التي تجعل للعقوبات مقصدين : (1) حماية المجتمع عن طريق الحد من خطورة مرتكب الجرم، لا سيما إذا كان من معتادي الإجرام، وهذا يعني عادة نوعا من الحبس. (2) إصلاح مرتكب الجرم عن طريق إعطائه مجموعة جديدة من الدوافع، قد تكون مثلا عليا اجتماعية أعلى قيمة، أو (إذا اتضح أنه غير قابل للتأثر بهذه المثل) عن طريق الخوف الناتج عن تجربته الراهنة مع القانون. وهذا الهدف الثاني للعقاب؛ أعني هدف «إعادة التكييف»، هو الذي يحتل أهمية متزايدة في فلسفة العقوبة الحديثة. ومن الواضح أن مثل هذا الهدف يفترض التسليم بالحتمية؛ إذ إن السلوك البشري يرجع إلى عوامل معينة هي دوافعه، والقانون يتدخل لتغيير دوافع المجرم. ولو كان هذا كله وقتا ضائعا أي لو كان اللاحتمي على حق، وكان في استطاعة المجرم أن يسلك بطريقة اعتباطية دون نظر إلى العوامل المتحكمة - فكيف نفسر عندئذ ارتفاع نسبة المجرمين السابقين الذين ينصلحون وتستقيم أحوالهم؟ (5) الاختيار بين الموقفين

لا بد للقارئ، كما هي الحال على الدوام، أن يزن حجج طرفي هذا النزاع الكبير ثم يتخذ قراره الخاص حول ادعاءاتهما. والواقع أنه لا مفر من الاختيار بين الطرفين، ما لم نكن راغبين في السير في طريق التطرف إلى حد القول بمذهب القدرية. على أن الأرجح أن هذه الطريقة في التخلص من الصعوبة لا تلقى قبولا لدى الكثيرين؛ ولذا فسوف ننظر إلى المشكلة الحقيقية على أنها مشكلة التقابل بين الحتمية واللاحتمية.

Page inconnue